الرئيسية | رأي | من أجل نظرية للثقافة | إدغار موران – ترجمة : مصطفى ناجي

من أجل نظرية للثقافة | إدغار موران – ترجمة : مصطفى ناجي

إدغار موران – ترجمة : مصطفى ناجي

 

تقديم :

يتمثل المشروع الفكري لإدغار موران في إقامة جسور التواصل بين حقول المعرفة المختلفة، والحد من التخصص المفرط لأنه يؤدي إلى النظرة التجزيئية وإلى إفقار المعرفة. وفي هذا المقال يدعو الفيلسوف الفرنسي إلى إقامة جسور بين مفاهيم تنتمي إلى نفس الحقل، حقل السوسيولوجيا. ويتعلق الأمر بمفاهيم الثقافة الإنسانية، الثقافة العالمة والثقافة الجماهيرية.

وانطلاقا من دعوته إلى فكر مركب ، يسعى موران إلى مقاربة الثقافة في تعقيدها وتشابك عناصرها، ويسعى إلى تفكيك هذا التعقيد . يبدأ موران بنقد  الالتباس السائد بخصوص مفهوم الثقافة حيث درج علماء الاجتماع على  استعمال  هذا المصطلح دون تمييز بين الأنواع الثقافية الثلاثة. ولهذا يصوغ تعريفات دقيقة ومتمايزة لكل ثقافة على حدة. لكن هذا التمايز لا يعني الانفصال والتباعد بين هذه الثقافات. فمن المشروع أن يبحث السوسيولوجي عن صياغة مفهوم مركب يستوعب هذه المفاهيم الثلاثة ويوحد بينها رغم اختلافها. يعترف موران بوجود محاولات لصياغة مفهوم شمولي للثقافة . هناك محاولة ركزت أهتمامها على المظهر العملي الوجودي للثقافة ، ومحاولة ركزت على البعد النظري ، أي على البنيات المنظمة للمظهر السلوكي للثقافة . إن كل محاولة من هاتين المحاولتين تضع اليد على بعد مهم من أبعاد الثقافة ، لكنهما منفصلتان عن بعضهما. وهو انفصال  يشتت إشكالية الثقافة. ومن ثمة يدعو موران إلى البحث عن صيغة تربط الصلة بين المظهرين الأساسيين للثقافة : المظهر العملي والمظهر النظري.

لتحقيق هذه الغاية يقترح موران ما يسميه التحليل الثقافي la culturanalyse . وهو مصطلح جديد ينحته على غرار مصطلح la psychanalyse ، طامحا بذلك إلى تحقيق ثورة في مجال دراسة الثقافة شبيهة بالثورة التي حققها التحليل النفسي . لهذه الغاية يبدأ بتفكيك مفهوم الثقافة  في تعقيده وغموضه من خلال عرضه للدلالات المختلفة التي تشكله. بعد ذلك يقترح بناء منظومة  ثقافية تنظر للثقافة كنسق يقيم تواصلا وعلاقة جدلية بين الثقافة  كتجربة وجودية والثقافة كمعرفة تم بناؤها حول هذه التجربة . هكذا تصبح الثقافة بمختلف أبعادها كلا منسجما ، وتصبح أبعادها التي كانت مشتتة في الظاهر متكاملة ومتفاعلة. فالمستوى السلوكي يقدم للنسق الثقافي التجربة القابلة للفهم والتخزين ضمن مدونة الثقافة، وفي المقابل يقدم النسق الثقافي للمستوى العملي الأطر والبنيات الذهنية التي تعطي معنى  لهذا السلوك. ( المترجم ).

نص إدغار موران:

1 – الثقافات الثلاث

توجد في بلداننا ثلاثة أنواع من الثقافة، وهي إما ثقافات تعادي بعضها، أو توجد في حالة تعايش سلمي، لكن بينها صلات ضعيفة جدا. يمكن أن نسمي الأولى ثقافة إنسانية، والثانية ثقافة علمية، والثالثة ثقافة جماهيرية.

