الرئيسية | أدب وفن | الفن | من تطبيقات التحليل النفسي على السينما قراءة في فيلم العطر .. قصة قاتل | يوسف عدنان

من تطبيقات التحليل النفسي على السينما قراءة في فيلم العطر .. قصة قاتل | يوسف عدنان

يوسف عدنان – أستاذ باحث من المغرب

الورقة 1/2

تقديم

شغل فيلم “العطر .. قصة قاتل” حيّزا هاما في السرديات السينمائية الألفية، ولوقي عند صدوره بحفاوة في دوائر النقد السينمائي والساحة الفنية الغربية عموما. وهو فيلم ألماني يجمع بين الدراما والفانتازيا والجريمة والتشويق، من إخراج “توم تايكور” ومن بطولة “بن ويشا” الذي لعب دور جان بابتست غرونوي، وأبرع في أداءه إلى حدّ الإتقان، إلى جانب ممثلين آخرين تركوا بصماتهم الإبداعية على الفيلم السينمائي.

 

وبحكم أن الفيلم الذي اخترنا مقاربته مستوحى من رواية عميقة حول الوضع الإنساني تحمل نفس الاسم “العطر” للروائي “باتريك زوسكيند” (1)، فقد ترامى المتخيل الروائي على السرد السينمائي وانعكس إيجابا في إنعاش السيناريو الفيلمي (2)، كما ألحّ على الصورة، بأن تبلّغ ما يعجز عنه السرد الحكائي القولي لوحده. فالفيلم عادة يعتمد على جذب المشاهد بصريا – من خلال الولوج إلى فضاء الصورة – قبل أن يتورّط عاطفيا أو ما شابه ذلك في مجريات الأحداث. بينما الرواية تحرُس على تعليق القارئ عاطفيا بكلّ حدث ليرسمه كما يشاء، فيتصوّره وفقا لحدود مخيّلته. وفي هذه المغامرة – أي نقل المحكي (الرواية) إلى المرئي (الفيلم) – استطاع المخرج أن يُبرهن أنّه من المخرجين المتمكّنين في إبراز الصور الفكرية سواء البشعة (الوحشية) أو الجمالية (المتسامية)، ورميها في معترك النظرة والتّمرئي والفتنة البصرية، باعتماد طريقة التمثيل السينمائي التجسيدي الذي يغذّي الاستفزاز الموفور في الصور، كفن تصويري جديد للوصول إلى الفكرة في الفيلم. ناهيك عن أن تيمة العطر قلّ ما جسدت في الفن السابع بالنظر لصعوبة تعامل الوسط الصوري معها (3).

 

تدور أحداث فيلم “العطر” في القرن الثامن عشر في فضاءات باريس وأيفرن ومنوبيلييه وغراس. ويجسّد الفيلم على امتداد ساعتين من الزمن، سيرة حياة جان بابتست غرونوي*، الشخصية الغرائبية المُنحدرة من عوالم باريس القاسية والمتملّكة لحاسة شمّ ما فوق إنسانية، جعلتها متفرّدة عن باقي جنس البشر فوق كوكب الأرض. ليؤسس هذا المشهد الميركلي( الإعجازي) بنيان الحبكة بأكملها – ويسمى في اللغة السينمائية مثل هذا النوع من المشاهد التي تحركّ دينامية السرد “حث الأحداث“.

 

يحيط بشخصية غرونوي كما سيطلع لنا من بين السطور، الكثير من الغموض والإبهام ممّا يترك للمشاهد والقارئ الناقد دهشة بناء الاستنتاجات وفسحة تضعيف التأويلات واستجلاء المعاني المُضمرة والمخبوءة ما وراء السرد و ما وراء الصورة. فمن الأبعاد الفلسفية التي يتضمّنها فيلم “العطر” والتي يُشهد ببراعة كاتبه في طرحها، تلك التي تحُوم حول تجربة الكائن مع جسده، وهل من الممكن أن يكون لرائحة الجسد نصيب من إثبات وجود الكائن والوعي بذاته كموجود في العالم؟

 

يسجّل على الفيلم تعاطيه المُبهر مع “حاسة الشم” التي هي في نهاية المطاف جزء من الجسد، ولذلك يتحقّق الفهم الشمولي والسّديد للحبكة انطلاقا من فكرة الجسد وكيف لبث مصدر ا حصريا للمعرفة بالعالم الخارجي، لا يمكن تجاوزه. لقد أعاد محتوى فيلم “العطر” الاعتبار للجسد وموضوعة الجسدانية، في حقبة لم يتخلّص فيها المجتمع الأوربي بعد من الموروث العقائدي الكنسي الذي يسفّل الجسد ويربطه بالخطيئة والفحش والدنس. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يأتي الفيلم على مشارف عصر الأنوار، مُستبقا بذلك الجدل الفلسفي الكلاسيكي بين الاتجاه العقلاني والاتجاه التجريبي، وأيهما أجدر الإستمساك به لبلوغ المعرفة، العقل أم الحواس، الفكر الخالص أم التجربة الملموسة.

 

يشتغل المخرج في سلسلة من المشاهد على لغة الجسد لذا البطل، يؤجل الخطاب والقول لصالح النظرة والحركة، فتظهر كيميائية الجسد وممكناته واستعداداته وقدراته ، ففي بعض اللقطات يصبح الجسد من يتكلم : عندما يقترب بالكاميرا إلى عيون البطل ويلج من خلالها إلى عالمه الداخلي. أو عندما يتوقف عند حالات تلعثمه وعجزه عن التعبير حينما يعجب بالموضوعات *.

 

بالعودة إلى النص السينمائي، تتلخّص مشكلة غرونوي في كونه غير معرّف، وحتى الآخرين من حوله لا تكاد تتحسّس وجوده، بل لا وجود له حتى برؤيته لنفسه أثناء استجاباته النكوصية المتملّصة من الألم والافتقاد. وتحت طائلة هذا النزيف النرجسي (الوجودي) بدأ بالبحث عن ذاته، عن رائحته، بعد أن أدرك أنه بلا رائحة تميّزه عن باقي الذوات الأخرى. إنه الجسد المنفيّ الذي يلازمه الغياب. هذا الخواء الجوهري المقدور على غرونوي أن يحمله، سيرسم له عالما كهوفيا تتخطّفه داخله هلاوس ووساوس لادغة ويتُوه في ظلاله المازجة بين الوهم والواقع، مستشعرا أقصى درجات التمزق الكياني و الاضطراب النفسي والعوز *.

