الرئيسية | سرديات | من سرق الـموز؟ | منصف القرطبي

من سرق الـموز؟ | منصف القرطبي

منصف القرطبي

 

الدالة الأولى: على الرصيف

“وداااااااو الـميزانيّة.. وداااو كـلشي. ولاد ل…وعّ..وعّ..وعّ…”

 قالها الأحمق وهو يتـمـايل على الرصيف…

“وا تعالوا هالْـبنَانْ رخيصْ…ها لبنان رخيصْ.. وزيدو مابقاشْ…”

لم تبارح هذه الـجملة شفتيْ صاحب العربة الـمنشغل بالكم الهائل من العابرين الراغبين في شراء الـموز. يتوقّف قرب ذيل العربة رجل ثلاثيني أسـمر، ذو لحية كثة، بمظهر بائس لا يثير أدنى تخوف. يرمق موسى بين الفينة والأخرى. يخطف نظرات وقـحة. فيـمـا يستقبل موسى تدفق النّاس ويكيل الـموز بالثـمن الذي أراد. الشيء الذي جعله يهمل مؤخرة العربة…
كانت خراطيـم من الأصوات تنـهال عليه، فصار يلوّح بيديه ويرغي ويزبد. إلا أن الرجل الأسمر استغلّ سهو موسى فـجعل يملأ  كيسا بلاستيكيا بالموز، ثم مشى بعدها أربع خطوات فهرول بسرعة حتى ابتلعته الأزقّة…
الدالة الثانية : إشارات الـمرور
حينـمـا تأكّد أنه ابتعد عن أنظار بائع الموز، أخذ قسطا من الراحة قرب شجرة من الكالبتوس، وجعل يملأ رئتيه بالهواء النقيّ. بعد هنيهة، سار على جنبات رصيف الـمدينة. أمسك الكيس البلاستيكي. أخرج موزا وانغمس في التهامه وافتراسه بشراهة. رمى القشور على ناصية الشارع. حتى إذا اقترب من مفترق الطرق، لفت انتباه  الدركيّ الذي يقف هناك. رآه ثم تقدم نحوه بخفة ورشاقة، بادره قائلا  :
-لا ترم القشورَ عَلَى الأَرضْ فـِي الـمرَّة القادمة، وإلا أخذتُكَ حيثُ القُشُورُ تُرْمَـى.. أُحَذّرُكَ.. ابْتَعِدْ مِنْ هُنَا… ابْتَعِدْ !
أكـمل سيره، وانخرط من جديد يلتهم الـموز ويرمي القشور. مر رجل فانزلق وفقد التوازن ثم سقط أرضا. نزف الدم من ساقيه ويديه. حينـمـا هرول الرجل الأسمر مبتعدا عن تلك الرقعة رآه أحد الـمـارين فتوجه دون سؤال صوب شرطيّ يقف وسط الشارع. أشار إلى الرجل الذي تسبب في سقوط العجوز، فركض خلفه فأمسكه من قفاه، ثم استدار فسأله:
-عْلَاشْ كَتْلُوحْ لْقْشُورْ فِي الطْرِيقْ يَا وْلْدْ لْق… وَاشْ نْتَا بْنَادْمْ ولَّا حَيَوانْ. رَاجْلْ كَدّ بَاكْ طَيّحْتِيهْ لّارْضْ غَتْمْشِي تْرْبَّى يَا الْجْلُوفْ..تْفُو.. يَلَّاهْ زِيدْ !

بصق على وجــهه..

اختلجه شعور رهيب.. لم يحرك شفتيه للوهلة الأولى. وبعد برهة همس في خوف :
-كَانْ فِيَّ جُّوعْ، وما بَانْشْ لِيَ..مَابَانْشْ لِيَ الطًّارُو !
-امممْمْ مَبنْتْشْ لِيكْ أَنَا..زِيدْ كُدَامِي..زِيدْ..يَا لْكْلْبْ !
يصفعه على قفاه كل ما توقف عن السير، يـمسكه في الأخير من يديه بالإسار…
الدالة الثالثة: مركز الشرطة
هناك أخذوه وسألوه :
-لماذا رميت الـموز على الأرض؟؟
-أنا لم أسرق أي شيء…
-أي سرقة تقصد؟؟
-أتحدث عن الموز. عفوا لم أرم الـموز بغية إسقاط العجوز…
– إممم أنت لصّ ؟ ولماذا إذن؟؟
– …بغية إسقاط تلك الفتاة التي لا تقف حينـمـا ألوح لها بيدي كل يوم…
هذه تهمة ستضاف إلى تـهمك الأخرى :
سجل :
“…وزيادة على تهمة رمي الـموز على الطريق…
فقد تبث أنه يعربد ويتحرش بالفتيات….”
بعد برهة، دخل بائع الـموز إلى مقر الشرطة، التحق به الـمواطنون الذين قدموا شكاية في حقّه، ثـم تلاهم العجوز الذي سقط أرضا. جلسوا على الكراسي. طلب منهم العميد الإدلاء بشكاياتهم :
بائع الموز :
“فيـمـا كنت أكيل الـموز وأبيع الكيلوغرام الواحد بدرهمين. لم أنتبه إلى رجل سرق صندوقا من الموز ولم أره.  لكن أخبرني أولادْ الناس بذلك. وأنت تعرف يا سيدي أن الخسارة كبيرة.. كبيرة جدا…صندوق من الموز يا سيدي. الـمرجو البحث عن اللص… ”
الزبناء :
“يا سيدي العميد، لقد اشترينا الـموز من لدن بائع الـموز، فباع لنا الكيلوغرام الواحد بعشرين درهمـا، وهذا هو منتهى السرقة، إنّـهـا السرقة الحقيقيّة، السرقة التي لا تُغتفرُ ذنوبها أبدا. وحينـمـا أخبرناه أن الثمن باهظ جدا، قال أن السلعة غالية والصندوق الواحد يبلغ خـمسمـائة درهم.

