مثل يد
أطفئي عينيَّ، سأظل أراكِ.
صُمِّي أذنيَّ، سأظل أسمعكِ.
حتى بلا قدمين سأشقُّ دربي إليكِ،
وبلا فم سأذكر اسمكِ.
اكسري ذراعيَّ وسأضمُّكِ
بقلبي، مثل يد.
أوقفي قلبي وسيخفق دماغي،
وإنْ أضرمتِ في دماغي النارَ
سأشعر بكِ تحترقين في كلِّ نقطة من دمي.
***
من أجل أن تأتي يومًا
هذا النَفَس، ألم أغرفْه من مدِّ منتصفات الليالي
من أجل حبِّكِ، من أجل أن تأتي
إليَّ يومًا؟
وجهكِ، كنتُ آمل أن أهدِّئه
بروائع لم تَزَلْ صعقاتُها بكرًا،
عندما سوف يرتاح قبالة وجهي
في لانهاية ما أتكهَّنه.
كان فضاؤك يتغلغل من دون صخب إلى قسماتي،
ودمائي كانت تبرق وتزداد عمقًا
لكي تستحق النظرةَ العالية التي تشرق فيك.
ولمَّا كان الليل يسود أقوى، بكلِّ نجماته،
عبر التفرُّع الشاحب لشجرة الزيتون،
كنتُ أنهض وأنتصب وأرتمي
إلى الوراء، وأتعلَّم الدرس
الذي لم أدرك يومًا أنه درسٌ منكِ.
آه، يا لقوَّتها الكلمات التي انزرعتْ فيَّ،
كي، إذا حدثت ابتسامتك،
أنقل إليك بنظراتي فضاء العالم.
لكنك لا تأتين، أو تأتين متأخرة.
فانقضِّي، أيتها الملائكة، على حقل الكتَّان الأزرق هذا
واحصدي، احصدي!
***
أريد
أنا وحيد في العالم، لكني لستُ وحيدًا بما يكفي
لكي أجعل كلَّ ساعة مقدَّسة.
صغير أنا، لكني لست صغيرًا بما يلزم
لأقف أمامك كشيء
معتم ولاذع.
أريد تصميمي، وأريد أن أكون مع تصميمي
إذ يتجه نحو الفعل،
وفي اللحظات الساكنة والمترددة
التي يقترب فيها كلُّ بعيد،
أريد أن أكون مع ذوي الحكمة –
وإلا فلأكن وحيدًا.
أريد أن أكون دومًا المرآة
التي تعكس كيانك
وألا أكون يومًا أعمى أو مسنًّا
أعجز من أن يحمل صورتك الثقيلة المترنحة.
أريد أن أنبسط وأتجلَّى
لا أن أظلَّ مطويًّا
لأني حيث أكون محنيًّا ومطويًّا، كذبةً أكون –
وأنا أريد معناي صادقًا من أجلك.
أريد أن أصف نفسي
مثل لوحة درستُها
عن كثب وقتًا طويلاً،
مثل كلمة فهمتُها أخيرًا،
مثل إبريق الماء الذي استخدمه كلَّ يوم،
مثل وجه أمِّي،
مثل سفينة
عبرتْ بي
أفظع العواصف.
***
نافذة
يا نافذةً نبحث عنها غالبًا
لكي نضيف إلى الغرفة المحسوبة
كلَّ الأرقام الكبيرة غير المروَّضة
التي يُضاعِفُها الليل.
يا نافذةً كانت تجلس في ما مضى عندها
تلك التي، في حنان كلِّي،
تقوم بعمل بطيء يحني
ويشلُّ.
يا نافذةً تنبت لها صورةٌ
نُهِلَتْ من الإبريق الشفاف،
أنت زردة تغلق
حزام رؤيتنا الواسع.
***
أغنية المنتحر
طيب، مهلكم لحظة،
هم دائمًا يسلبونني الحبل
ويقطعونه.
في الآونة الأخيرة كنتُ مستعدًّا حقًّا
وكان ثمة قليل من الأبدية
في أحشائي.
أمسكوا الملعقة من أجلي،
هذه الملعقة التي آكل الحياة بها.
أريدها ولا أريدها،
فدعوني أستسلم وأتقيأ.
أعرف أن الحياة كاملة وصالحة
وأن العالم يشبه طبقًا مليئًا،
لكنه لا ينسرب إلى دمائي
بل يصعد فورًا إلى رأسي.
هو للآخرين غذاء،
أما أنا فيثير اشمئزازي فحسب:
وطوال ألف سنة على الأقل
سوف عنه أصوم.
*** *** ***
ترجمة: جمانة حداد
رينيه كارل فيلهلم يوهان يوزيف ماريا رايلكه الشهير بـ راينر ماريا ريلكه (4 ديسمبر 1875 – 29 ديسمبر 1926) شاعر نمساوي – بوهيمي/ رومانسي / حداثي، ويعد واحدًا من أكثر شعراء الألمانية تميزًا. ركّز في شعره على صعوبة التواصل في عصر الكفر والعزلة والقلق العميق، وهي المواضيع التي وضعته كشخصية انتقالية بين الشعر التقليدي وشعر الحداثة.
أشهر أعماله بين قراء الإنجليزية هي “مرثيات دوينو” (بالإنجليزية: Duino Elegies)؛ أما أشهر أعماله النثرية فهما “رسائل إلى شاعر شاب” (بالإنجليزية: Letters to a Young Poet) والسيرة شبه الذاتية “مفكرات مالتي لوريدس بريجي” (بالإنجليزية: The Notebooks of Malte Laurids Brigge). كما كتب أكثر من 400 قصيدة بالفرنسية، في حب موطنه الذي اختاره في كانتون فاليز في سويسرا.
يسمُّونه الشاعر الذي قتلتْه وردة!؛ ففي أحد صباحات تشرين الأول من العام 1926، خرج ريلكه إلى حديقة مقرِّه السويسري لكي يقطف، كعادته، بعض ورودها. لم يكترث عندما جَرَحَتْ يدَه إحدى الأشواك، ولم يَخَفْ حين ظهرت لديه في المرحلة نفسها بوادر اللوكيميا. استسلم بعد أقل من شهرين ووافته المنية.