 

إن رائحة الجسد تعدو شبيهة بتلك البصمة التي يتميّز بها كلّ إنسان عن غيره لإثبات هويته، والتي افتقدها غرونوي وسعى التعويض عن هذا الحرمان الذي يسِمُ وجودَهُ بطبيعة طيفيّة/شبحيّة، بتملّكه الرائحة البشرية المنبعثة من الأجساد الأنثوية العذارى تحديدا، ظنّا منه أن العطر المستخلص من الرحيق الإنساني – عبر عملية الاستشراب-  وحْدَهُ من سيضمن له رائحة لا تقاوم ولا تزول، تطرد عنه لعنة لا يتقاسم عبئها معه أي كائن بشري على وجه الأرض. فقد لا يخفى علينا أن للعطر دائما علاقة بالآخر، فالبعطر نجذب انتباهه ونجعله يقبلنا، وهذا أيضا ما ظنّه غرونوي عندما لاحظ أن الهدف من العطر المثالي الذي يبحث عنه، هو أن يكون مفعوله فاتنا وجذابا يفقد كلّ وأيّ ذات السيطرة عن نفسها وانفعالاتها. وبذلك سينتقل – في حركة سيكوبائية – من استخراج العطر من الأزهار (الرمز) إلى استخراجها من النساء (الأصل).

 

نمرّ في هذا التقديم على ذكر وجيز لتعليق الناقد السينمائي “روجر ايبرت” على الفيلم قائلا فيه: يبدأ فيلم “العطر” بنتانة الروائح المنبعثة من أماكن الصرف ويبقى مظلما وكئيبا و غامضا حيث أن سلب شخص من رائحته يعتبر قاسيا بشكل كبير، لكن الطريق الذي خُطّ في هذه القصّة يعتبر بشعا و مرعبا بكل تأكيد. بإمكاننا أن نقول أنّ غرونوي كان يُقاد نتيجة لظروف حياته وطبيعة روحه المزاجية، و يمكن أن يكون حسب الأساطير بيضة الشيطان التي لا رائحة لها كما يقال (4). وهذا المقصود يرمي له ضمنيا رهان السيناريو، الذي يتطلّع إلى اظهار شخصية البطل كحالة استثنائية تظهر في تاريخ البشرية وتُربك نظامها الجينيتيكي الوراثي. وبالتالي يضع العبقرية في ميزان الجنون، وتجاوز الحالة الطبيعية في تقابل مع الشذوذ، لتتسع دائرة الحوار الحامي الوطاس بين ما هو مألوف وما هو غريب في الكيان الإنساني.

 

يصوّر لنا المخرج في خضم تسلسل أحداث الفيلم، جهل وتخلّف المجتمع الفرنسي ما قبل التنوير، الماثل في إعطاء الناس قيمة لذوي النفوذ والجاه والسلطة والمال، واحتقارهم لباقي العامة إلى جانب استنزافهم واستعبادهم بشتّى الأشكال. يُكابد البطل في محو هذه النظرة الدونية التي تقلّل من شأنه وتأبّط عزيمته، ساعيا في المقابل انتزاع الاعتراف الجدير به. إن كلّ هذه الأفعال والممارسات السادية في حقّ غرونوي، بدت كما لو أنها تشلّ شخصيته وتثير مجموعة من العقبات –  يُطلق الناقد البريطاني جون يورك على هذه العقبات “القوى المعادية” –  وهي العقبات التي تعوق الشخصية المحورية في الفيلم أثناء سعيها لتحقيق ما تتمنّاه.

 

إن كانت الوردة بالنسبة للوقيوس (5)، تمثل رمزا يتمّ فيه تعويض الجمال المفتقد، فإنه لدى جان بابتست غرونوي نرى العقدة قد تضخمت بتجاوزه الرمز والتسامي مع الأصل (الجمال الإنساني)، وذلك بتدمير هذا الأصل كمحاولة تملّكه والسيطرة عليه. ونزعة التدمير لديه لم تتولد إلا بسبب اغترابه الشديد (6). ويفهم من منظور التحليل النفسي كيف أن الحرمان والاحباط الشّديدين اللذان أحسّ بهما وعاشمهما بطعم نفسي مرير، يغديان – كدوافع لاشعورية- بحثه الدائم عن تعويض متعوي مضاعف. ففي تعامل التحليل النفسي مع الحوافز، خصوصا تلك المخفية أو المتنكرة، إسهام في تفسير وتأويل الأعمال السردية، سواء تعلق الأمر بالسينما أو الرواية أو المسرحية (…) الخ. وقد تقوى هذا الإنشغال بالمناسبة بعد ظهور نظرية التحليل النفسي السينمائية (قبل نهاية الستينات).

 

لقد اختزل في حاسة الشمّ كل شيء عند غرونوي، من كلمات و مشاعر و أحاسيس و رغبات وذكريات و تخيلات  (…) الخ، ليصل به ولعُه تجاه التقاط وتخزين الرائحة البشرية النسوية حدّ الهذيان والهوس الاستحواذي والفيتيشيزم والنيكروفيليا « nécrophilie » ، واضطرابات نفسية وجنسية أخرى وقعّت كل واحدة منها على محطة من مراحل تطور الشخصية داخل السرد. إنّ كل هذه التشوهات التي لاطت ذات البطل، وشكّلت مرتعى للانحرافات السلوكية والرغبوية عن السجيّة الآدمية، لم تكن في نفس الوقت بدون طائلة، فقد استطاع غرونوي أن يخرج من هذه التجربة الوجودية في حالاتها القصوى بأفكار غنية وغير مسبوقة عن إمكانات الجسد والحواس، وجوهر الشيء، وواجهات الموت، والحياة اللاجنسية، والفراغ الرحمي الأمومي، ومحدودية اللغة، و تراجيديا اللاشعور.

 

يسوق غرونوي هذيانه لأن يرى في نفسه تحفة نادرة من صنف الجنس البشري يباركها حتى الربّ عَبْرَ راهبه، الذي اختار له اسم “بابتست” – أي المعمّد في القاموس الديني الكنسي- . هذه الرمزية الدينية المناطة بالاسم والتي يدّسها الكاتب بسبق نيّة في ثنايا السرد ستُثمر في القادم من الأحداث صورا لتجليات الرعاية الإلهية، تقرّبنا في مجموعها من صورة مركبة تستحوذ على مخيلة المشاهد، يكونُ فيها البطل جون بابتست غرونوي ملاك لكنه ترعرع في أحضان الشيطان. ومنه دعوة غير صريحة للجمهور لتعليق الأحكام حول المصير المبهم للبطل. ليتقاسم مع الشخصيات الدينية كالأنبياء والرسل شيئا من أسرار الموت والبعث. ومن أدهش الصور على هذا المنقلب تحوّل الفيلم في مشاهده الأخيرة إلى حكاية السيّد المسيح بشكل غير مباشر. حيث أن كافة العناصر توفرت: الصليب، البعث، سيل الحبّ، صعود السيد المسيح المبحوث عنه بشدة، العذرية الذكورية، ونقط تماثل أخرى ذات صلة، تصل بالمشهد الفصامي المتعدّد الأوجه لشخصية البطل حدّ التأله.