عرفت الثقافة الإنسانية أوجها بفرنسا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. وهي ثقافة تتضمن كمية محدودة من المعلومات، ويمكن بالتالي أن تختزنها ذاكرة إنسان مهذب « honnête homme »  والمقصود به إنسان يتوفر على فائض من الوقت. تتعلق هذه المعلومات بالإنسان، الطبيعة، العالم والمجتمع. تأسس هذا المخزون من المعلومات، بصفة عامة، منذ اكتشاف أمريكا حتى الثورة الفرنسية، ;ولم يعرف تغييرا كبيرا يذكر. هذا المخزون المكتمل والمشترك يتيح إمكانية كبيرة للتفكير. وهو تفكير ينصب دائما على المشاكل الأساسية: الخير، الشر، الله، وجوده أو عدمه ، معنى الحياة، الأخلاق، الخ. التمايز بين الأدب والفلسفة داخل هذه الثقافة ضعيف. فقد كان ديكارت وباسكال فيلسوفين، عالمين وكاتبين في نفس الوقت. ما يلفت الانتباه في هذه الثقافة، وفي جانبها التأملي هو أنها ثقافة مقالية essayiste  . ويمثل عنوان مقالات (محاولات) Essais الذي استعمله مونتين Montaigne عنصرا بالغ الدلالة. إننا هنا أمام محاولة للتركيب والتفكير في القضايا الكبرى.

الثقافة العلمية هي ثقافة أدت إلى نمو هائل للمعلومات. ومن الواضح أنه لم يعد ممكنا أن تختزن هذه المعلومات في الذهن. ومن الواضح بنفس الدرجة أن اتساع دائرة التخصص يؤثر على عملية التفكير في المعرفة، في الإنسان وفي العالم. إن المعرفة في الميدان العلمي شديدة التنظيم، خاصة من خلال النظريات المنطقية الرياضية. هنا توجد هيمنة للمعرفة القابلة للقياس والعد، وهذه الهيمنة نفسها مرتبطة بمعرفة تستلزم التحكم (التجريب) والإنتاج (التقنية). و بالطبع لازالت المعرفة من أجل المعرفة تتحكم في المغامرة العلمية. هناك (فعلا) اكتشافات أزاحت الستار عن مظاهر من الواقع كانت مجهولة، ولكن تطور منظومة التخصصات، وهي منظومة تزداد تقنية وبيروقراطية ، يجعل العلم – كما لا حظ ذلك هوسرل – عاجزا عن التفكير في نفسه وفي موضوعه. أضف إلى ذلك أن التخصص يهدم الأسئلة النموذجية الكبرى للثقافة الإنسانية. وفي أقصى الأحوال، لا تعود هناك حاجة – ضمن منطق التخصص هذا – لفكرة الإنسان داخل العلوم الإنسانية؛ إن للاقتصاد حقله الخاص الذي يمكن أن يستغني عن الإنسان، وكذلك الأنتروبولوجيا البنيوية ، وحتى السوسيولوجيا والإحصاء… (لقد أصبح) من الممكن أن نتخلص من الإنسان. ويمكن أن تتم تصفية فكرة الحياة أيضا في تخصصات بيولوجية مختلفة لا تهتم بالحياة ولكن بسلوكات وتفاعلات الجزيئات. من هذا المنظور يصبح السؤال حول مكانة الإنسان في الحياة سؤالا عبثيا.

لقد تطور العلم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في بلدان عديدة، مع النمو المتصاعد لعدد العلماء، ولمخزونات المعارف والببليوغرافيات وانتشار التخصص المفرط. فإذا تحدثنا عن إقامة التواصل بين الثقافة العلمية والثقافة الإنسانية ، يصبح حديثنا عبثيا لأنه لا يوجد تواز أو تناظر أو بنية مشتركة بين هاتين الثقافتين المختلفتين اختلافا نوعيا مطلقا. قد تتعايشان بشكل سكيزوفريني عند نفس الشخص: فالعالم عالم في المختبر ، وفي بيته يكتب الشعر. إنه إينشتاين وكمانه.

