الرئيسية | فكر ونقد | إدوارد سعيد والاستشراق | منح الصلح

إدوارد سعيد والاستشراق | منح الصلح

أطلق موت الأستاذ الجامعي الفلسطيني الأصل والأميركي الجنسية ادوارد سعيد موجة من الحزن والاهتمام الواسع، ولا سيما في أوساط مثقفي العالم، بأعماله الفكرية والأدبية المميزة. وكان واضحاً أن الرجل ترك تأثيراً عميقاً في الحياة الأكاديمية الأمريكية قل أن حظي به غير أميركي الأصل في القارة الجديدة المزهوة بنفسها من بين كل قارات الدنيا.

ولا شك أن معظم كتابات الرجل تستحق الاهتمام، وكذلك أخلاقيته وجرأته وانسجامه مع القيم التي يؤمن بها. ولكن ما ظهر بعد مماته هو أن الكتاب الذي استولى به على عواطف وعقول الغربيين قبل الشرقيين، وخاصة الأميركيين، هو كتابه الشهير عن الاستشراق. إذ أنه اختار فيه تشريح إحدى المؤسسات العلمية الغربية الأكثر احتراماً في الغرب وهي الاستشراق الذي عمل تحت لوائه عدد كبير من العلماء والباحثين الأميركيين والأوروبيين وأنتجوا عدداً من الكتب والمؤلفات المتصفة في أكثرها بالجهد والابتكار. كذلك أثار سعيد الاهتمام بصدقه في تعرية الاستعمار وتبيان مظالمه في البلاد التي حكمها. هذا بالإضافة إلى تمكنه النادر المثال في التعمق في كل موضوع تناوله.

ولكن يبقى لافتاً للأنظار بالدرجة الأولى كتابه عن الاستشراق الذي كان فتحاً أدبياً وفكرياً وعلمياً في زمانه. ومنذ صدور هذا الكتاب تربع ادوارد سعيد في الولايات المتحدة بالذات على كرسي الألمعية والصدقية والفاعلية معاً.

ما سر الأهمية الخاصة التي حصل عليها الرجل في الغرب والتي ندر أن حصل عليها مفكر أو كاتب شرقي؟

السر هو أن ادوارد سعيد بكتابه “الاستشراق” اختار الموضوع الذي يشكل مادة افتخار للأوساط الأكاديمية الغربية. منها هنا الغرب، أميركا أساساً وأوروبا أيضاً، يتعاطف مع بلدان متخلفة عنه ويضع وسائله العلمية في الكشف عن حقائقها وأحوالها وعاداتها وإنتاجها. إذاً بمعنى من المعاني هو يهتم بها وبأحوالها وقيمها، وبالتالي يعلي في مفهومه من قدرها، اذ يكتشف أن لهذا الشرق نظاماً فكرياً واجتماعياً ودينياً وأنه أعطى البشرية أشياء أخرى غير الأديان التي هي من صنع الله وحده وليست من صنع البشر، فلا أحد يستطيع أن يتباهى بها على آخر.

غير أن الانفجار الذي أحدثه ادوارد سعيد في العقل الغربي هو أنه بكتاب “الاستشراق” بالذات، أشهر كتبه وأكبرها أثراً، دخل هذا العقل وسجل عليه ملاحظات هامة وكثيرة تدينه بعدم الصدق الكامل مع قيم الموضوعية والنزاهة الفكرية والأخوة الإنسانية. وكان بارعاً وناقداً وصريحاً في إظهار التحايل الذي كان يتصف به عقل المستشرقين عندما يكون الأمر يتطلب الانسجام الكامل مع النفس ومع الحقائق الموضوعية. فالمستشرق كثيراً ما يتحايل، عن علم منه أو غير علم على الحقائق، إن لم يكن في الجوهر دائماً فبالشكل، وهو نوع من التزوير في رأي ادوارد سعيد ينافي مفهوم النزاهة العلمية.