 

يخالف فيلم العطر مجموعة من التوقعات التي تتكهن بنهاية بطله غرونوي. والعديد من الأفلام ليس بها مثل هذا السرد الانقلابي كما سنظهر . صحيح أن كلّ فيلم من الأفلام له قصة واضحة تنمو وتجعلنا نتابع قصتها، وليس مطلوباً منا أن نخمن شيئاً ..  فما نراه فيها هو كل ما لدينا، ونحن ننتظر الزمن حتى يؤكد التصورات. تلك الطريقة “الصريحة” عكس طريقة “الانقلاب” المخالف لتوقعات المشاهد. فبينما نفترض شيئاً فإننا ندرك لاحقاً ما يخالف ذلك *.

 

نحن كنا نعتقد البطل حالما يحقّق أعمق رغباته وهي حيازة العطر المثالي، سيصل إلى مراده وسينكفّ افتقاره. لكنه وبالبرغم من تحقيق مبتغاه لايزال يحسّ بالضعف الانساني والاحتياج وتضاعف لديه الاحساس بالعزلة، إذ سيكتشف في عزّ نشوته بالنصر أنه ليس هو المرغوب فيه وإنما العطر السحري الذي يمتلكه. من جهة أخرى، ينجو غرونوي من الموت المحقّق في اليوم المقرّر إعدامه فيه أمام الحشود، وبعد خلاصه يفضل الانتحار بطريقة ملتوية يمكن عدّها لاشعورية يبدو في ظاهرها كما لو أنه سيق به إلى الموت. إلى جانب مشاهد أخرى تدع المشاهد في نهاية الفيلم يطوف في حلقة مفرغة، ويبدأ من جديد بطرح الأسئلة غير مكتفي بالأجوبة التي يقدّمها محتوى الفيلم. إذ وحدها الأسئلة كما يقال ترى الحقيقة، بينما الكثير من الأجوبة تظل عمياء.

 

من المؤاخذات التي لا يمكن عدّها على كلّ حال عيوبا في السيناريو الفيلمي، تتعلّق بتكثيف الأحداث عكس السيناريو الروائي، حيث يكرّس الكاتب عددا معقولا من الصفحات لتطور الدوافع وتكشّفات الشخصية اللازمة لتحقيق تحول مُرض، إلى جانب بعض التغييرات التي طالت الشخوص (7) . غير ذلك يعتبر الفيلم مادة دسمة لسبر أغوار النفس البشرية وتطبيقات التحليل النفسي على السينما. فالقراءة الفيلمية القائمة على مقاربة نفسية للسينما (كما سنقدمها في الورقة الثانية)، توسع مجال النظر إلى ما يوجد في الواجهة الخلفية من شخصية البطل، نقصد ما يعتمل في جعبة النفس واللاشعور باعتبار هذا الأخير هو  المحرك المتنكّر لدوافع الفعل. ويستلزم الإمعان في دلالة العلاقة المنسوجة في الفيلم بين العطر والجنس خاصة وأن المحتوى الإيروتيكي يحيط كثيرا بالرائحة العطرية من حيث اتصالها بالرغبة والإثارة واستثارة الهوامات وتنشيط الذكريات وصولا إلى الممارسة الجنسية الفعلية.

 

تعتبر بعض الآراء واستطلاعات الرأي أن فيلم “العطر .. قصة قاتل” يهزّ الصورة السليمة للإنسان ويغرق في أجواء من الرعب والكآبة والغموض، مُرتكزها الهوس و الهواجس الشخصية، لذلك فإن الكمال و التوحد و الانعزال الموجودة في الفيلم تمنعه من الدخول  في قائمة الأفلام التي تعرض الجانب الايجابي من شخصية الكائن. فهو لا يحمل في طياته أي وازع أخلاقي أو عرفي أو ديني، وبالتالي فإن مؤشر المحصلة سوف يكون دائماً في حالة من الميل الجارف صوب ما هو غرائزي ونحو تحقيق ما تصبو إليه النفس وحتى دون الشعور بالذنب أو وخز الضمير إذا ما وقع في المحظور. غير أن النقد السينمائي المدعوم بقراءة تحليلية نفسية، لا يتأثر بالأحكام التي ليس بمقدورها تذوّق النص السينمائي كتابة وتصويرا وإخراجا وغير ذلك من متطلبات الإنجاز، مكتفية في عجز وعمى بصري بتفقّد متانة الجدار الأخلاقي المحيط بالطابوهات التي وحدها السينما من تتعمّد منحها فرصة لكي ينظر لها المشاهد بعين ناقدة ومتحرّرة ومتبصرة تستذكي من الحكمة القائلة “ما لا نراه يسكن في ما نقول“.

                                                                                       

الورقة 2/2

 

مسحة عن شخصية جون بابتيست

جون بابتست غرونوي بطل الفيلم المُعنون ب “العطر، قصة قاتل”، حَدَثَ أن ولدته أمهه عن طريق علاقة غير شرعية في أحد أسواق السمك بباريس، في حيّز مكاني عفن ومليء بالنفايات وبقايا أحشاء الحيثان. فكان لهذه الروائح الكريهة أثر بالغ على حاسة الشمّ لديه. لقد بدت عند غرونوي مقدرة عجيبة منذ نعومة أظافره على التقاط كمّ هائل من الروائح كيفهما كانت طبيعتها المادية ومهما ابتعدت مسافاتها الجغرافية. ومع سعيه الدائم لتطوير هذه الموهبة، سيصبح يتمتع مع مرور الأيام بطاقة استثنائية على تحسّس الموجودات والأشياء عن طريق حاسة الشم الموقظة بحدّة لديه، والتي غدت تغنيه الاعتماد على باقي الحواس الأخرى، التي أمست تستجيب وتنقاد إلى قهر رغبة لاواعية في تملك سراب الرائحة، رغبة مستحوذة منذ الطفولة المبكرة على التكوين النفسي النزوي للشخصية البطولية للفيلم السينمائي.