وكما هو شأن الثقافة العلمية ، فإن الثقافة الجماهيرية تتشكل من كم هائل من المعلومات يزداد نموا بشكل مطرد، ولكن عن طريق هدم نفسه باستمرار، وتحوله إلى “ضجيج”. إنه سحب (عابرة) من معلومات غير منظمة. ويتعلق الأمر هنا باختلاف جوهري عن الثقافة العلمية التي تنظم معلوماتها ضمن نظريات وفهارس وأرشيفات. في الثقافة الجماهيرية، نجد أن سحابة جديدة تطرد كل يوم سحابة أخرى. ويؤخذ على الثقافة الجماهيرية أنها ثقافة تتدهور. هذا صحيح، ولكنها تنتج أيضا تحفها (الخاصة)، وربما وجدنا في الثقافة “الراقية” عددا من الأعمال الرديئة يضاهي الأعمال الرديئة في الثقافة الجماهيرية. أضف إلى ذلك أن الجامعيين يخطئون حين يغفلون عن الثقافة الجامعية العليا، وينتقدون غباوات الثقافة الدنيا فقط. صحيح أننا نجد في التلفزة تبسيطا للثقافة العلمية، وتسطيحا للثقافة الأدبية، لكن إذا أخذنا مثال البرامج العلمية فإننا سنجدها معدة بمساعدة علماء بارزين في مجال تخصصهم. المشكلة الحقيقية تتعلق بنمط استهلاك هذه الثقافة. إنها ثقافة لا تتيح فرصة للتفكير، ليس فقط لأن حلقة تطرد أخرى ، سحابة تطرد أخرى، ولكن أيضا لأن هذه الحلقات تشاهد خلال لحظة الاسترخاء، بشكل استهلاكي، خلال وجبات الطعام، وقبل النوم. الأمر هنا لا يختلف عن الموسيقى. فالاستماع إليها كخلفية يختلف تماما عن السعي لسماعها في حفل موسيقي. وهكذا فإن الثقافة الجماهيرية لا تتيح إلا إمكانية ضعيفة للتفكير بسبب نمط استهلاكها، وبسبب غياب النظام فيها.

وأخيرا ، فإن أصل المأساة الثقافية الحديثة هو مشكلة التفكير. لقد كان يعتقد أن المعرفة وجدت لتكون موضوع تفكير ومناقشة، وموضوع تأمل حتى تتغلغل في مناحي التجربة الحياتية. لكننا نجد أن التفكير يتقهقر في كل مجال، بما في ذلك الثقافة الإنسانية التي أصبحت طاحونتها تدور في الفراغ، ولم تعد قادرة على أن تجعل مواد الثقافة العلمية موضوعا لتأملها. وحتى جسور التواصل بين الفلسفة والعلم أضحت نادرة جدا. إن صعوبة تحصيل المعرفة العلمية المتخصصة يحول مطلقا دون لعب الثقافة الإنسانية دورها كتأمل لمعرفة الإنسان داخل العالم.

ونواجه أيضا، في ما يخص الثقافة العلمية، خطر فقد العقل البشري للمعرفة، ونخشى انتشار نوع جديد من الأمية من خلال تراكم المعارف، وذلك بسبب تكديس المعلومات في بنوك المعطيات، وبسبب الاشتغال بواسطة الحاسوب.

وأخيرا، فإن الثقافة الجماهيرية تكمل هذا التدهور الذي يصيب إمكانية التأمل. إضافة إلى ذلك، فإن هذا التدهور يتجلى ، على صعيد المجتمع، في بروز فئة التكنوقراط، واللإيكونوقراط  éconocrates والخبراء المختصين، وصرنا نشهد المفارقة التالية ، وهي أن ثقافتنا ذات المظاهر الغنية جدا في تنوعها، ما دامت تضم ثلاث ثقافات شديدة الحيوية، تعرف في نفس الوقت انتشار الهمجية، ناهيك عن هذا الفراغ الثقافي الكبير في الحياة اليومية وفي الحياة الاجتماعية السياسية . يتعلق الأمر حقا هنا بأرض ثقافية قاحلة. إن بعض المعلقين الإذاعيين أو التلفزيين، الذين لا يقتصرون على محاولة التفكير في أحداث الأمس، بل يفكرون أيضا في بعض الوقائع الحضارية الصغيرة ( المخدرات، الخمر، انعدام الأمن، الخ)، يملأون قليلا هذه الأرض القاحلة ، ولكنهم يفعلون ذلك بعجلة. أما المربون والمدرسون فإنهم عاجزون عن التفكير في هذه الثقافة التي تبدو منافسة لهم، لأنهم يعرفون أن التلاميذ يفضلون التلفزة على إنجاز واجباتهم. هذا دون الحديث عن الحياة السياسية التي تظل تحت رحمة الأساطير، الأوهام، الأخطاء، الصخب والعنف…

