الرئيسية | سرديات | متاهة | عبد الحق طوع

متاهة | عبد الحق طوع

عبد الحق طوع

حين طرقت باب غرفته في الطابق الخامس الرقم ١٣ في فندق بئيس … كان مفتوحا … ودخلت .
كان يجلس على كرسي يقابل حاسوب . دون حراك ووجدت الشبه الكبيرب يني وبينه بل وكأننا خرجنا من نفس الرحم و في نفس اليوم .
لماذا تركته هنا وحيدا ؟ وأين كنت ؟ ولماذا الآن وبعد غياب طويل يفاجئني بموته .
ولأنني أقاسمه عشق ”الحرف ” وأشياء أخرى، إنزلق النظر على محمول أوراقه المبعثرة وشدتني الكلمة الأولى :
حـ…حشـ…حشـ…رجة…

وسايرت لذة الانزلاق :

حـ…حشـ…حشـ…رجة…
وصوت…
وصوت أنين مغتال …
ت
ه
ا
و
ى …
تهاوى الجسد كورقة خريف من شجرة… جذورها في غيمة لاتعد بقطرة ماء واحدة .
قبل…
قبل قليل : كان هنا .
يرسم بالكلمات قصر  دفء لأوجاع العظام والذاكرة .
…………..
…………..
قبل قليل : كان هنا .
سيدة الغرفة الآن : روحه .
كان هنا …
عيناه بزهو طاووس خبرنا البريق بصوت المتعال : أنا الخلود
سيدة الغرفة تنزلق كفراشة مذعورة على أشيائه الحميمية وإليه ترنو بدهشة عدم التصديق : عطب اليقين .
وهي تنزلق …حط … حط النظر وهام في عمق تأمل شبه دامع للكرسي الحامل لجسد كان هنا قبل قليل .
مدمدما بتلك الأغنية الساخرة :
وأخيرا ستستريح من ثقل الأيام ودورة الفصول البليدة .
وحدها شقائق النعمان تلك التي ستسلل من بين شقوق متواك الأبدي خلسة ، تعرف حر الأسرار .
وهي هنا ( وأشار إلى الأورا ق المبعثرة على الطاولة ) هيهات من ملك تحت لسانه سيفا فك رموزها .
وارتفع صوتها بلهب نارقديمة في الأعماق :
ـ أهذا كل شيء ؟
أين ؟
أين ؟
يا أنا ؟
أين ؟
شمس وحولي الكواكب والنجوم والمذنبات … تدور .
……………

……………

الراحل جالس على كرسيه في صمت مهيب ، يتكيء بمرفقيه على الطاولة ورأسه غارق بين أوارق مبعثرة وعيناه مفتوحتان على شساعة شاشة الحاسوب ، وهو يعيد مشهد صورة لوجه يعرف بشاعته البشر ، الطير والحجر .
وجه يبتسم بخبث … إبتسامة تترجم نواياه ودون تقية أو قناع بتحد تغني :
ـ روح العالم أنا . سديم فوضاه : نظامي .
ومن قال : هواء أرضي نار ؟
هي برد وسلام لقامتي .
……………

أعرف …
أعرف إلى أين يذهب يقين حدسك أيها الشبيه !؟!
هم …
هم عديدون استباحوا القلب بالغدر والقتل …
هم عديدون …
والمصاب أفواه تنتظر محمول سلتنا .
ولكل بيت حفاره وفقيه يرثل الآيات بالمقلوب .
هم …
هم عديدون
ويقول أهل الباطن بلسان ضيق العبارة وإغتراب المعنى :
سبب دمارنا : موت الكرامة .
هيهات لراكب غيمة خوف النزول إلى حضرتهم .أول الطريق إلى فتح هذا الباب والنزول : اليقظة .
باب واحد بعدد النجوم : مزلاجه .
صرنا أكثر حكمة من النعامة … وليس من الضروري التيمم بالرمال … في كل نفس شساعة : صحراء .
لنجلس …
لنجلس إذن وننتظر .
هكذا تكلم الخوف لليقظة وبهمس لا تردد الجدران وجعه .
وأي
وجع
يا وجع ؟
وهل تضمد الكلمات حره ؟
هلْ ….؟
هل يحلق النورس الكسير الجريح المنعزل ويواصل السفر إلى جزيرة ” إلى أين ” ؟
جزيرة حلم بها السندباد لكن الموت كان عربته إلى الجهة الخارجة عن خريطة ميدوزا اليقين .
وقبل رحيله ، رأيته يبيع المركب قطع ألواح في سوق المزاد وأختار الإقامة في كأس أوفي فردوس سراب في الذاكرة . قيد نفسه بصحيفة ضوء شياطينها الحروف …..صور للعراء …..ودردشة تقف على ساق واحدة : سجنه الإنفرادي
الباب مفتوح ….. وأقدامه لن تهرب به بعيداً عن قيد في القلب والذاكرة مهما فكرفي الركض.