 

تشهد طفولة غرونوي البئيسة على الحرمان العاطفي (افتقاد الوالدين) والتعنيف والمهانة والعزلة. فقد عاش غرونوي في الميتم إلى حدود سنّ الثالثة عشر، وهو معروف بين أصدقائه أنّه غير اجتماعي، محبط في رغباته، ولا يجد أي شغف سوى في الرائحة. ففي أي لحظة من حياته يجد نفسه منقاد إلى تطوير حاسة الشمّ وتجاوز الحالة الطبيعية مثل باقي الناس. الأمر الذي دفع به لأن يكون مختلفا على الطبيعة الإنسانية ذاتها، مُعلنا ثورة هادئة على القيم الأخلاقية والتراتبية الاجتماعية والرصيد المتاح حول مجال المعرفة بالجسد وأسراره. وبالرغم من هذا التضخّم النرجسي الذي ملأ ذات البطل، لم يكن في الواقع غرونوي – وهي الصورة المناقضة – شخصية لامعة في أوساط المجتمع الباريسي للقرن الثامن عشر، سوى من خلال أعماله وقتله المتسلسل الذي نحث له صورة مرعبة في متخيّل الجماهير.

 

لقد اختزل في حاسة الشمّ كل شيء عند غرونوي من كلمات و مشاعر و أحاسيس و رغبات وذكريات و تخيلات (…) الخ، ليصل به ولعُه تجاه التقاط وتخزين الرائحة البشرية النسوية حدّ الهذيان والهوس الاستحواذي والفيتيشيزم واضطرابات نفسية وجنسية أخرى وقعّت أو أمضت كل واحدة منها على محطة من مراحل تطور الشخصية داخل السرد. إنّ كل هذه التشوهات التي لاطت ذات البطل، وشكلت مُرتعى لنمو الانحرافات السلوكية والرغبوية عن السجيّة الآدمية، لم تكن في نفس الوقت بدون طائلة، فقد استطاع غرونوي أن يخرج من هذه التجربة الوجودية في حالاتها القصوى بأفكار غير مسبوقة عن إمكانات الجسد والحواس، وجوهر الشيء، وواجهات الموت، والحياة اللاجنسية، والفراغ الرحمي الأمومي، وتراجيديا اللاشعور.

 

    طفولة مجهضة

 

تبدأ أحداث الفيلم حيث يولد بطل الفيلم جان باتيست غرونوي، في أحد أسواق السمك الباريسية. وقد حالفه القدر في أن يعيش رغم رغبة أمه المعتادة في التخلي على أبنائها من السفاح بالتخلص من الرضيع برميه وسط كومة قمامة، إلا أن أمرها أُفتضح عندما انتبه المارة ورواد السوق لصرخات الطفل المتشبث بالحياة. وهكذا تم انقاذ غرونوي واقتياد أمه للإعدام، فينتهي المطاف به كرضيع في دار أيتام السيدة كايار التي تأوي الأطفال بمقابل مادي، وهناك عاش غرونوي سنوات طفولته الأولى منبوذاً من طرف أقرانه.

 

الملفت من وجهة نظرنا في طفولة غرونوي هو أنّه وبعمر الخامسة كان لا يزال عاجزا عن الكلام وإيواء الحروف في حظيرة اللغة. والسؤال المطروح هنا: لماذا هذا العجر وعدم القدرة على الكلام ؟ ما هو الشيء الذي يُعيق ذات البطل من الحديث و التكلّم ؟ لابدّ وأن تكون هناك صدمة طفولية ما مُحبِطة إلى درجة ابتلعت معها لسانه المدفون في قعر الصمت. إن الصلة الوثيقة بين التحليل النفسي والكلام تجعلنا نقيم حجّة دامغة على مظهر مخفيّ من الخصاء يطال شخصية البطل. فممانعته الدخول إلى عالم اللغة من أجل تثبيت المعاني على الموضوعات، جعلهُ يموج في واحات الخيال وفجواته اللاعبة أكثر من الواقع الذي يقتضي زواج الكلمات بالأشياء، حتى يحصل تعريفها وحصر مدلولاتها.

 

من خلال إظهار البطل ككائن مُفتقر لخاصيّة الكلام، يُبرز لنا السيناريو الفيلمي دور اللغة في الحياة الاجتماعية باعتبارها آلية اندماجية مع الأغيار وقناة للتواصل والتعبير عن ما يجول في داخلانية النفس. بل الأهم من ذلك هو كونه الخيط الرفيع الذي يصل النفس بالجسد، فيكون اللفظ /المنطوق كلامُهما معا. عندما استطاع أخيرا جون بابتست أن يتكلم، فطن سريعا أن تلك اللغة اليومية برهنت على أنها غير وافية لكلّ التجارب المتعلقة بالشّم التي تراكمت في خبايا نفسه. فالكلام يضلّ غير مجدي في الوقت الذي تخوّل له موهبته شمّ الأشياء والموجودات من مسافات بعيدة، فتحضره صورها في مخيّلته، كما يهاجر بحاستّه الشمّية الموقدة إلى عوالم شاسعة وغير محدودة. إذ من الملحوظ أن هذا الغياب لذات البطل وكلامها، يسدّ كُوّته الغائرة حكي الراوي في الفيلم كما في الرواية، حيث لا نكاد نجد البطل يتحدّث على طول مشاهد الفيلم سوى في لقطات معدودة، فضلا عن كون المادة التي يشتغل عليها النص السينمائي توسم بالهلامية وغير قابليّتها للتشخيص التام. وهذا ما جعل صمتا مطبقا ينعش غموضا بدواخل البطل يصعب توصيفه أو تفهيمه خارج عن إطار التجربة الذاتية الحميمية كما يعيشها غرونوي.

 

بعد انتقال البطل للعمل في مصبغة للجلود يبدأ السيناريست في إصباغ قسمات الامتلاء النفسي على شخصية البطل: ويقصد بهذا المصطلح إعطاء السيناريست الملامح الكبرى للشخصية الرئيسية وكوامنها وسماتها واندفاعاتها وقدرتها على الفعل وخلق الحدث منذ البداية أو حتى النهاية أو في مقاطع معينة. وتبدأ هذه الملامح في الارتسام كما يبدو منذ عبوره مرحلة الطفولة.