إن استعادة التواصل بين هذه الثقافات الثلاث هي أكبر ضرورة ثقافية لهذا القرن. ولا يمكن استعادة هذا التواصل إلا بوجود حركة تفكير ذاتي autoréflexif نقدي داخل كل ثقافة من هذه الثقافات .

 

2 –  التحليل الثقافي

الكلمة الخدعة

الثقافة: وضوح زائف، كلمة تبدو واحدة، قارة، صلبة، في حين أنها كلمة خدعة، فارغة، مخدرة، ملغومة، مزدوجة ومخادعة. إنها كلمة أسطورة تدعي أنها تحمل في ثناياها خلاصا كبيرا: الحقيقة، الحكمة، الحياة السعيدة، الحرية، الإبداع…

لكن قد يقول قائل إنها أيضا كلمة علمية. ألا توجد أنتروبولوجيا ثقافية؟ ألا يقال أيضا بوجود سوسيولوجيا ثقافية؟ والأكثر من ذلك: ألم يتح للعلماء أن يقيسوا التطور الثقافي داخل المختبر؟

إن مفهوم الثقافة في العلوم الإنسانية لا يقل غموضا وريبة وتعددا عنه في القاموس العادي:

  • هناك معنى أنتروبولوجي تتعارض ضمنه الثقافة مع الطبيعة، ويشمل بالتالي كل ما لا ينتمي للسلوك الفطري. وبما أن ما يميز الإنسان هو أن غرائزه برمجتها ضعيفة، فإن الثقافة، أي كل ما يصدر عن التنظيم والبناء والبرمجة الاجتماعية، يتداخل في النهاية مع كل ما يخص الإنسان.

  • هناك تعريف أنتروبولوجي آخر ينسب للثقافة كل ما يحمل معنى ، بداية باللغة. بنفس المعنى الواسع في التعريف الأول، تشمل الثقافة هنا كل الأنشطة الإنسانية ، ولكن مع انتقاء مظاهرها الدلالية والفكرية.

  • هناك معنى إثنوغرافي حيث يتعارض ما هو ثقافي مع ما هو تكنولوجي، ويشمل المعتقدات، الطقوس، المعايير، القيم والنماذج السلوكية (وهذا خليط من المصطلحات المأخوذة من قواميس متنوعة ومحفوظة، في غياب بديل عنها ضمن الركام الثقافي).

  • المعنى السوسيولوجي لكلمة ثقافة أكثر احتواء للرواسب: إنه يجمع البقايا غير المقبولة من طرف التخصصات الاقتصادية، الديمغرافية والسوسيولوجية، الخ، ويشمل المجال النفسي-العاطفي، الشخصية، “الحساسية”، وملحقاتها الاجتماعية. وقد يضيق أحيانا ليقتصر على ما نسميه هنا الثقافة العالمة، بمعنى:

  • التصور الذي يحصر الثقافة في الإنسانيات الكلاسيكية، وفي الذوق الأدبي والفني. وهو تصور يحظى بقيمة عالية، على عكس الثقافات السابقة: إن المثقف يتعارض معنويا مع غير المثقف.

إن كلمة ثقافة تتأرجح ، من جهة، بين معنى عام ومعنى يحتوي كل الرواسب sens résiduel، وتتأرجح من جهة أخرى ، بين معنى أنتروبولوجي – سوسيولوجي – إثنوغرافي وآخر أخلاقي – جمالي.

