الرئيسية | بالواضح | مدارس الباليه في مواجهة التطرف! | رباب كمال – مصر

مدارس الباليه في مواجهة التطرف! | رباب كمال – مصر

رباب كمال – مصر

منذ عام و تحديدا في مارس 2015 ، قامت وزارة الأوقاف بغلق 27 ألف زاوية صلاة  ( المساجد الأهلية ) في مصر ليس بالضرورة لأن تلك الزوايا يخرج منها خطابا دينيًا متطرفًا بقدر ما كان السبب حسب وزارة الأوقاف هو أن تلك الزوايا أقل من 80 مترًا، و كأن خطاب الكراهية مرتبط بمساحة المسجد الضئيلة، و كأن المساجد الشاسعة لا تحتاح إلى مراجعة خطابها الديني .
قصة المساجد الأهلية قصة طويلة الأمد و تزامنت  مع الاعفاءات الضريبية  التي يحصل عليها بناة تلك المساجد، و من أشهر أنواع تلك المساجد الأهلية ما ُيعرف باسم ” الزوايا ” التي أقيمت أسفل العقارات .
تشير الإحصاءات الرسمية في مصر إلى أنه خلال الفترة من 1970 و حتى 1982 كان يتم بناء ثلاث مساجد أهلية يوميًا ، فوصل عددها في عام 1982 إلى 26 ألف مسجدا و تجدر الإشارة إلى أن هذه الزيادة كانت مرتبطة في جانب منها بحجم الاعفاءات الضريبية التي يتمتع بها أصحاب العقارات إذا ما قاموا ببناء مسجد أسفل عماراتهم.
و تلك الاحصاءات كانت محل دراسات عديدة من أهمها ما ورد في البحث الاستقصائي الذي  أعده الباحث عبد الله شلبي بعنوان ” الدين و الصراع الاجتماعي في مصر ( 1970- 1985)  و تم إنجاز هذه الدراسة في 8 سنوات ما بين 1986 و 1994.
بالفعل حصلت العقارات التي خصصت الطوابق السفلية للمساجد الأهلية أو ” الزوايا ”  على اعفاءات ضريبية و اعفاءات من دفع رسوم إمداد المرافق الأساسية .
و كان وكيل وزارة الأوقاف نفسه سالم  عبد الجليل قد صرح في يونيو 2014 بأن تلك الزوايا  التي تم بنائها  تم استخدامها كذريعة من أجل التهرب من حقوق الدولة، وأهمها الضرائب وتكلفة دخول المياه والكهرباء التي يعفى منها تمامًا بحجة أنها للمسجد .

التفتت الدولة إلى حقوقها المهدرة و كم الاعفاءات الضريبية التي تمنحها و بدأت تأخذ اجراءات تنظيم بناء المساجد الأهلية و الزوايا منذ عام 2002 و كان أهمها وقف تخصيص الطوابق السفلية أسفل العقارات للزوايا وعدم بناء المساجد على أراضي زراعية لمنع تجريفها .

تفاقمت الأزمة في العامين الماضيين بعد شروع الأوقاف في ضم تلك الزوايا إليها  لإحكام السيطرة عليها، وتراءى للبعض الآخر سحب تلك الاعفاءات لتبقى بدون فائدة لأصحابها  وما زالت الأزمة مستمرة خاصة وأن هناك عمالة بتلك المساجد لم تحل اشكاليتهم بشكل قاطع.

المثير للدهشة أن الاستفاقة لما تقدمه كثير من هذه الزوايا على مدار الأعوام من خطاب تحريضي متطرف جاء متأخرًا وجاء تاليًا لحقوق الدولة المادية  المهدرة في صورة اعفاءات ضريبية.

وصلت تلك المعضلة إلى أوجها في جامعة القاهرة نفسها والتي أغلقت تلك الزوايا القابعة في حرم الجامعة وقام  مجموعة من الليبراليين قبل السلفيين  بمهاجمة قرار الجامعة  بغلقها، على اعتبار  أنها ُتضيق الخناق على الطلاب في أداء الشعائر .. تناسى  هؤلاء الليبراليون الذين يدافعون عن أي قضية على طريقة أنها الصيحة الرائجة الآن .. أربعة  أمور  هامة:

أولا : أن تلك الزوايا استولت عليها جماعات دينية من التيارات السلفية وغيرها والتي بثت من خلالها خطاب تحريضي.

ثانيا: أنه تم غلق تلك الزوايا بالتزامن مع افتتاح جامعة القاهرة للمسجد الجامع الكبير بتاريخ 6 نوفمبر 2015 أي أن هذا ينسف نظرية تضييق الخناق على ممارسة الشعائر

ثالثا : أن حرية ممارسة الشعائر ليست قاصرة على المسلمين فقط.