 

   الفتيشية المتربصة باللّذة الجنسية

 

 

في سن التاسعة انتقل غرونوي للعمل في مدبغة الدباغ غريمال، الرجل الصارم الفظّ، بعد أن باعته السيدة كايار كعبد. وبعكس باقي الدباغين المتذمرين من روائح المدبغة النتنة، كان غرونوي يعيش بشغف وسط كنز من الروائح والاكتشافات الحسيّة التي كانت تشحذ حاسة شمّه الفذة. مضت السنين العجاف، وباتت كل الروائح معهودة لديه، ولم تعد ألفتها تُشبع شغفه، إلى أنّ سافر ذات يوم من القرية إلى المدينة، وبمجرد وصوله إلى الفضاءات الباريسية النابضة بالحياة، حتى باغتت أنفه المرهف عدّة روائح آخذة لم يسبق له أن اشتمها من قبل في حياته. فسار أسير انفعالات “نفسجسدية” تخترقه وتهزّه من كل جانب، وغدى كما لو أنه يريد أن يمسك بالهواء الذي تختلط معه هذه الروائح العطرة.

 

أثناء تجوّله في باريس في إحدى الليالي، انجذب غرونوي لرائحة فتاة شابة صهباء خضراء العينين، كانت رائحتها أخّاذة بالنسبة له، مما ولّد لديه رغبة عارمة في تملّك عطر الفتاة، فلاحقها متتبعاً رائحتها، لكن سرعان ما تطور المشهد إلى جريمة قتل كانت مُفتتح اللائحة الطويلة التي تسلسل في قتلها غرونوي بشكل فضيع لكن في نفس الوقت متفنّن، أربك معه الصورة السادية المعهودة على القاتل المتسلسل في السينما الغربية.

 

من الملفت في هذا المشهد الذي لا يمكننا عدّه ثانويا في أحداث الفيلم، أنّه عندما انتبهت الفتاة الصهباء إلى وجود غرونوي خلفها، وشمّه بطريقة مثيرة لتّقزز جسدها، صرخت بكلّ قواها خوفاً منه، فالتجأ وبدون تفكير إلى غلق فمها بيده كي لا تجذب انتباه المارة من الطريق، وعندما أزال يده عن فمها وجد بأنها ماتت من دون أن يقصد قتلها. ففي هذا المشهد الصادم يقدّم المخرج الصورة اللاواعية للخصاء عند البطل. ففي الوقت التي يستغرقه فيه غرونوي النظر إلى تبادل القبل بين مرأة ورجل من المارة، يكون هو في وضعية إشباع لرغتبه الجنسية بطريقة شاذة و لاجنسية.

 

إنّ الاستعانة بالجنس في الفيلم السينمائي كان هدفه الاشارة إلى سرقة جوهر الإنسان المقدس بالنسبة للمرأة. فجرائم جون  بابتست هي الاغتصاب والقتل، بالرغم من أن الاغتصاب كان يحدث من خلال تقطير جوهر الإنسان والعبث قبله بالجسد من خلال تحسسّه وتقليبه من كلّ مواقعه و ليس من خلال الاختراق الجنسي. وبذلك  يتقمّص البطل بأداء كبير الطبيعة اللصوصية اللاجنسية كما أسلفنا الذكر لشخصية غرونوي. فكلّ ضحاياه وجدو أنفسهن عراة لكنهم كانوا لا يزالون عذارى (ماعدا المومس التي التقاها في إحدى نوادي الدعارة).

 

يتضح من خلال ما ورد ذكره، أن هناك حالة باثولوجية تبصم على سيكولوجيا البطل بشكل بالغ الحدة، فهو لا يستطيع أن يحرز اللّذة الجنسية سوى عن طريق الشّم والاستمتاع بالروائح، خاصة تلك التي تأتي من النساء العذارى، وهو ما يُعرف في القاموس التحليلي النفسي بالشمّام “renifleur“. إن سلوك غرونوي مرتبط بأرشيف المرض العقلي، حيث هناك بالتحديد سجل فتيشي يَمثُل في محاولته التقاط الرائحة النابعة من الأنثى ذات الشعر الأحمر. ففيتيشية البطل مقرونة بالرائحة، هذه الأخيرة المتّصفة بالطابع العابر والمنفلت، ستؤخذه على توليفها وتركيبها.

 

يشهد الفيتيشيزم “fétichisme” على سجل بنيوي لانحراف الرغبة. بحيث أن هذه الصنمية ستدعّم الرغبة الجنسية المنحرفة في إخفاءها لخصائية الموضوع الجنسي. كما لا يصنّف البطل ضمن القتلة الساديين، لأنه لا يستمتع بتعذيب ضحاياه، ولا يجد متعة جنسية قبل قتلهنّ، إنه يريد بظمئ شديد جلدهنّ فقط، لكي يصير امرأة، بمعنى آخر، من أجل يَختزِن نرجسيا هوية أنثوية “identité féministe“. وما اختيار غرونوي لذلك النوع الفاتن من النساء إلاّ محاولة منه التماهي معهنّ، وذلك حتىّ ينجذب إليه الناس كانجذابهم لهاته النسوة وأكثر. ولتعميق الفهم أكثر بهذا الالتباس الرغبوي ننبّه إلى أن الغلمنة الأنثوية لا تعرف حدود كما يؤشر على ذلك التحليل النفسي، فالمرأة تُعجب بمثيلتها، فتسقط عُرضة لمثليّتها المُقيمة على مستوى التخيّلات بدل السلوكات. لهذا قد يكون بحث غرونوي عن عطر أنثوي مركّب من أجسادهن احتلاله على نحو لاشعوري لهذا الموقع المتعوي المتحرّر من اقتصاديات اللبيدو، بل وتعدّيه من حيث الهوامات عندما ينظر غرونوي لنفسه ككائن خنثوي يقيم نزوعه في فلك مزدوج. بناء على هذه التوضيحات وما سيتلوها، يلحّ علينا السيّاق التحليلي طرح سؤال يكون مفتتح خارطة الطريق إلى جنسانية غرونوي المقفولة نوافذها: لماذا تنكّر البطل إلى هويته الذكورية، وراح يبحث عن عطر مشتق من رائحة نسوية ؟ لما لم تكن ضالته في رائحة الرجال أو حتى الحيوانات مثلا ؟ ألا يجوز الافتراض بأن اضطراب الهوية الجنسية جعل من غرونوي ذي سمة خنثوية، كما حاولنا التوضيح ؟

 

