الرئيسية | فكر ونقد | التعددية الثقافية في الفلسفة السياسية المعاصرة | مريم الرئيس

التعددية الثقافية في الفلسفة السياسية المعاصرة | مريم الرئيس

مريم الرئيس

 

تقوم الهوية الثقافية بدورين أساسين، يتمثل الأول في خلق الشعور بالانتماء لدى أفراد المجتمع، باعتبار أنهم ينتمون لثقافة واحدة، بينما الدور الثاني يتمثل في إقصاء كل من لا ينتمي إلى هذه الثقافة السائدة، مما ينجم عن ذلك صراعات داخل المجتمع بفعل هذا التمايز، ويكون هذا الصراع قائما بين الأقليات التي تحمل ثقافة مختلفة، تشمل الدين والعرق واللغة والتقاليد والأعراف وغيرها، وبين تلك الثقافة السائدة التي بدورها تحمل موروثا ثقافيا معينا، لهذه الأسباب ظهرت التعددية الثقافية. وقد أشار الفيلسوف الكندي ويل كيميلكا وهو من بين أبرز المنظرين للتعددية الثقافية إلى انتشار الدولي لخطاب التعددية الثقافية، وقد وضع بدوره مشروعا هاما لبناء الدولة المتعددة الثقافات، وهاجم السياسات التي تنتهجها الدولة الأمة. فما هي التعددية الثقافية؟ وما هي الأسباب الداعية لظهورها؟ وما هو الدور الذي قام به الفيلسوف كيميلكا  لبناء الدولة المتعددة الثقافات؟ وما الدوافع وراء انبعاث الهويات الثقافية؟ وكيف يمكن للدولة أن تعترف بالأقليات وتقوم بدمجها داخل المجتمع دون أن يؤدي ذلك إلى تشظي الدولة وتهديد استقرارها؟

يلقى مفهوم التعددية الثقافية عدة تعريفات  ويعد من المفاهيم التي ألقت اهتماما كبيرا ، ولاسيما في الستينات من القرن الماضي حيث أصبح فكرة سياسية هدفها تحقيق المساواة والعدالة والاحتفاء بالتنوع الثقافي داخل المجتمع. ونبذ كل أشكال الإقصاء الذي يمارس على الأقليات. وهي بذلك تعد دعوة وسعي إلى الاعتراف الرسمي بالتمايز الثقافي داخل المجتمع. ويعرفها كيميلكا  بقوله أنها “الرؤية التي لا ينبغي فيها للدول أن تدعم وحسب تلك المجموعة المألوفة من حقوق المواطنة العامة المدنية منها والسياسية، والتي هي مضمونة أصلا في كل الديمقراطيات الليبرالية والدستورية، بل ينبغي أيضا أن تتبنى الدول مختلف الحقوق السياسية أو الجماعية. كما يقسم كيميلكا هذا التنوع الثقافي إلى تنوع قومي وتنوع إثني؛ ويقصد بالأول وجود أمم تتعايش داخل نطاق دولة واحدة، أما الثاني فهو ناجم عن الهجرة الدولية، التي تفضي إلى تكون جماعات اثنية داخل الدولة.

يفسر كيميلكا ظاهرة انبعاث الهويات الثقافية إلى السياسات التي تنتهجها الدولة الأمة، وتتمثل في فرض لغة وثقافة المجموعة المسيطرة على بقية السكان، ومن بين هذه السياسات التي تسعى إلى تحقيق هذا الهدف، يذكر منها كيملكا في كتابه أوديسا التعددية الثقافية: “تبني قوانين اللغة الرسمية والتي تعترف بلغة المجموعة المسيطرة على أنها اللغة القومية الرسمية الوحيدة، وبناء نظام للتعليم الإلزامي يقدم مناهج نموذجية تركز على تعليم  لغة وأدب وتاريخ المجموعة المسيطرة. هذا وبالإضافة إلى إنشاء نظام قانوني وقضائي موحد يعمل من خلال لغة الجماعة المسيطرة ويستخدم تراثها القانوني”.  هذه السياسات حسب كيميلكا تشكل خطرا وتهديدا على الأقليات القومية والمهاجرين ، بحيث تقوم هذه السياسات بتجريد  هذه الأقليات من هويتها ويتولد لديها الشعور بالخوف من فقدان ثقافتها. فتصبح الدولة الأمة هنا هي السبب وراء انبعاث هذه الهويات ، إذ تدفعها للوعي بكيانها الاجتماعي وبثقافتها. فتعمد الأقليات إلى الحرص على التمسك بخصوصياتها الثقافية وبهويتها، من خلال مطالبتها بحقوقها السياسية التي تتماشى مع هذه الخصوصيات، أمام الخيارات المحدودة التي تتيحها الدولة الأمة. يقول كيميلكا في ذلك: “مطالبة هذه الأقليات لحقوقها لا تدل بالضرورة على أنها قد أصبحت عدوانية ومتطرفة، بل من الأجدى النظر إلى مطالبها من زاوية كونها ردود فعل دفاعية تجاه التهديدات المؤثرة فيها والناجمة بفعل طبيعة مشروع بناء الأمة الأكثرية”. ولهذا يرى كيميلكا أن على الدولة الأمة أن تسعى إلى تغيير أساسها الفكري بما يتماشى وينسجم مع واقعها الثقافي والمجتمعي، إذ يقول: “فبغض النظر عن مدى قوة التزام الدولة بحقوق الإنسان، المدنية منها والسياسية، فإن الأقليات لن تشعر بالأمان ما لم تتخل الدولة نهائيا وبصورة صريحة عن أية نية في انتهاج تلك الأشكال من سياسات بناء الأمة، مما يعني ذلك في حقيقة الأمر، وجوب قيام الدولة بالتخلي نهائيا عن طموحها في أن تصبح دولة-أمة، وأن تقبل بدلا من ذلك بفكرة أنها ستبقى دائما دولة متعددة الأمم”.