ولاأحد..

لاأحد في المشهد إلا غناء الصخرة القديمة ، تحتفل وتنادم آخر وردة على الأرض .
قاتلي اليوم لن يحتاج إلى قناع .
ولن يأخد مكانه في زاوية من الزقاق وفي الظلام وينتظر قدومي .
القطة/الأم : التي تحملت ثقل بطنها ، ساعة السقوط و الجوع سيد الحضور تفترس صغارها .
وعين الله …
شاهدة على عرس الدم .
وتردد هاويات الغابة أنين الهارب من نفسه… أنين …لايعلو صراخه حتى لايكون وجع صوته ضوء دليل لأنياب جاهزة للعض والبلع .
خطأ سمينا حفر الأرض مقبرة …وما قبورنا إلا في بطونهم .
وأنا العبد الجبان المغلوب على أمره المحمول .
أما أجسادنا المودوعة هناك : قشرة موز .
وقيل أن قشرة الموزله قدرة علاج ضغط الدم المرتفع وقيل بدء العمل على إستخراج الطاقة بعد سحقه … ولمالا … في الزمن القادم تولد نظرية تتبث أن مسحوق عظامنا يفيد إطلاة العمر وقد تولد من رحم نفس النظرية ، مولود نظرية جديدة تعد بالخلود …طبعا المصاب في هذه الحرب وكسائر الحروب البشرية القديمة ، المصاب دوما نحن من لا مخبأ لنا .

إن حياتي تتحدد بحركتي وما يغدي قامتي من ماء وسماد ومعنى : حب ، رغبة ، حرية …
وكلما …
كلما سارعنا بالحفر، إزدادت سرعتنا بالخروج من هذا النفق .
الإنتظار يميت القلب .
ولاينبغي النظرإلى علاقتنا بالأرض بالذي نشمه ونلمسه من خلال ثقب غصن الخيزران ، أما السماء بأي حق نلقي ثقل خوفنا وضعفنا على غيومها وننتظر الحل .
تأمل…
تأمل جيدا…
ليس في السماء إلا النجوم .
أما إن حدثني عن الواجد .
جوابي : نعم
لي تصوري الخاص ولاتضع سيفا على عنقي .
ومعناه إحترم تصوري ولنتحد جميعا على الإله البشري المريض بجنون العظمة والأرقام .
أما ذلك الهيكل العظمي الأبيض المخيف شكله المتلحف بالتراب لا يهمني ….
أدفنوه
أو
أسحقوه
أو اجعلوه حطبا لمواقدكم …
تأكد … يا معذبي :
لا أنين .

يقال أن البجعة عندما تشيخ أولجرح ما يذكرها بخاتمة لركضها الطويل تعتزل عن بقية السرب وتختارمنفاها البارد الأخير…وهناك ترثي نفسها بموال حزين.
يذكرني البجعة بغرابة حكمة عجوز في حكاية يبانية قديمة ، طلب من أولاده أن يحملوه إلى قمة جبل ونفذوا وصية العجوز…وتركوه هناك مع الطعام الكافي والماء منتظرا حلول فصل الشتاء الثلجي وعندما كسا القمة بغطائه الأبيض وأتى زمن الشمس ، جرف الذوبان كل شيء .
العجوزمنح لرغبته هذه إسما غريبا : الحج الأعظم .
ترى مالذي فكر فيه العجوز في عزلته ؟
تمنيت لو كان للبجعة حق الكلام لتوضح لنا سبب عزوفها عن مواصلة العيش مع فصيلتها ؟
هل في عزلة العجوز والبجعة شرف الأنا وعلوها ورفضت أن تكون عالة على الآخرين ؟
في مثل هذه العزلة تكمن أرستقراطية الأنا وبإمتياز كبير.
وهي أرستقراطية تقول :
تبا لشفقة والرحمة ومرحبا بالعزلة لأنها ستحجب عن الآخر ضحالة ضعفي .
صحيحْ …
إن الضعف مفزع ومرعب … وهو جزء من تكويننا النفسي …وما محرك مواجعه إلا الخوف وإستحضاروجع ثقله . وقد يصبح عادة سيئة ونحوله إلى عكاز طريق .
وأي طريق ؟
بناء الأهرامات والمعابد فوق غيمة أو زبد بيد معروقة …وهي تتحرك وترسم وجه معذيبها على الجدران السقف والبلاط… يعلو السوط وينزل ويلسع ظهورها العارية ومن حرك عيناه في رأسه فأمه هاوية ، نار قضبان حامية .
تتوسل الرحمة من سديم العدم .