يا سيدي لقد سألنا بائعا آخرا فاندهش وخبّرنا بالثـمن الحقيقي للكيلوغرام الواحد، وطلب منا التوجه إلى الشرطة. يا سيدي نريد استرجاع نقودنا.

إنه لصّ حقيقي، لصّ، لصّ حقيقيّ.. “

قفز الرجل الثلاثينيّ الأسمر على حين غرّة :

سيدي العميد. الحقّ أقول أنّني رميت الموز ولم يخطر على بالي أنّ الرجل سيسقط أرضا. ولا أخفيك سرّا أنني أخذت بعض الـموز من عربة بائع الـموز. وهذا ليس سرقة، فأنا جائع ولم أتناول الفواكه مذ أعوام. وليس في وسعي تأدية ثمن الـموز أو حتى الكرموس الهنديّ. كنت أعمل عند أرستقراطيّ من أبناء هذه المدينة، اسمه الفهري، نعم الفهري، كان يصفعني كل يوم، ويقمعني. اشتغلت حارسا لفيلا الفهري..مرّت شهور، لم أتقاضى راتبي الهزيل، باستثناء وجبة العشاء التي كنت أتناولها بسرعة. كلبه يلتهم اللحم كل يوم، ويعيش أحسن حالا منّي. وزيادة على هذا كلّه، فأنا مريض وأحتاج إلى مساعدات وإلى زوجة وإلى عمل شريف وإلى دواء وإلى حنان وعاطفة ووو….أنا لا أطالب بشيء كبير، عمل أضـمن به قوتي اليومي. وزوجة ألعب معها ليلا تلك اللعبة! وأنت تعلم يا سيدي كـمـا ترى الآن، أنظر إلى وجهي الشاحب وحالتي المهترئة. إنّني معذّب في هذه الحياة الق… إنني أخذت الـموز ولم أسرقه، فالسرقة ليست هكذا، وإنما السرقة هي السرقة الجماعيّة..سرقة الخزينة…”
العجوز :
يا سيدي أنت سيد العارفين بعقاب الظالـمين، وأنا من هذا المنطلق أخبركم بأنني سقطت بلا سبب، ولم تكن القشور سببا في ذلك. فقد هرمت يا سيدي كـمـا ترى، أنظر إلى رأسي لقد انتشر الشيب فوقه كما ينتشر الفساد في هذا الوطن. أنظر إليه، أنظر أرجوك!ولم يبق في قدرتي السير وحدي، لذلك أطلب منكـم السمـاح، فالرجل لم يكن السبب وراء سقوطي أرضا. رجلي مكسورة ولم أجد أي مساعدة من الدولة ولا البلدية ولا أبنائي…”
حينما سـمعه الشرطيّ تصبّب عرقا ثم طلب من مساعده أن يكتب :
“وزيادة على تهمة الاحتيال والكذب، فقد صرّح العجوز أنه هرم وبلغ من الكبر مبلغه، والسبب في سقوطه ليس قشور الـموز، وإنـمـا الإعياء والمرض، وقد أضيفت إلى ملفه تهمة الكذب على السلطة. أنّه قال لم يتلقى أي دعم. في ظل وجود مساعدات من صاحب السمو، ووزارة الصحة: الراميد..التغطية…

وجمعيات الـمجتـمع الـمدني.. وهو يبيع الدواء ويسخط على الـمجتـمع…”
وقّع :…..
أما بخصوص الرجل الثلاثيني الأسمر فهو بريء من التهمة المنسوبة إليه وبذلك سيخرج الآن، متـمتّعا بالحريّة اللازمة. نظرا لأنّه لم يسرق شيئا ذا بال وقيـمة. ونحن نراعي حالته الضعيفة بما أنّه اعترف و…
يصرخ بائع الـموز:
“وماذا عن حريّتنا…
أنا لم أسرق أي أحد..
ثـمن الـموز هو كذلك..
لقد اشتريته “جملة” من سوق خاص وبثمن مرتفع جدا…
والمسؤول عن السوق هو وزير الاقتصاد السيد البنّاني. لذلك فالـثـمـن إن ارتفع فهو السبب وإن انخفض فهو السبب…”
اقشعرّ بدن العميد. حدق في مساعديه وبالكاد أجرى اتصالا هاتفيّا، ثم بادرهم قائلا:
-اخرجوا جميعا لقد وصلتني رسالــــــــــــة عفو… !!

البرنامج العام :
” على الرصيف
إشارات المرور
مركز الشرطة ”
فـي اليوم الموالي، سأل أحدهـم الـموز قائلا :

أخبرني أرجوك، من سرقكَ..من سرقَكَ يا أيـُّـــهـا الـموز؟؟؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.