يحيلنا موضوع الفيتيشية إلى تعرية الحجاب عن عقد نفسية أخرى ربما قد تتوارى على مدارك المشاهد، ويمكننا البدأ في تناولها بإقحام عقدة الأم الميّتة بالنسبة للبطل. إذ لم تختفي وفقا لما يقودنا إليه التحليل الصورة الأمومية “image maternelle” من الحياة اللاواعية لغرونوي، بل هي تكاد تكون مولّد نزيف نرجسي يعاش على صعيد لاوعي البطل، كتشويه لسجلّ الأمومة الذي يشكل جزء عريضا من التاريخ النفسي الطفلي. فالأم الرافضة للإنجاب تقوم هنا بتأصيل هوام الانجاب الذاتي “engendrement auto” الذي يَظهرُ لنا بجلاء منذ بدايات السرد. ويلاحظ كذلك أن وفاة أمه مُرتبط بصرخته الأولى، مما يرّسب في لاوعي البطل الإحساس بالذنب كَونه ولد ليقتل أمه. وهذا المدخل يسعفنا بغنى في تفسير رغبة البطل المتناقضة، فهو يبحث عن الأم من خلال قتل صورتها بشكل متكرر. إن مفعول الرائحة ومداه التأثيري في نفسية بابتست لا يكاد يعكس سوى عطش الرغبة المحبطة، وجوع تجاه الموضوع الأصلي لا يرتوي إلاّ من النبع. عبر هذه العقدة أين سيعبّر الكاتب عن لااستثمار مدمّر للأم تجاه الابن “désinvestissement massif“. بحيث سيكون بحثُ غرونوي عن عطر مكتمل/مطلق “absolu” الموجود كما اكتشف عند النساء العذروات (حُمر الشعر) لمن الحيل الدفاعية اللاواعية لملأ هذا الفراغ المتروك بغياب الموضوع الأصيل للرغبة (نقصد الأم). فالرائحة ستحتلّ موضوع المتعة “jouissance” ، المسحوبة على القضيب الأمومي. ويُرَمَّزُ هذا الهوام – ضمن العلاقات الشيئية – في العصى التي يستعملها القاتل غرونوي خصيصا لتصفية ضحاياه. إنه وجه آخر إذا أمعنا النظر من المثلية اللاجنسية عند البطل في ظل غياب قانون الأب وهشاشة الأنا الأعلى.

 

لعبة قلب الأدوار مسرح الفصام العظامي لجون بابتست

 

بين العبودية والسيادة، بين الموت والحياة، بين الإحباط والشغف المنضب، بين كونه موهوب بالجبلة، أو مخترق بنوازع لا تستجيب إلا للنزوة، ترتسم الصورة المتذبذبة لشخصية غرونوي القاتل المتسلسل، قد جعلت منه نموذجا للفصام العظامي. فهو البطل القاهر للموت، والاحباطات، والظروف المحيطة … (الخ)، وفي نفس الوقت هو الطفل المنبوذ والعبد الطيّع والكائن المخيف. من جهة أخرى يكون الفصام العظامي نتيجة العلاقة الأولية مع الأم، كما تكوّنت صورتها في اللاوعي. هذه العلاقة تشكلّ في حقل التحليل النفسي السند الهوامي لأشد درجات نزوة العدوان تدميرا – كما تجسّدت في نزوعات البطل السيكوبائية.

 

إن الاختلال الحاصل هنا، هو أنّه عوض أن تكون للبطل علاقة ايجابية مع الوجود، من حيث هو فعل يُعلن الولادة ويعدم الموت أو يؤجله، أصبحت المعادلة معكوسة، أي أن الوجود يدعو الموت ويطلبه بشدّة. وهذه الصورة النيكروفيلية حاول أن يقدّمها النص الفيلمي حول البطل منذ منطلق أحداثه حتى نهايتها. إنه الكائن المهدّد والمنبوذ، الذي يتحامل الكلّ على قتله، حتى المسكن الرحمي الذي آواه لفترة، لَفَضَهُ بكل قسوة وبرودة. هذه العلاقة الجدلية بين البطل والموت حرُس المخرج على إظهارها في ثلاثة مشاهد متسلسلة، نعدّها كالآتي: المشهد البدئي الذي استخدم فيه تقنية الفلاش باك “flash-back” للعودة إلى حدث الاستعداد لإعدام بابتست على جرائمه بعد أن ألقي عليه القبض. يتلوه حدث ولادته ومحاولة أمه التخلص منه. وبعده حدث تآمر أطفال دار الرعاية التي جيء به إليها على خنقه وهو لا يزال في المهد. فالمُخرج منقاد منذ البداية إلى إظهار علاقة الموت بالبطل، ويقدّمه في صورة شبحية كما لو أنه مُروّض الموت، وفي حالات تفاوضية معه طوال الأحداث.

 

  الجسد المتّهم

 

بعد أن نَمى غرونوي خبرته في تقنية التقطير التي تمكن من استخلاص روائح الأزهار، إلا أنه سرعان ما صُدم بعدم قابلية تطبيق نفس التقنية لاستخلاص روائح أشياء أخرى كالنحاس الأصفر مثلاً ومعادن أخرى. فسقط غرونوي طريح الفراش متأثرا بصدمة تحطّم طموحه في السيطرة على جميع روائح العالم، بقدر أصبح على حافة الموت، وحالما أخبره بالديني بإمكانية تعلّم تقنيات أخرى أكثر تطوراً كالاستشراب في مدينة غراس استرجع غرونوي عافيته وقرّر الرحيل. وسيكون هذا الخروج ملاقاة البطل لذاته.

 

المطر، الخلوة، الاعتكاف (…) الخ، كلّها مظاهر ترتبط دلالتها بالتطهير “purification“، فخلال رحلته يعتكف غرونوي في إحدى مغارات أحد جبال كانتال ليمضي فترة طويلة وحده صانعاً عوالماً تخيلية من الروائح. إبان عزلته في جوف الجبل وعى غرونوي بشكل فجائي بحقيقة صادمة تتمثّل في عدم فرز جسده لروائح خاصة به، وهو ما خلّف صدمة قوية في نفسيّته خصوصاً وأنه لا يدرك العالم إلا عبر حاسة الشمّ. ففي إحدى الليالي المُمطرة يقضيها غرونوي في العراء وسط وحشة الغابة، استطاع ان يدرك أنه حتى للجسم رائحته الخاصة (رائحة الإنسان) وفجأة راح يشتم كل جزء من جسده آملا ان يتعرّف ولو لمرة عن رائحة تنبثق من داخله، وتعود إلى جسده. إنّه منعطف في تسلسل أحداث الفيلم شكّل نافذة لوضع الأصبع على الشيء المفقود في ذاتية البطل. وتدعى هذه اللحظة في القاموس السينمائي بنقطة التحول التي يتبعها فكّ العقدة بعد وصول الأحداث الفيلمية إلى ذروتها.

