الرئيسية | بالواضح | ملامح جادة | محمد بنميلود

ملامح جادة | محمد بنميلود

محمد بنميلود

 

كلما بدأت بكتابة شيء أحس بقوة خفية تدفعني إلى ضخ كثير من السخرية والتهكم واللامبالاة داخل ما أكتبه. أبدأ الكتابة بجدية ثم ما تلبث يدي تقهقه والقلم يتمطى ويتلوى وقد أصبح لدنا كالمطاط ساخرا باستهزاء كبير من كل شيء. أتذكر بعض الملامح الجادة جدا لبعض الكتاب فتتلبسني شياطين السخرية والهزء أكثر. أحاول باستمرار أن أصير جادا، أقرر ذلك بصرامة في أعماقي، أتدرب عليه تدريبا كثيفا، وعند التنفيذ أفشل. سرعان ما أعود إلى طبيعتي الساخرة المتمردة الملولة الضجرانة من كل شيء ومن أي شيء. أجد أن الأطفال وحدهم يحق لهم أن يظلوا جادين، أن يحلموا بجد، أن يبكوا بجد، وأن يقهقهوا بجد. حين يكبر المرء قليلا عليه أن يتخلى عن تلك الجدية للأغبياء وإلا فسيبدو هو أيضا غبيا مثيرا للنكات. إلا إن كان غبيا من الأصل فلا جناح عليه، أو نصابا. حين يكون نصابا تبدو جديته معقولة، فالضحك يفسد البيع، إذ بمجرد ما يضحك البائع حتى يرى ضحاياه حقيقته في ضحكته المفتقدة للعظمة وللوقار وللمجد، رغم أن بطنه التي يخفيها جيدا خلف ثيابه مضحكة حتى وهو عابس، بل تصير مضحكة أكثر كلما عبس أكثر. كلما رأيت شخصا جادا عابسا إلا وتخيلت شكل بطنه، أو شكل أعضاء أخرى أكثر سرية، مهما كانت أفكاره واختراعاته عظيمة متسامية مترفعة عن الجسد وعن الصغائر يبدو كمهرج طرد من السيرك توا بثياب التهريج. بعضهم ينصب على نفسه فقط، وبعضهم الآخر نفسه هي التي تنصب عليه. إني أكتب فقط لأسخر من العظمة ومن العظماء وخصوصا من شبه العظمة وأشباه العظماء.

تقريبا كل ما أكتبه منذ أكثر من ست سنوات أكتبه مضطجعا على ظهري فوق سريري، لا أجلس أبدا أثناء الكتابة، إنها فعل حميم كممارسة الحب لا تستقيم إلا في وضع الحب، متخففا من ملابسك أو عاريا بالكامل فذلك أفضل. لا يمكنني تخيل أي نوع من الجدية أثناء ممارسة الحب ولا أثناء ممارسة الكتابة. إنها أعمال غير معقولة على الإطلاق، لذلك نظل نتبعها إلى الأبد، لأنها منفلتة غير قابلة للضبط. رجل جاد يخلع ثيابه ليضاجع زوجته. ينتقل بسرعة البرق من الجدية المفرطة إلى اتخاذ أوضاع غير معقولة بجسده، مضحكة ومثيرة للاستغراب، ينخرط أكثر في المضاجعة وهو يلهث وظهره المشعر قد تعرق وقدماه الضخمتان ترتعشان. أين ذهبت الجدية؟ لم تذهب إلى أي مكان، فهو يمارس هذه الأشياء غير المعقولة أيضا بمعقولية فائقة وبجدية أكبر، بحيث يصير أضحوكة كاملة متكاملة خالصة للأطفال كما للكبار. حين يضبط الأطفال شابا يضاجع حبيبته خلف سور المدرسة لا يبدو ذلك مثيرا للضحك بل مثيرا للاهتمام ولحب الاكتشاف ومثيرا لبعض اللذة أيضا. لكن تخيلوا أن يضبط الأطفال مدير المدرسة يضاجع زوجته. سيبدو ذلك مباشرة مثيرا للقهقهات. أنا نفسي سأقهقه أمام مشد كهذا رغم أني لم أعد طفلا، إذ يكفي أن أتخيل جدية المدير وصلعته الكبيرة ونظارته الطبية السميكة التي لا تسقط أثناء المضاجعة حتى أسقط أرضا غارقا في لعاب ضحك الأطفال. بعد ذلك يأتي كاتب ليمثل أنه جاد وأنه طبع كتبا كثيرة وأنه أصبح مهما لا يقول إلا الحقيقة، بينما المذيعة تقول عبر نشرة الأخبار إن كوكبا سيصطدم بالأرض بعد سنوات قليلة وسينهي كل هذه المهازل. سقطت أنظمة كثيرة وتشردت شعوب وذلك الكاتب مازال يبدو جادا ومهما في الصور كأستاذ في القرية، بل كناظر مدرسة القرية نفسه الذي يأخذ نصف أتعابه مالا والنصف الآخر بيضا وجبنة ولبنا وأكواز ذرة، البيض يسلقه واللبن يشربه والجبنة يلحسها وأكواس الذرة يجلس عليها.