في واقع الأمر ، إننا ننتقل دون وعي  أثناء حواراتنا وسجالاتنا ، من المعنى الواسع إلى المعنى الضيق، من المعنى المحايد إلى المعنى المثمن . وهكذا نقيم تعارضا بين الثقافة الجماهيرية والثقافة العالمة دون ضبط لمعنى كلمة ثقافة ونحن ننتقل من ثقافة إلى أخرى، وهو ما يجعلنا نعارض بين سيلفي فارتان Sylvie Vartan وسقراط ، أو بين فيرنانديل Fernandel وبول فاليري، وغالبا ما تتم هذه المعارضة على حساب النوع الأول ( من ممثلي الثقافة الجماهيرية). هذا معناه أننا نعارض بين ثقافة جماهيرية ذات طبيعة إثنوغرافية- سوسيولوجية، وثقافة عالمة معيارية ذات بعد أرستقراطي. ولا يمكن أن نتصور سياسة ثقافية ما لم نأخذ بعين الاعتبار، منذ البداية أن هذين المفهومين ينتميان إلى مستويين مختلفين.

هنا يطرح على الفور السؤال التالي: هل من المناسب أن نتحدث عن مفهوم للثقافة رغم هذا التباين والغموض؟ ومن منظور أوسع، هل هناك معنى ما لكلمة ثقافة يوحد هذه الدلالات المختلفة؟ هل هناك معنى لكلمة ثقافة يفلت من المعنى المعمم ومن معنى ثقافة الرواسب اللذين يراوح بينهما، ويعبر عن المعنيين معا؟

هناك إجراءان، طريقتان أو فلسفتان يمكنهما معا أن تبينا في نفس الوقت الطابع الشمولي ( أو العام) للثقافة.

الطريقة الأولى، وقد سبق أن لامسناها ترجع ما هو ثقافي إلى ما هو دلالي، وتتجه للبحث عن شفرة لبنية الأنساق الثقافية، مع استلهام نماذج اللسانيات البنيوية.

بالنسبة للطريقة الثانية، فإن المظاهر الوجودية هي ما يشكل صلب الثقافة. وقد تم تجديد هذه المقاربة بشكل ملفت من طرف ميشيل دو سيرتو Michel de Certeau 1. يجب ألا نعتبر الثقافة تصورا أو مبدأ معبرا indicatif، وإنما كطريقة يعاش بها مشكل شمولي. في هذا المستوى يوجد تطابق مع ما أبرزه جاك بيرك بخصوص “ثورة ماي الثقافية” : “إن ما نسميه اليوم ثقافة ليس سوى تجميع لمسلسل، لمراحل مختلفة، لمقولات مختلفة، لمستويات مختلفة، تأخذ كلها بالفعل معنى موضوعيا جدا، بل معنى جماليا، معنى تخييليا…”2 . وقد ذهب ميشيل دو سيرتو أبعد من ذلك في هذا الاتجاه : يمكن أن تشكل الثقافة الحد الأقصى والرواسب التي لا يمكن لأي بحث أن يكشف عنها؛ إن هذا المفهوم يشمل في النهاية الواقع الأكثر غنى من كل واقع آخر، وهو واقع لا تستطيع “ثقافتنا الغربية الفقيرة” (حسب تعبير سيرتو)  أن تفهمه.

وهكذا نلاحظ ، بالنسبة للتيارين الفكريين المعاصرين الكبيرين، أن أحدهما يختزل الثقافة في البنيات المنظمة، والآخر يرجعها إلى بلاسما (plasma)  وجودية. يؤكد كل تيار من هذين التيارين على بعد أساسي للثقافة ، ولكن تعارضهما وتنافرهما يشتت إشكالية الثقافة. وإذا كان من الواجب أن نجد معنى للثقافة ، فهو حقا المعنى الذي يقيم ترابطا بين الغموض الوجودي والبنية المنظﱢمة ( لهذا الوجود).

 

النسق الثقافي

يجب إذن أن نتصور الثقافة كنسق يقيم تواصلا وعلاقة جدلية بين تجربة وجودية ومعرفة تم بناؤها (حول هذه التجربة).