 

من اللافت للانتباه في هذا المشهد، هو أن الحقيقة الضائعة التي يبحث عنها غرونوي لم تعرب عن نفسها في حياة اليقظة وإنما ستظهر في اللاشعور أثناء حلمه، الذي رآى فيه نفسه واقفا أمام الفتاة التي كانت أول ضحاياه لكنها لا تراه ، كما لو أنه شبح أو طيف. لقد صور له اللاشعور الحقيقة برمزية بارعة تضمر قسطا من مخاوفه، إذ سيفطن مباشرة بعد استفاقته من الحلم أنه بدون رائحة ويدأ في تشمم رائحة جسده من كلّ مواقعه. وبعد فقدانه كلّ أمل في أن تكون له رائحة كباقي البشر، تمدّد فوق السطح واكتفى بإلقاء نظرات على النجوم، تشي بوحدة واسعة الثقب ومستحيلة الأعماق.

 

أثناء إقامته في مدينة غراس عاصمة صناعة العطور في فرنسا، عمل غرونوي بفضل شهادة بالديني في معطرة السيدة أرنولفي، حيث سيعمق معارفه التقنية خصوصاً في الاستشراب. يكتشف غرونوي وجود فتاة ذات عطر أخاذ وأبلغ أثراً من رائحة الفتاة الصهباء التي قتلها وعلقت صورتها في ذاكرته، إنها “لورا ريشي” ابنة أحد أعيان المدينة، فلم يزده هذا الاكتشاف إلا مثابرة وإصرار في إيجاد الطريقة التي ستمكّنه من استخلاص روائح الكائنات الحية.

 

سيعثر البطل عن العطر الكامل، الرائحة المتعويّة المطلقة عند النساء حمر الشعر الشبيهات بأمه. فالشيء الضائع في العمق والذي يبحث عنه البطل من خلال كل العطور التي اختبرها وقتل من أجلها، هو الحضور الأمومي، أي  ذلك الوجود المندثر للأم – العطر كاستعارة للرغبة المستحيلة الإشباع –. إنه يريد الامساك بشيء ما أمومي، افتقده بشدّة بعد أن تخلّت عنه أمه فور ميلاده. هذا الافتقاد المبكّر للأم الموسوم به السيرة الطفلية لعب دوره في تشكيل هوام الخصاء”castration” عند البطل. فالمرأة ليست موضوع حب/عشقية/شبقية (…) الخ، وإنما هي هدف تسقط عليه المشاعر السلبية اللاواعية الناجمة عن تشوه الصورة الأمومية كما أوردنا سلفا. إذ أن كل معاشرة أو هيام بالمرأة، هي فنتازمات تعاش كعودة إلى الرحم الأمومي ذي اللطخة السفاحية السوداء في المخيال الجنسي لغرونوي. ومن المعلوم أن هذه الصورة اللاواعية تبنى انطلاقا من علاقات البنوة الأولى، وخاصة مع الأم. ففي الحالات التي تعرف فيها هذه الصورة اختلالات، تسلُك النزوة مساقا عكسيا ينتهي بها إلى الانهمار في مُستفرغ عدواني.

 

الرغبة المقيمة في الفناء

 

يتمكن غرونوي من تركيب أكثر العطور كمالاً بتوليف العطر المستخلص من جسد لورا بالعطور الاثنا عشر المستخلصة من أجساد باقي الضحايا. ويلقى القبض عليه بعد افتضاح أمره ليحكم عليه بالإعدام، وقبيل اقتياده لساحة المدينة لتنفيذ الحكم تحت أنظار الآلاف من سكان المدينة يتعطّر غرونوي ببعض القدرات المعدودة من عطره الأنثوي السحري ليفقد آلاف الحاضرين صوابهم ويدخلوا في مجون وعربدة جماعيين تحت أنظار غرونوي الذي يتحول بامتلاكه عطر الحياة إلى ملاك بالنسبة للناس. كما أنه وبفضل عطره المعجزة سيغدو غرونوي بريئا في أعين جلاّديه ويطلق سراحه، في مشهد عرف تدفقّا رغبويا جامحا بما لهذه الرائحة من قدرة شيطانية على الإثارة الجنسية، وصلت حدّ تحريك غريزة الراهب وإفقاده عذريته التي صانها من أجل الربّ، كما شاهدناه في آوخر الفيلم. فتتحوّل المشاهد الأخيرة للفيلم إلى مسرح لممارسة للجنس بين الجماهير المحتشدة والتي كانت تنتظر إعدامه. كما لو أن شغف القتل والنزعة العدوانية المتأصلة في الطبيعة البشرية لا يمكن أن يسدّ ظمأها سوى الجنس كموضوع بديل يتم من خلاله تصريف طاقة محقونة المَخرج.

 

يَرسمُ السيناريو بسلاسة في هذه الآونة طريق نهاية الشرّط الوجودي للبطل الذي تكسّر طموحه فوق صخرة الجنس. حيث سيخرج من تجربته بخلاصة جدّ مخيّبة وهي أن ضرورة الجنس عند الكائن لا يمكن تعويضها بأي تركيبية سحرية أخرى. وللتدليل على ذلك نجد غرونوي عندما شاهد الجماهير المحتشدة كلهم يمارسون الجنس أمامه، صُدم بغرابة المشهد الإروتيكي البدائي الذي أبيحت فيه جميع أشكال الممارسات الجنسية، وأمام هذه المائدة الكبرى من المتعة القضيبية والمهبلية والشبقية (…) الخ،  لم يجد له هو الآخر شريكا يحظى معه بنفس اللذة أو أي تجربة سابقة في هذا الصدد سوى هوام شاحب راوده من هسيس ذاكرته شبه المعدومة، حيث خيّل إليه في حلم يقظة عابر صورة المرأة التي قتلها – بدل أن يُقبل على كسب حُبها ومضاجعتها – أنها تقترب منه، وتعانقه وتطلب ودّه. في هذه اللحظية بالضبط يفطن غرونوي إلى أن طريق الوصول إلى جوهر المرأة هو كسب رغبتها وليس رائحتها. وهو المنتهى الذي نستطيع أن نفسرّ من خلاله نزوعه النيكروفيلي الذي يُعدِم الموضوع لكي يتملكه.