بحسب ادوارد سعيد أن المستشرق يرفض في داخله في بعض الأحيان، إن لم يكن في كلها، أن ينطلق من أن الشرقي مثل الغربي تماماً، وأن القيم المطلوبة من الغربي في التعامل مع الغربيين هي نفسها القيم التي يجب أن تسير الغربي في التعامل مع الشرقيين. ففي الخلفية الأخيرة في عقل المستشرق امتياز للغربي وتمييز ضد الشرقي وكأنه في مكان ما من عقل يكمن اعتقاد بصحة القول القديم لكيبلينغ: “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا”، أو حتى بمقولة مونتو سكيو الشهيرة بأن ما هو حقيقة في هذا الجانب من جبال البيرينيه هو باطل في الجانب الآخر.

خصوصية ادوارد سعيد الأساسية هي أنه بتناوله موضوع الاستشراق، أخذ الحقل الذي غالبا ما تصوره وسائل الإعلامي الغربية بأنه تعاطف مع الشرق وحدب على همومه وحاجاته وتفهم لقضاياه فكشف أن الاستشراق نفسه، على علميته وموضوعيته في كثير من الحالات، لا يسير دائماً إلى النهايات المنطقية الصافية المفترض أن توصله إليها الرؤية العلمية الخالصة.

ليس المستشرقون بالطبع خدماً للسياسة ورجالها، وكعلماء يفترض فيهم إلى حد بعيد شيء من التجرد، إن لم يكن كل التجرد. وبعضهم يعتقد مخلصاً، صواباً أو خطأ، أنه متجرد. ولكن مع ذلك يبقى أن ادوارد سعيد ذهب في موضوع الاستشراق الذي اختاره لكتابه الهام بل الفريد إلى المجال الذي يعتبر الغربي نفسه فيه متجرداً بالكامل، بل معطياً، بل سخياً، ليكشف قصوراً عن الموضوعية أو حيدة عنها أو مداورة لها أو عجزاً عن الشهادة الحرة الكاملة أو تمييزاً للذات أو خبثاً أو نظرة متعالية.

وفي حين أن المستشرق يعتبر نفسه أحياناً ذاهباً حتى آخر الشوط في حب الشرق، ولو لأنه اختاره موضوعاً لاهتمامه فحسب، فإنه كغربي ظل بإرادة، منه أو غير إرادة متأثراً بطبقية معينة يعيشها، وبالتالي عاجزاً عن الموضوعية والعلمية والنزاهة الخلقية بشكل كامل. وهكذا يتناقض الغربي المستشرق، إلا في حالة هي أندر من النادر، مع قولة الحق كاملة في الشكل والمضمون معاً.

باختصار قبض ادوارد سعيد على الغربي وهو يقنع نفسه أنه بالاستشراق ذهب في العطاء للشرق إلى آخر الشوط، بينما هو يمارس بذلك، بمعرفة منه أو غير معرفة، عملية فكرية ناقصة النزاهة بالمعنى الكامل للكلمة، أي أن هناك عملية خبث قائمة، بوعي من المستشرق أو غير وعي.

كان المستشرق في ذهن الإنسان الغربي العادي والدوائر الغربية عادة هو عاشق الشرق الذي وهبه اهتمامه وعقله، وأحياناً عمره كاملاً. فإذا ادوارد سعيد يقدم هذا المستشرق على أنه، حتى وهو يشعر أنه صادق العطاء لموضوعه، مفتقر إلى النزاهة بمعناها الكامل، بل هو منحاز مرتين، مرة عندما زعم لنفسه التفوق على العربي الذي اعتبره موضوعاً لدراسته، ومرة لأنه خدم، بوعي منه أو غير وعي، مشروع الغلبة الحضارية لقوم على قوم.

كفارس علي وفكري باسل، نجح ادوارد سعيد في نقل الاستشراق كعلم من خانة العطاء الغربي للعرب والمسلمين إلى خانة تسهيل مهمة الحكام والماليين الغربيين في مشاريعهم الطامعة بأرض الشرق.

كان الاستشراق قبل ادوارد سعيد كنزاً غربياً يشعر به الإنسان الغربي أن معطي الآخرين تقدماً وحضارة، فإذا هو بعد ادوارد سعيد زهو على الشرق غير بريء ومنة غير نزيهة وقوة في يد غرب طامع بالمزيد من المكاسب.

