الرئيسية | سرديات | أحلام صغيرة : ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي -فرنسا

أحلام صغيرة : ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي -فرنسا

حنان الدرقاوي

 

رشت أمي قنينة “فليطوكس” (مبيد حشرات) على رأسي. أحاطتها بخرقة متسخة وانصرفت إلى البئر لتسقي الماء. تركتني في البهو المظلم. قالت وهي تسحب الدلو:

_ اديقيم ديكم شوي  نفغ سالعلوا انزرو (يبقى في رأسك قليلا وبعدها نخرج للزقاق للتفلية. رأسك مليء بالقمل. تعبت من التفلية).

كانت رأسي دائما مليئة بالقمل والبتور. أتعبت أمي من كثرة الفلي بأصابعها الخشنة التي أتى عليها “الإغزيما” لهذا صارت ترش الفليطوكس لضمان نتيجة أفضل في الحرب الطويلة الأمد ضد القمل التي تقودها أمي ونساء القرية.

أنظر إلى أمي تملئ آغا، (السطل المطاطي الأسود). تملئ القلل لنشرب وتملئ أواني الخروف والنعجة. نحن محظوظون لأننا نتوفر على بئر. هناك أناس في القرية يذهبون إلى الساقية من أجل الماء.

نخرج للزقاق، هناك نساء أخريات مقرفصات. منهن من تطحن الشعير أو عظام الثمر لعلف البهائم وهناك من مثل أمي تبحث عن القملات في رؤوس الأطفال المتسخين. معظم النساء وحيدات فالرجال غادروا إلى المدن من أجل العمل أو الدراسة مثل أبي الذي سيصير مفتش تعليم وسيحملنا معه إلى المدينة.

كنت أحس بنفسي مختلفة عن الأخريات، سأذهب إلى المدرسة وسأصير معلمة أو مفتشة مثل أبي. حين سينهي أبي دراسته سيعم الخير وسننعم بمتع العاصمة، بالأشياء التي أراها في كتاب أخي. أشياء من قبيل ضوء الليل والماء الذي ينزل من شيء غريب معلق في الجدار. ستنتهي حياة الحرمان ونأكل المربى كل يوم والموز أيضا. في الوقت الحالي نأكل الموز مرة في الشهر حين تذهب أمي إلى المركز لتصرف “الماندا” (الحوالة) التي يبعثها أبي كل شهر، تتركنا أمي في عهدة عمتي وتذهب في الصباح الباكر إلى “تنجداد” المركز وتعود بالموز وبعض المال نصرف منه حتى ينتهي الشهر. حين تنصرف أمي تضع عمتي أخي الأصغر على ظهري وفي كل مرة يعضني ويترك آثار أسنانه على كتفي. أقف أمام البيت وأنتظر عودة أمي. أتخيل منظر الموز وقشرته الصفراء المبقعة ببقع سوداء غالبا ما يصل الموز مبقعا إلى تنجداد. اعتقدت لزمن طويل أن الموز به دائما بقع سوداء. فهمت فيما بعد أن أمي تشتري الموز المبقع لأنه أرخص ولكنه فاسد. لم نكن ننتبه لفساد الموز بل نلتهم الحبات دفعة واحدة. كان نصيب كل واحد منا نصف موزة. كان وليمة حقيقية ننتظرها لشهر كامل. نقضي الباقي من الشهر في التفكير فيه وفي طبق الطاجين باللحم الذي تعده أمي في اليوم الذي تصرف فيه الحوالة. بسبب الجوع كانت كل أفكارنا تدور حول الطبخ، نتخيل أطباقا لا نأكلها ونقشر الموز في الخيال ونضع كميات هائلة من المربى فوق قطع الخبز الساخنة الخارجة لتوها من الفران. نتلذذ بها ونحادث بعضنا البعض عن مذاق الأكل في انتظار الأم.

حين تعود أمي نتحلق حولها ككتاكيت الدجاجة. كانت أمي تسرع في إعطائنا قطع الموز وتنصرف مسرعة لتعطي جدتي نصيبها من الحوالة. كان علينا أن نقتسم المال معها كي لا تشتعل غضبا وتسخط على الجميع. كان أهل أبي معدمين وكان أبي يعولهم. كرمه هذا كان يضيق علينا وجعل حياتنا فقيرة مثل باقي أناس الواحة ولا نبدو في شيء أطفال معلم سيصير مفتشا.  لم يكن هناك من فائدة في طلب مال أكثر من أبي فهو يعتبر ماله له وهو الذي يتصرف فيه كما يحلو له.

تعود أمي من عند الجدة وفي عينيها آثار بكاء. لا شك أن اللعينة سممت بدنها بكلامها البذيء. لم أكن أفهم لماذا تسيء  إليها وهي تقتسم معها الحوالة. أمي لا تشتكي من شيء ولا تعرف أن تدافع عن نفسها. تعض على شفتيها، تزيل جلبابها وتنصرف إلى المطبخ لتعد الطاجين على البوطة الصغيرة الموضوعة على الأرض. كنا نلاحقها بأعيننا وهي تزيل الورق الأزرق عن قطعة اللحم المبجلة، تشرملها وتضع عليها البهارات، تضع الكل في الطنجرة وتقطع البصل والطماطم والمعدنوس وتضع الزيت. نبقى في المطبخ لنمتلئ برائحة قلي اللحم. كنا نعرف أن نصيبنا منه سيكون قليلا لكن رائحته كانت تكفينا ونكاد نشبع. كنا نعيش وشعور كبير بالجوع يضغط على معداتنا ورؤوسنا.