 

قلّ ما يجيب المشهد الأخير من الفيلم على مجموعة من الأسئلة التي ظلّت معلّقة حتى حدود الأنفاس الأخيرة من السرد. فعندما غادر غرونوي غراس وفي طريق عودته إلى باريس حاملاً ما يكفي من العطر ليحكم العالم، راوده نفس العوز الرغبوي والفتور الجنسي، وأن عطره المثالي لن يجعله يُحِبّ أو أن يكون محبوباً كشخص طبيعي. لذا وفي حركة تخالف كلّ التوقعات، يتجه لاشعورياً غرونوي عند عودته لباريس إلى سوق السمك مكان ولادته. هناك يفرغ قارورة عطره السحري فوق جسده، مما يحوّله إلى ملاك في أعين العشرات من الأشخاص المتواجدين في المكان، والذين أغلبهم من العاهرات والسكارى والمتشردين. ينجذب إليه هؤلاء بعد أن شعّ منه ضياء أقرب إلى النور الإلهي وراحوا يقبّلونه ويمزقون أطرافا من ثيابه لينتهوا إلى أكل لحمه حتى لم يتبقى منه شيء. في الصباح التالي لم يبق لغرونوي وجودا باستثناء ملابسه وقارورة عطره الفارغة التي سقطت منها آخر قطرة.

 

لم يخلو السيناريو من عنصر المفاجأة، فللمفاجأة مكان هام في قصّة السيناريو. ويمكن أن يكون لتأثيرها المفاجئ صدمة أو متعة إذا ما استخدمت في المكان المناسب والوقت المناسب. وشريطة أن لا تستخدم المفاجأة لذاتها فقط. وعنصر المفاجأة هنا، هي الكيفية التي هلك بها البطل، والتي تضفي غموضا على خط القصة بأكمله، يتركه معه ثغرة مبهمة في الحبكة. هل أراد حقا غرونوي الانتحار بطريقة ملتوية؟ وما هو اللغز المستضمر في لاشعور البطل أو ما يمكن أن ندعوه بالسرداب، بعد كل ما انتهينا إليه من تحليل؟

* أستاذ باحث من المغرب

الهوامش

***********

  1. الفيلم هو أول اقتباس صريح لرواية العطر: قصة قاتل، التي كتبها الألماني (باتريك زوسكيند) ونشرها عام 1985 محققاً من ورائها شهرة واسعة ونجاحاً كبيراً. وقد لفت هذا النجاح أنظار المخرجين الكبار تحديداً (مارتن سكورسيزي) والراحل (ستانلي كويبريك) الذين أعجبا بالرواية فرغبا في تحويلها إلى السينما، لكن طبيعة الرواية وتناولها لأفكار مجردة تسبح في خيال بطلها، جعل من مهمة التحويل مهمةً صعبة بل أقرب إلى الاستحالة، الأمر الذي جعلهما يصرفان النظر عن خوض مثل هذا التحدي العسير. فبقيت الرواية بعيدة عن السينما حتى العام 2001 حين اشترى الممثل (داستن هوفمان) حقوقها بمبلغ كبير وأوكلت بعدها مهمة إخراج الفيلم إلى المخرج الألماني توم تايكوير.

  2. حاول كتّاب السيناريو (اندرو بيركن) و (بيرند ايجنغر) والمخرج (توم تيويكر) الإخلاص إلى الرواية قدر المستطاع أثناء ترجمتها الى عمل سينمائي، على الرغم من اللغة الوصفية العالية والغرائبية في الأحداث.

  3. إن الشمّ على الرغم من مكانته في الحياة الشخصية، يحاط اجتماعياً بالشك، ويخضع للكبت. فالناس غالبا ما تتقزز من المفرطين في شم الاشياء. على عكس ممن يمعنون النظر مثلا أو يسترقون السمع.

* غرونوي هو الضفدع بالفرنسية، ووصم البطل بهذا اللقب نظرا لهيئته الجسمانية الشبيهة بالضفدع.

* ويبرز إبداع المخرج أيضا بالسعي لشد انتباه المشاهد على طول أحداث الفيلم، فضلا عن استخدامه اللقطات المتوسطة والقريبة التي توضح انفعالات الشخصية الرئيسة وطريقة تحسسها للعطور، فضلا عن الموسيقى الرائعة التي رافقت أحداث الفيلم وأعطت روحية لبعض مشاهد الفيلم القاسية.

* مصطلح تحليلي نفسي يستخدمه المحلل النفسي الشهير “جاك لاكان” ليصف حالة الرغبة التى لا يمكن اشباعها.

  1. تعليق مسحوب من تقرير عرض في منتدى السينما العالمية و هو عن الفيلم الكبير العطر: قصة القتل (رائحة الحياة الجميلة التي قادت الى القتل) راجع موقع ستار تايمز -أرشيف السينما العالمية.

  2. اللوقيوسية مصطلح مشتق من اسم لوقيوس بطل رواية الحمار الذهبي لأبوليوس، فلوقيوس بسعيه لتعلم السحر سيتحوّل لحمار بسبب خطأ صديقه فوتيس، شاقا بذلك أحداث الرواية. سار لوقيوس يرى نفسه كما يقول ” أنا الانسان الطلعة المتشكل في صورة الحيوان” كارها بذلك مظهره ومنطلقا في البحث عن وردة خاصة يلتهمها في سبيل استرجاع طبيعته الاصلية اللائقة.

  3. اسماعيل حمودة، الأنا والآخر – ص 25.

* نحن على خطأ عندما نقيم تصورات يقينية، فالفيلم لا يكشف فقط عما لا نعرفه لكنه يكشف أيضاً عما كنا نخمنه كحقيقة. ومن ضمن الأفلام السينمائية التي تذهب في هذا الاتجاه نجد مثل : فيلم “جزيرة القفل” ” Shutter Island ” وفيلم “اللعبة” ” The Game ” وفيلم “دوار” ” Vertigo ” وفيلم “ساحر أووز” ” The Wizard of Oz ” وفيلم “سايكو” ” Psycho “،

  1. فيما يلي الاختلافات الموجودة بين حبكة الرواية وسيناريو الفيلم: أعدمت أم غرونوي بالمقصلة في الرواية بينما أعدمت شنقا في الفيلم. تم تغيير اسم شخصية “لور ريشي” إلى “لورا ريشي” في الفيلم. تجاهل الفيلم أحداث الفصول المرتبطة بمونبيلييه وشخصية الماركي دو لاطاياد اسبيناس .الرواية تقدم غرونوي كإنسان قبيح المنظر وهو ما لم يؤخذ به في سيناريو الفيلم. تعمر السيدة كايار طويلا بعد بيعها غرونوي للدباغ جريمال، خلافا للفيلم حيث يذبحها لصان مباشرة بعد مغادرتها المدبغة.

 

تعليق واحد

  1. لفيلم رائع و مقالك اروع
    تحية لك

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.