يتعلق الأمر بنسق غير قابل للفصل حيث يمكن للمعرفة ، للمخزون الثقافي، أن يخزن ، يسجل ويشفر، ولا يفهم إلا من طرف من يمتلكون هذه الشفرة، إي أعضاء ثقافة معينة ( يفهمون اللغة، منظومة العلامات والرموز الخارج – لسانية)؛ ويمكن للمعرفة أن تكون في نفس الوقت مرتبطة بنماذج عليا تسمح بتنظيم وتوجيه العلاقات الوجودية العملية و/ أو التخييلية. هكذا تصبح العلاقة مع التجربة ثنائية الاتجاه: فمن جهة يمكن للنسق الثقافي أن يستخلص من الوجود التجربة القابلة للفهم وربما للتخزين؛ ومن جهة ثانية يقدم هذا النسق للوجود، بالفصل أو الوصل بين العملي والتخييلي، الأطر والبنيات التي تدعم السلوك الإجرائي، أو المشاركة، أو المتعة أو الافتتان.

هذا الفهم يتيح لنا أن نتصور العلاقة بين الإنسان والمجتمع والعالم التي ترعاها وتحددها ثقافة ما من خلال محطات (هي الشفرة والنموذج الأعلى) قادرة على الاستدماج والتحويل ، بحيث يشكل كل واحد من تلك العناصر (الإنسان والمجتمع والعالم) نسقا فرعيا مركبا داخل النسق ( الكلي) (هذه الأنساق الفرعية، تعتقد النظريات التجزيئية أنها هي الأنساق الكلية).

أضف إلى ذلك أن هذا التصور  يمكن من الجمع، بشكل ما، بين ما كان ترسبا أو خليطا مبوبا داخل التصورات الإثنو- سوسيولوجية للثقافة: الشخصية (الشخصية الأساسية أو غيرها)، الحساسية، الأساطير، الأفكار الأساسية،  الطابوهات ، الشرائع، الخ.

وأخيرا، فإن لهذه الفكرة امتيازا كبيرا، وهو إمكانية تطبيقها على الثقافة بكل مفاهيمها ابتداء من المفهوم الأكثر شمولية ( الثقافة كمفهوم يتعارض مع الطبيعة ) إلى المفهوم الأكثر ضيقا ( الثقافة العالمة). إن ثقافة ما، حتى وإن كانت ضيقة ومحدودة، تشمل ضمن حقلها الخاص جزء من العلاقة بين الإنسان والمجتمع والعالم. إن ما يميز مفهوما معينا للثقافة عن بقية المفاهيم هو مدى اتساع النسق، امتداد المعرفة وامتداد حقل التجربة الوجودية، وامتداد المعايير والنماذج التي تستخرجها النظرة الأنتروبولوجية أو الإثنوغرافية أو السوسيولوجية أو الثقافية من هذه الثقافة. وهكذا تشمل الأنتروبولوجيا الثقافية مجموع المعرفة، مجموع حقل التجربة، مجموع الشفرات ومجموع المعايير والنماذج ضمن نسق شامل يتعارض مع النسق الغريزي أو الطبيعي. وعلى العكس من ذلك، فإن الثقافة العالمة لا تشمل سوى المعارف الإنسانية، الآداب والفنون، شفرة دقيقة ومنظومة من المعايير والنماذج المنتشرة ضمن المتخيل بنفس درجة انتشارها ضمن معرفة كيفية العيش. إن الثقافات لاتختلف طبعا من حيث امتداد حقولها فقط، ولكن أيضا من حيث التعدد اللانهائي لنماذجها، وبشكل أكثر عمقا، من حيث أنماط التنظيم والتواصل بين الواقع والمتخيل، بين الأسطوري والعملي.

لنضف هنا ملاحظتين أساسيتين:

  • إننا نتصور الثقافة كمنظومة أيض système métabolisant، أي كنسق يضمن التفاعلات (المتغيرة والمتمايزة داخل الثقافات) بين الأفراد، بين الفرد والمجتمع، وبين المجتمع والكون، الخ.

  • هذا النسق يجب ربطه بالنسق الاجتماعي العام كنسق ثقافي يتعارض مع النسق الطبيعي: يمكن أيضا أن نتصور الثقافة كواقع اقتصادي، اجتماعي، إيديولوجي، الخ، وأن نربطها بالتالي بالأبعاد الاجتماعية الأخرى. ويتضح في نفس الوقت أن الثقافة ليست لا بنية فوقية ولا بنية تحتية، وإنما هي تيار أيض يصل بين ما ينتمي للبنية التحتية وما ينتمي للبنية الفوقية.