رابعا : أهم ما تنساه دعاة الليبرالية  و هم يدافعون عن تلك الزوايا  و عن حرية ممارسة الشعائر هو  أن الجامعة مكان للدراسة و ليس لاقامة  الابتهالات و الاعتكاف و المكوث بالزوايا و إقامة دروس الوعظ الديني.

كان على هؤلاء الليبراليون أن يتذكروا أن تلك الزوايا القابعة داخل جامعة القاهرة خرج منها خطابًا تحريضيا ضد إقامة العروض المسرحية في الجامعة لدرجة وصلت إلى تهديد الفتيات  المشاركات في الأعمال الفنية.

و قد روى وزير الثقافة الأسبق عماد أبو غازي رواية صادمة في محاضرة ألقاها بمركز دال للأبحاث بعنوان “مستقبل الثقافة في مصر” يوم 26 مارس 2015  ، رصد  محاولة قمع المتطرفين للأعمال الفنية في الجامعة و روى  تفاصيل التعرض بالإيذاء لطالبة مشاركة ببطولة عرض مسرحي ، فقام رئيس جامعة القاهرة حينذاك الدكتور مفيد شهاب (1993-1997) بارسال سيارة خاصة لتأمين وصول الطالبة للجامعة لاقامة العرض المسرحي.

ماذا لو ؟
سرحت بخيالي لحظة و نحن في خضم هذه الأزمة التي تراكمت عبر سنوات و عقود اسُتخدمت فيها كثير من  تلك الزوايا  كمانبر للمتطرفين   و تخيلت لبرهة  أن الدولة كانت تمنح الاعفاءات و التسهيلات  من أجل  تخصيص الطوابق السفلية بالعقارات لتشييد   مراكز تعليم الفنون و الموسيقى و الرسم و تشجيع الافراد بتسهيلات اضافية.. إن قاموا بتشييد هذه المراكز الأهلية و زوايا الفنون  في المحافظات حتى لا تكون قاصرة على المدن الكبيرة .

بالطبع هذا ليس حلا سحريًا للتطرف و لكن القوة الناعمة عادة  ما تكون خط الدفاع الأول ضد الأفكار العنصرية ، على الأقل تساهم في تنشئة  أجيال لا تعتاد سماع طرف واحد حاضر بقوة في حياتها اليومية من خلال تلك الأوكار الدينية  ليؤكد لها أن  ” الفنون رذيلة ” كما كانت تردد كثير من هذه الزوايا . فكانت على الدولة المصرية أن تدرك أن المكون الثقافي سيواجه موجات التطرف الا إذا  كان التوجه السياسي العام هو  “دروشة المجتمع “

في خضم هذه الرؤية ، انتشر  خبر تأسيس أول مدرسة لتعليم  الباليه  في صعيد مصر  ، تحديدا في محافظة  المنيا ( التي وقعت فيها أحداث الاعتدائات الطائفية على المسيحيين ) ، المركز الثقافي  الراعي لمدرسة الباليه في الصعيد ُيدعى ألوانات المنيا  ، و هو مركز تم انشاءه بالجهود الذاتيه و يشارك فيه  40 متوطعًا حسب ما قاله لي مؤسس المركز  السيد ماركو عادل والذي لم يكن الوصول إليه و تجاذب أطراف الحديث معه  صعبًا .

مركز ألوانات يخصص مساحات لتعليم الموسيقى و العزف على البيانو و الكامنجا  و العود و الكلارنيت و يركز في التعامل مع الأطفال و  الشباب  و تعليمهم قيمة الفن للارتقاء بأرواحهم ، ويتعاون المركز مع معهد جوتة الألماني  لتعليم الفتيات المهتمات بصناعة السينما ما يلزمهم من مهارات للاحتراف ، و بدأ كذلك  مدرسة أطفال لممارسة رياضة الجمباز   ، و الأهم من ذلك أن المركز ينقل نشاطاته إلى القرى بل قد تضم الفاعلية الواحدة أكثر من 200 طفل ، و استطاعوا أن يصلوا للعمل في القرى النائية مثل  ( بلنصورة – طهنا – بردنوها ) و يأملون في الوصول لقرى أكثر في الصعيد . هذا عوضا عن مشروع مهرجان السينما الذي  يقيمونه ويتنافس فيه المشاركون على انتاج الأفلام القصيرة بالجهود الذاتية البسيطة .

أما مدرسة الباليه التي أصبحت حديث الساعة كونها تأسست في المنيا ، فيقول ماركو عادل بكل هدوء أن الأمر  ليس جديدا بل يعود إلى يونيو 2015 إلا أن الاعلام انتبه مؤخرًا للأمر ، و أن هذه هي الدفعة الثالثة من مدرسة الباليه .