وهكذا نجد أنه بعد الخسارة التي لحقت بالأمة العربية في مرحلة من أحرج مراحل حياتها بوفاة مفكر نادر المثال، تستمر الحملة على سياسة الرئيس الأميركي جورج بوش الحالية بأقلام عدد من الأساتذة الجامعيين في الولايات المتحدة ذوي الأصول العربية والفلسطينية تحديداً. أحدهم، بل في طليعتهم على سبيل المثال، الدكتور نصير عازوري الذي كتب مقالاً لافتاً في مجلة “المستقبل العربي” الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية يحلل فيه ببراعة وعمق ما سماه حروب بوش الوقائية. فهي في رأيه سياسة موروثة عن والده بوش الأب الذي ركز نظامه العالمي الجديد على مسائل ذات تأثير في الموارد الاستراتيجية كما حصل في حرب الخليج الثانية حيث أسس عرفاً استراتيجياً تحتكره القوة العظمى الوحيدة في العالم. إلا أن الأب لم يتخل عن الديبلوماسية لينصرف إلى حروب غير شرعية كما فعل ابنه الذي جعل الإرهاب بؤرة سياسته الخارجية.

ويقول صاحب المقال أن الإرهاب كسياسة ليس مستمداً من أحداث 11أيلول، وإنما هو يعود إلى أكثر من عقدين عندما كان المحافظون الجدد الذي يحكمون اليوم مع اليمين الانجيلي يعملون على إقناع الجمهور الأميركي بأن فرقة ليبية ضاربة دخلت الولايات المتحدة لتتعقب الرئيس ريغان خلال فترة رئاسته، وأن الحرب على الإرهاب، كما كان يقول ريغان، قد بدأت معه فعلاً وقد لا تنتهي في زماننا، ولكنها، والكلام له أيضاً، يجب أن تشن.

ويصف عازوري هذه السياسة بأنها تقوم على المثالية الويلسونية القديمة ممزوجة بفكرة الدحر الحالية لا فكرة الاحتواء التي كانت سائدة من قبل.

لكن النصير الحقيقي، في رأينا الذي تستعين به الولايات المتحدة في خطابها السياسي وفي تكتيكها العسكري والأمني داخل العراق والمنطقة العربية والإسلامية هو شبح صدام الموجود في الحسابات الأميركية أكثر مما هو موجود كواقع سياسي أو عسكري أو حقيقة فعلية. وهذه المفارقة جديرة بأن تكون موضع مساءلة: لماذا تريد الولايات المتحدة أن تصف كل شيء في المنطقة بأنه صدامي. الرجعيون صداميون والتقدميون صداميون، الملوك صداميون ونقابات العمال الشيوعية واليسارية صدامية، الإسلاميون والعلمانيون على حد سواء.

لو علم صدام قبل هذه الأيام أن أميركا تعتبره بهذا الحجم وهذا النفوذ لما غامر في مناكفتها أو رميها بوردة كما يقول التعبير الشعبي. فما سر هذا الحرص الأميركي على صبغ كل شيء وكل الناس في البلاد العربية والإسلامية بهذا اللون الداكن و”الإرهابي” حسب الكلمة الأميركية الدارجة، وماذا بالضبط تريدنا الولايات المتحدة أن نفعل كي تسقط عنا صفة الصدامية؟

مهما يكن الأمر، فإن السياسة الأميركية، حتى لو سلمنا بكونها غير عقائدية في سياسة العداء للمنطقة، لم تعط في غير العراق من الدلائل ما يدفع بعرب أصدقاء لملاقاتها في مواضيع أخرى في نصف الطريق. فهي في فلسطين قد تراجعت إلى حد بعيد عن الوضوح الذي كان في سياساتها حين كانت تؤكد أنها تدعم إقامة كيانين في فلسطين، واحد عربي وآخر يهودي.

أما اسم صدام فإنه الآن حتى إشعار آخر كلمة سر خفية تطلقها دوائر متعصبة ضد العرب والمسلمين في الولايات المتحدة وغيرها تحاول بها تجيش المشاعر ضد كل من يجسر من العرب على القول أن التعامل الأميركي والغربي معه يجب أن يأخذ في عين الاعتبار مصالح العرب وحقوقهم وقضاياهم، ولا سيما في الموضوع الفلسطيني. وكثيرون من العرب أنفسهم كانوا على استعداد لاتخاذ موقف إيجابي من الولايات المتحدة لو أنها أشعرتهم بأنها على استعداد لتعديل مواقفها في موضوع فلسطين باتجاه الإقرار بدولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب اسرائيل.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.