لا يمكننا أن نراهن على بناء تحليل ثقافي بسيط، ولكن ضروري وأولي لمجتمعنا، إلا إذا تسلحنا بمثل هذا التصور للثقافة. فبخلاف المجتمعات القديمة حيث يقوم السحر والدين بتأسيس وحدة ثقافية مركبة  للمعارف والتجارب ( حيث يحتمل أن نرصد شخصية أساسية)، فإن المجتمعات التاريخية، وخاصة مجتمعنا، تشهد تجاورا وتداخلا للأنساق الثقافية ، حتى لدى الفرد الواحد. إن مجتمعنا متعدد الثقافات. فهناك الثقافة الإنسانية التي تغذي الثقافة العالمة، والثقافة الوطنية التي ترعى وتقوي التماهي مع الوطن، والثقافات الدينية، والثقافات السياسية، والثقافة الجماهيرية. أضف إلى ذلك أن كل واحدة من هذه الثقافات تخترقها تيارات متعارضة.  وقد لاحظ لينين عن صواب “أن هناك ثقافتين داخل كل ثقافة وطنية”. وسنرى أن هناك ثنائية عميقة في الثقافة العالمة كما في الثقافة الجماهيرية… وهكذا فإن الثقافة في مجتمعنا هي منظومة المزيج المتعارض من ثقافات متعددة تفتقد كل واحدة منها للتجانس.

يمكن أن نتوقف هنا، لكننا نريد أن ننظر في مسألة غياب إطار علمي أدنى يمكن من إدماج الظواهر المتمايزة والمترابطة في نفس الوقت والمتعلقة بــ” التمثل”، بــ” المتخيل”، بــ”الرمز” وبــ”العلامات”، أي مجموع الظواهر التي تبدأ من الحلم وصولا إلى المعرفة ، والتي سنسميها هنا  نولوجية noologique (متعلقة بعلم الفكر) ، وذلك حتى نحدد بشكل جيد وحدة مبدئية ، وحقلا خاصا تشتغل داخله ضرورات خاصة، واستراتيجيات استكشافية أصلية، وقواعد نسقية للتركيب، وجدلية بين- تواصلية فريدة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الظواهر النولوجية، منظورا إليها من زاوية سوسيولوجية، ليست شيئا آخر غير الظواهر الثقافية. نتيجة لذلك تدخلنا هذه النولوجيا ضمن مفارقة الثقافة. إن النولوجيا تفترض وحدة مبدئية، كما قلنا، بين الأنشطة العملية للعقل ( للدماغ) ذات الطابع المعرفي، والأنشطة الاستيهامية والتخييلية . هذه الثنائية، إذا تم زرعها في الحقل الثقافي، تؤدي إلى بروز مشكل نظري أساسي. وبالفعل، تبدو الثقافة في نفس الوقت  :

  • كميدان للظواهر الإضافية التخييلية التي تطفو أو تنبثق عن الممارسة الاجتماعية؛

  • وكميدان للوحدات المشفرة الحاملة للمعلومة، أي ميدان المبادئ التي توجه وتنظم الممارسة الاجتماعية.

هكذا تبدو الثقافة في نفس الوقت كميدان للظواهر الإضافية، وكميدان لعدة نظرية تكوينية للمجتمع. إنها تتعلق من جهة بما هو أكثر سطحية، ومن جهة أخرى بما هو أكثر أهمية في الحياة الاجتماعية. حتى الآن تمكن علم الاجتماع من السيطرة على هذه المفارقة، واعتبر الثقافة كبنية فوقية تارة ، وكأساس لتنظيم المجتمع تارة أخرى ( الأنتروبولوجيا الثقافية ).

لقد بدأنا ننظر للثقافة اليوم بطريقة أقل تبسيطا، وأصبحنا نفهم بشكل متزايد أن سوسيولوجيا الثقافة لا تعني فقط تفكيك أو شرح “أعمال – رسائل” تسمح بقراءة ما ظل خفيا وغير معلن في عمق الجسد الاجتماعي، ولكنها تتعلق أيضا بالمبادئ التوليدية والمتنظيمية “للمعلومة ” ( بالمعنى الذي يخلق تكافؤا بين المعلومة ودرجة فائدتها للنسق néguentropie  ).