أكتب وأنا مضطجع على ظهري، بحيث أظل أرى بطني باستمرار أثناء الكتابة فلا أجرؤ أبدا على أي نوع من الجدية. إني أكتب فقط لأسخر وأسخر ثم لأسخر، من نفسي أولا، ثم بالتالي من الجميع ومن كل شيء، إذ من غير المنطق في شيء أن تسخر من نفسك وفي نفس الوقت تجد العالم عظيما. كل أسماء العظماء تضحكني، كاسم الإسكندر الأكبر مثلا، إذ أتخيل باستمرار إسكندرا أصغر آخر يتبعه باستمرار كظله دون أن يدري أحد لماذا. لماذا يتبع الإسكندر الأصغر الإسكندر الأكبر؟ لا أحد يدري. أعتقد أن التاريخ مازال يذكره فقط بسبب اسمه المقرون بعبارة: الأكبر. لو كان اسمه الإسكندر الأصغر لنسيه التاريخ، فذاكرة التاريخ عجوز لا تتذكر سوى الكلمات الخرِفة الكبيرة.

مهمتي هي أن أسخر من الكلمات الكبيرة، أن ألصق ذيول سعادين خلفها. كل العظماء مضحكون، لقد أكلتهم الديدان، بحيث يتبادر إلى الذهن مباشرة سؤال محير: أليست الديدان وحدها من يستحق العظمة؟ لقد أكلت الجميع ومسحت كل الأفكار العظيمة عن الوجود وقد بدأت بأكل أمخاخ الفلاسفة والأغبياء أولا لأنها وجدتها هشة كالحلوى، وأيضا آجلا أم آجلا ستأكل الجميع، ملوكا ولصوصا، دون أن تميز أو أن تجد طعم هذا أفضل من طعم هذا إلا بالتقوى.

ينزلون الجثة داخل القبر، تسأل الديدان: من هذا؟

تجيبها الملائكة: إنه كاتب رديء كان يعتقد نفسه عظيما

تقول الديدان بتواضع: حسنا لا مشكلة، سنوكل أمرنا إلى الله ونأكله، يجب أن يختفي عن الوجود حتى لا يزعج هذا العالم بتفاهاته كما أزعج بها عالم الأحياء، ليس أمامنا سوى الصبر على مذاقه.

ينزلون جثة أخرى. تسئل الديدان من هذا؟

يجيبونها: إنه حاكم.

تصرخ الديدان محتجة: أوه هذا لا، لن نأكله أبدا مهما حصل، طعمه غير مشجع على الإطلاق !

تقول الملائكة: ومن سيأكله أيتها الديدان؟ هل سنتركه هكذا هنا ليحكمنا أيضا؟

تتنهد الديدان وتقول: كلا كلا لن نقبل ذلك، حسنا سنأكله وأمرنا لله، اذهبي أنت أيتها الملائكة الآن مرتاحة إلى شؤونك سنأكله. تغمض عيونها وتبدأ بالأكل على مضض كمن ينفذ عقوبة.

أين ذهب الموتى الطيبون المساكين الذين حرمهم الموت الشرير من الآيس كريم ومن متع الحياة الأخرى؟؟

لقد أكلتهم الديدان. هذا مضحك للغاية.

لقد أكلت الديدان كل شيء وستأكل كل شيء.

شيء واحد أعتقد أنها لن تأكله احتراما له هو القهقهات، وشنب نيتشه..

تعليق واحد

  1. وجدت النص غارقا في الجدية ،أستاذ محمد ، لم يخرج عن الخطاب الخاضع للمنطق كما يحاول كل نص أن يكون مقنعا . هل كان هم نيتشه إقناع قارئه أم خلخلة مسلماته ؟ شكرا استادي .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.