سألت السيد ماركو عادل  سؤالين سيطرا على تفكيري
أولهما : هل تواجهون مضايقات من المتطرفين  ؟ قال لي أن المركز فاعل من 2014 ولم ينكر أن هناك أصوات تتهمهم  بنشر الفسق و الرذيلة  و المجون في المجتمع و لكنه يدرك أيضأ أن وسط هذه العتمة القاتمة يوجد  أهالي  لديها الوعي الكافي ليحرصون على إدراك قيمة الفن  بأشكاله المختلفة في حياة أبنائهم وهم ليسوا بالضرورة أبناء النخبة .
و أضاف ماركو عادل مؤسس المبادرة أنهم يحرصون  في مركز ألوانات على غرز قيمة الفنون في الأطفال  بعيدا عن السياسة و الدين.
ثانيهما  : كيف تودون أن تدعمكم الدولة ؟ فقال لا نريد سوى تذليل العقبات و تسهيل إقامة الفعاليات الثقافية و الفنية على بعض المسارح أو الملاعب .
أنهيت حديثي معه بالثناء على ما تفعله هذه المجموعة الشابة في المنيا و صعيد مصر بجهود ذاتية ، و قلت له لقد قامت  اليابان  ببناء بلادها بجهود المجتمع المدني و كذلك ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية ، فقال لي ماركو عادل ” نحن مشكلتنا أكبر من ألمانيا و اليابان ”
كان محقًا ، تلك البلاد لم تهاجر شعوبها إلى الآخرة و لم تحشر آخرتها في دنياها ، و اهتمت بقيمة الإنسان قبل أن تهتم بقيمة المنشآت .

الخاتمة
لربما يكون الرد الحاضر للقارئ  هو أن هذه المجموعة الشابة التي  أسست مركز ألوانات الثقافي  لم تأت بجديد ولا بمعجزة و  أن  هذه المراكز منتشرة ، في الحقيقة الأصح أن نقول أن هذه المراكزة  موجودة  و أماكن تمركزها في المدن الكبيرة إلا أنها بالتأكيد ليست منتشرة في المحافظات … و ياليتها تكن منتشرة إلى الحد الذي نستطيع من خلالها استقطاب الأطفال و الشباب إلى الفنون لا إلى الأفكار المتطرفة.

لربما يجب علينا مقارنة أعداد الزوايا التي ظلت تزيد طين التطرف بلة.. بمراكز الفنون لندرك لماذا  تقهقرت الثقافة العامة في مصر .

هل من الممكن إذًا  أن نواجه التطرف بمدارس الباليه و الجمباز وحصص الموسيقى ؟  يمكننا ذلك و لكن حين تعمم التجربة و تدعهما الدولة كما دعمت شيوخ التطرف في اعلامها وكما  دعمت دجالين الاعجاز العلمي على صفحات جرائدها القومية و كما دعمت الجماعات السلفية و الجهادية ضد اليسار والليبراليين  في الجامعات، وتماما كما دعمت وقدمت تسهيلات وإعفاءات لاقامة الزوايا التي حرضت ضد الدولة نفسها  وضد قيمة المواطنة.

إن تعميم التجربة و تشجيعها من قِبل الدولة ومؤسساتها  خاصة في الصعيد لا يقل عن المشاريع العملاقة، بل أن دعم الفنون وتنشئة أجيال تقدر قيمته وتجده متاحًا  في قراها ومراكزها مشروع عملاق في حد ذاته.
إلا أن دعم تلك المشاريع  بالتسهيلات البسيطة يحتاج إلى تواجد الدولة لا انسحابها من صعيد مصر وثقافته القبلية، حتى لا تكون المراكز هدفًا للمتطرفين واعتداءاتهم  وحتى لا يتم استغلال تلك المراكز من  قبل المتعصبين في نشر ثقافة الفنون الحلال والحرام  فنعود إلى المربع صفر .

فهل تدعم الدولة الأفراد من أجل نشر و انتشار مراكز الفنون المختلفة في محافظات مصر كما دعمت الأفراد و سهلت لهم بناء الزوايا التي اسُتخدمت في تصدير خطاب عنصري و طائفي في تلك البلاد !!

لن نواجه الاعتداءت الطائفية في المنيا مثلا  و غيرها بوصلات من عزف الكامنجا  و الكلارنيت و لكن قد نساعد في تنشئة جيل يعزف الموسيقى بدلا من ترديد  فتاوى ضرب الأعناق .و قد نساعد في تنشئة أجيال تقدر فنون الرقص بدلا من الرقص على القبور.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.