تضع أمي الماء على الطاجين وتقشر القرع وتغسل الفلفل الحار. تضعهما على اللحم. تغلق الطنجرة وتدعونا إلى طقس آخر ننتظره.

ندخل غرفة الجلوس. تفتح أمي الراديو. تعد شايا وهي تغني مع حادة أوعكي. تطيل الوصلة و تنظر إلينا ونحن هادئون نحملق بعيوننا في الفراغ. كانت تطيل انتظارنا إلى أن نيأس تماما. بعدها تخرج الكيس من صدرها: كيس الكاوكاو. كان الكاوكاو حفلة في حياة الجوعى. نضغط على حباته ونطيل بقائها في أفواهنا. كان طعمه المقلي والمملح خارجا من الجنة. كنا ننعم به هو أيضا نادرا وكان غالبا مخصصا للضيوف.كنا نحرج أمي أمامهم حين نرتمي على الحبات ونزدردها في أقل من ثانية قبل أن يمد الضيوف أيديهم.

نشرب الشاي مع أمي، أنتبه لكل التفاصيل، لابتسامتها ولنشيجها مع حادة أوعكي وللحزن الذي يعتري وجهها  وهي  تغني لماذا أمي حزينة؟

إنه الفقر والوحدة من يحول الأجساد مضغة أحزان. فقر الواحة وفقرنا بدون أب في البيت يرعى مصالحنا.

  كانت أمي امرأة بدون سند فأبوها لا يهتم لحالها وحتى أنه لم يزرنا قط. أخوالي بعيدون في مدن أخرى لهذا كانت أمي مضغة في فم الذئاب أبي وأسرته.

كنت أحلم أن أكبر وأن أحمي أمي، أن أنقذها من قدرها البائس. لم أكن أعرف كيف لكنني فهمت أن المدرسة ستساعدني في إنجاز مهمتي لهذا قررت باكرا أن أستوعب كل شيء في المدرسة. سأجتهد وأعمل وأجعل أمي ملكة تتربع على عرش البيت، سأساعدها في أشغال البيت ولن تتعب حين أكبر كما أراها تتعب كل لحظة في واحة الشؤم هاته. كان إنقاذ أمي  هو مهمتي الأساسية على وجه الأرض. لم أحلم بالملابس ولا بالمجوهرات ولا بفارس على جواده. حلمت أن تنبت لي أجنحة وأختطف أمي وأمضي بها بعيدا عن قدر الفقر والتعب. لن تجوع مثل الآن، لن تشقى. سأشتري لها كل ما تريده وسأجعلها أجمل النساء. كانت فعلا أجمل النساء بيضاء البشرة، فمها دقيق وعيناها جميلتان رغم الحزن الذي فيهما.

كنت أحلم أن أشتري لها قطع فضة لتزين به عقد المرجان الذي بعنقها. لم يكن يليق أن تلبس ذلك العقد بدون قطع فضية تزينه. كانت تفتخر بعقد المرجان كان ذلك حليها الوحيدة. كنت أنظر إلى ذلك العقد الأحمر في عنقها وأود أن أندس في صدرها. ألمس العقد وأشم رائحتها لكنها لم تكن تسمح بعناقها. لم تكن تعانق أحدا من أطفالها. كانت منكمشة على ذاتها وعلى حزنها الشديد.

حين سأكبر سأشتري لها فضة. كنت أفكر متى سيحصل ذلك حين عاد أبي من المدينة. صرف أمواله على أصدقائه وعلى الخمر والدخان.

عاد أبي إلى المدينة وغاب العقد من عنق أمي. هل أتلفت العقد؟ هل خبأته؟

بحثت في الدولاب ولم أجده إلى أن أتى اليوم الذي سمعت فيه أمي تحكي لابنة عمها أن أبي أخذ منها العقد وباعه كي يتمكن من السفر.

لماذا يا أبي عريت عنق أمي؟  لماذا تحرمني من منظر العقد في عنقها؟. ألم يكفيك جوعنا وعراؤنا في واحة قاسية؟

حين انصرفت ابنة العم، هرولت جهة أمي وقلت لها واثقة:

– سأشتري لك العقد يا أمي سنذهب إلى المدينة سأدرس وأشتغل وأشتري لك العقد الذي باعه ذلك الحقير.

كان بيدها سعف نخلة هددتني به وهي تصيح :

“ماذا تقولين يا سيئة الذكر تذكرين أباك بالسوء أنت الحقيرة يا ذميمة ولن تكوني أبدا ذات شأن يوما. أبوك له الحق في أن يبيع العقد ويبيعني إن شاء أغربي عن وجهي يا سليطة اللسان أغربي فأبوك على قلبي بلسم ولا شأن لك بنا.”

عرفت يومها أننا لا يمكن أن ننقذ من لا يود ذلك، من يحب حبسته.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.