أما عن ظهور التعددية الثقافية فقد تم في نطاق ليبرالي، ومرت بمرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى تسمى بمرحلة التعددية الثقافية التقليدية، أما المرحلة الثانية فتسمى التعددية الثقافية. امتدت المرحلة الأولى إلى غاية القرن 19، حيث كانت النزعة الأحادية الأخلاقية القائلة بالمساواة المطلقة بين البشر، حاكمة لطروحات الفكر الليبرالي، وقد كان الليبراليون الكلاسيكيون يقولون بمركزية العقل، واعتمدوا عليه لصياغة رؤيتهم حول حياة كريمة تليق بجميع البشر، حيث يتم إخضاع البشر لنموذج واحد يستند للعقل، ومعنى ذلك أن التعددية الثقافية التقليدية ركزت بشكل كبير على التباينات بين الثقافات، واغفلت الاهتمام بالتباينات داخل الأمة الواحدة. لكن هذا التوجه القائم على فكرة الأحادية الأخلاقية سيعرف تراجعا كبيرا مع بروز التوجه التعددي في الفكر الليبرالي، والذي يمثله كل من مونتسكيو وهيردر وفيكو، حيث قالوا بفكرة أن البشر ينتمون لثقافات مختلفة، ولمجتمعات تعمل على تشكيل شخصيتهم وهويتهم، فلا ينبغي إخضاعهم لنموذج واحد. أما مرحلة التعددية الثقافية، فقد ظهرت خلال الحرب العالمية الأولى مع هوراس كولين، القائل بفكرة أن الديمقراطية هي السبيل الوحيد لإعطاء كل جماعة الحق في التمسك والحفاظ على خصوصياتها الثقافية. وقد بنى فكرته هذه على أساس أنه يستحيل توحيد الناس بيولوجيا، وتماسك المجتمع ينبني على تطابق المصالح الاجتماعية لا على تطابق الصفات الاثنية. ولهذا يرى كولين أنه يجب على كل حضارة أن تحتفي بالتنوع الثقافي، وتعترف بالجماعات المتمايزة ثقافيا داخل المجتمع، كونها تشكل جزءا من هذا المجتمع، وللحفاظ على استقراره ينبغي إعطاء الحق لهذه الجماعات في أن تظهر ويتم دمجها داخل المجتمع عوض إقصائها.

وقد بنى كيميلكا مشروعا يهدف لبناء الدولة المتعددة الثقافات، يتمثل في رؤيته لضرورة الإندماج في إطار مؤسساتي بعيدا عن التقاليد والأعراف والدين، حيث تتمكن كل أمة من الحفاظ على خصوصياتها داخل الأمة الواحدة، و تتعايش الأقليات مع الأغلبية، من خلال تكيف الأقليات مع بعض الخصائص التي تتسم بها الثقافة السائدة، كاللغة الرسمية والمشاركة في بعض المؤسسات العامة، ومن جهة أخرى تعاون الأكثرية مع الأقليات وتوسيع نطاق الحقوق الممنوحة لها. إضافة إلى  تأكيده أن اقتسام المبادئ السياسية أمر غير كاف لاستمرار الوحدة السياسية، ويرى أن نشوء الهوية السياسية هو الدافع وراء تلاشي وتشظي الدولة، حيث تتوحد هذه الجماعات وتكون هوية سياسة خاصة بها، وتعززها فتنفصل بذلك عن الدولة، ولتفادي هذه الأمور يرى كيميلكا أن الحل الأنسب هو الاندماج المؤسساتي، أي تعزيز التنوع الثقافي عن طريق مجموعة من المؤسسات التي تهدف إلى تعليم الناس التعايش فيما بينهم بالرغم من وجود فروقات  اثنية. وبذلك فإن تعزيز التنوع الثقافي مؤسساتيا يفضي إلى التعايش والانسجام بين الجماعات مع حفاظ كل جماعة على خصوصياتها الثقافية

تعليق واحد

  1. شكرا جزيلا مريم. مقال جميل مع العلم أنه يحتاج بعض الإضافات. أود أن أترجمه إلى الفرنسية بعد موافقتك طبعا. شكرا.

أضف رد على نبيل إلغاء الرد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.