هناك منظومات تيماتية متنوعة داخل الماركسية نفسها تبين أن الثقافة تبدو متصلة بالتنظيم الذي يجعل المجتمع يستمر ذاتيا أو يطور نفسه ذاتيا ، ولم تعد بمثابة “بنية فوقية” تمثل ظاهرة إضافية.

ومع ذلك فنحن بعيدون عن سوسيولوجيا ثقافية ، هذه السوسيولوجيا التي قد تستلزم مراجعة عامة للنظرية السوسيولوجية كي نأخذ بعين الاعتبار التمييز الذي يبرز التكامل والتعارض بين ما هو تكويني وما هو ظاهراتي (وهي كذلك السوسيولوجيا التي تنطبق على الأنساق المنظمة ذاتيا وفق صيغ شديدة التنوع). وفي انتظار ذلك تبقى الأسئلة الأكثر أهمية مفتوحة على مصراعيها: إننا لم نضع بعد تصنيفا للمنظومات النولوجية التي قد تسمح بالتمييز مثلا بين الأنساق النظرية ، الأنساق الإيديولوجية ، والأنساق الميثولوجية ( ولنقل أكثر من ذلك إن الدراما التراجيكوميدية لعلم الاجتماع في الوقت الحالي تتمثل في أن كل تصور يعلن أن مسلماته تشكل المبادئ النظرية الأساسية لهذا العلم، ويدين التصورات الأخرى باعتبارها “إيديولوجية” أو “أسطورية”).

إننا لم نحدد بعد نوع أو أنواع العلاقات بين الثقافة التكوينية والظاهراتية الاجتماعية (الممارسة) ، بين الممارسة الاجتماعية والمنتوجات الثقافية؛ في ما يتعلق بهذا المعنى الأخير ، فقد تم إهمال أسئلة أولية من طرف أولئك الذين “كانوا يترجمون” الأعمال الأدبية أو السينمائية سوسيولوجيا: هل هناك شفرة قارة وأحادية الدلالة في بعض الظروف الحضارية المعطاة؟ وما هي؟ هل هناك محددات اجتماعية أحادية الدلالة ومميزة؟ ألا يحول الطابع العرضي لعمل فردي ما دون استقراء سوسيولوجي للوحدات ( أو الأعمال) المعزولة؟

يجب أن نقول إن السوسيولوجي المنقب، وهو يعتقد أنه يدخل شفرته ضمن العمل ( الفكري) كي يستخرج منه الرسالة ، إنما يدخل رسالته (هو) كي يستخرج – منتصرا- شفرته ( الخاصة). إننا لم نختبر حتى المشكل الجوهري: مشكل الانتقال من “رسالة” ثقافية إلى الخاصية الظاهراتية الإضافية أو الخاصية التكوينية (مثل الانتقال من الحلم الاستيهامي المثالي المتعلق بسرقة أسرار صناعة الطيران)، أو العكس (كالانتقال من إكراه حضارة تقليدية مثل وضع غطاء الرأس باعتباره علامة مميزة لساكنات Pont-l’abbé إلى وضعه باعتباره ظاهرة إضافية فلكلورية). يمكن بل يجب أن نواصل طرح أسئلة أخرى قد تساهم جميعها في البرهنة على أن علم الظواهر النولوجية ووجهه الآخر السوسيولوجي ، أي السوسيولوجيا الثقافية، لم يتم بناؤهما بعد3.

Edgar Morin, pour une théorie de la culture (in sociologie, Fayard, 1994, pp.153-163)

الهوامش

1 –  ميشيل دو سيرتو، الحق في الكلام ، la Prise de la parole باريس ، 1968.

2 – مجلة  الإنسان والمجتمع l’Homme et la Société، العدد 8، أبريل – يونيو 1968، ص 31.

3 – لقد حاولنا القيام بذلك في كتابنا المنهج ، الجزء 4: الأفكار، لوسوي، 1991.

تعليق واحد

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.