لا
لا
وجدت لكي أعيش أولا .
ولا عيش دون كرامة .
وفي ظل غيابها الموت .
النعلة …
النعلة لمن حول سقف بيته حانوت عهر .
ولمن يركع وبعرقه يلمع حذاء معذبيه . و يكشف عن نصفه السفلي ويخاطبه :
هل لك من هذا أو هذ ا؟
فقط…
دع مولاي وسيدي خبزك يواصل دخول معدتي .
وطوبى لحراس وسام الكرامة .
ويقول لنا شرفهم وشجاعتهم : هو يزول …إيهْ الضعف … يزول لو نزعنا الجبن وعصرناه من جذوره حتى آخر قطرة من عروقنا .
.
دون نزعه : لاقوة .
ولعل في الإنفراد بالأنا المحبطة والإحتفاء بها يضاعف من ضعفنا : لاقوة .
سمي تحمل لسعات سوطها : قبرنا الأبدي .
أنظر…
أنظر إليهم لقد توحدوا على قهرنا .
ونحن ؟
آه يانحن …
توحدنا على إذلال من هم أضعف منا . لأن الضعف درجات تماما كالقوة .
إن لذة الإستسلام والإنعزال والإنتظار… قدوم الثلج والعاصفة وقبلة لسان الشمس الحارق … لذات سلبية . تمنيت لو آثر هذا العجوز الياباني لنفسه حكمة جوته وهو في سن الثمانين يحتفي بعلو الحياة وعمقها ويغني :

أشعر كأنني أختلف عن سائر خلق الله وأبدل مجهودا يفوق جهدهم …مع مطلع كل شمس نهار جديد أفكر في شيء جديد فقط لكي لا أشعر بالضجروالملل ، أجل يجب أن نعيش حركة الفكروالجسد على الدوام وإلا أبتلينا بتعفن النظر والإنصات . وسكنا برودة القبر قبل حضور ذاك الذي ينتظر العبد والسيد : الموت .

بل وهو على فراش الموت طلب بعينيه من أصدقائه وأهله ورقة وريشة وكتب :
النافذة …
افتحوها …
أرجوكم أصدقائي
وكأن لسانه يقول :
دعوا أشعة الشمس تدفيء العظام لعلها تقاوم صقيع ظلمة الكون، ليواصل جوته صديقكم الكتابة .
وسلم الروح لمن سجنها في قفص الجسد .
هل زاره النص الحلم الذي باع من أجله فاوست روحه لشيطان ؟
هل زاره في هذه اللحظة ؟

من يخاف لايتقدم .

كلنا نعرف أحفاد العجوز الياباني اليوم …تعلموا من الدرس …و كلنا يعرف من كان المعلم .
ليست حكمة الجد البلهاء …
لا
لا
تلك الرسالة البرق الناري الخاطف التي سقطت في سنة ٦ من أغسطس سنة ١٩٤٥ .
رسالة موقعة بِ ” أنا الرب ” وضعت في ظرف مكشوف ساعيه طائرجيف إسمه “إينولا غاي” .
وحصدت ثمانين ألف إنسان في ثانية …ليعود الطائرضاحكا إلى عشه وهناك يستقبله سيده بكؤوس من الشمابنيا وليلة بيضاء ماجنة .
لقد تيقنوا أن البنادق الخشبية لاتحقق الإنتصار ، تماما كالعزلة البليدة عن العالم والإكتفاء بطعام الأرز تحت إدارة حكمة تعاليم رجل دين يقرء معاني الحروف بالمقلوب .

آه ياعقل !!!!!
أرفض…
أرفض طريقه المسدود ، أي ذاك الذي يقع فريسة للفهم المغلوط ويحاول إثبات حطامه عين كامله و له الصلاحية في قيادة قارب الحياة وسط بحر غاضبة أمواجه وفي نفس القارب : فأر صغيرتخيل بدافع جوعه وهو يشم الخشب العائم خبزا .
و يواصل القضم ليل نهار.

مَنْ مِنهما على حق في وهمه ؟
وقاربنا مهدد بالغرق ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
همي الأول : سقف ، عمل وليف وبعدها يمكن أن نتحدث في موضوع الله …هل يوجد أو إن شئت عدمه . يستحيل أن أفكر فيه بجسد معطفه عراء الليل ، والمعدة فارغة والسريرعريض طويل وبارد .
لقد دمرني هذا الفهم المغلوط وكنت فأرا تخيل دماره بدافع اليأس شعاع أمل في النجاة .
وما تعبت من القضم والحلم والإنتظار …. وأغنية البحر تهمس في أذن السكران بوهمه :

ـ من فقد توازنه …. عمقي مقامه .

كيف ؟
كيف نقهر هذا النحيب الجنائزي ؟
كيف …؟

………………

لحظة … لحظة … من فضلك .
من المتحدث هنا والأن ؟
ومن منا القائل :
” في مثل هذه العزلة تكمن أرستقراطية الأنا وبإمتياز كبير.”
إسمعني جيدا ….
الإنسان مقاومة وإن قست الطبيعة علينا وحرمتنا من حركة عضو ما في جسدنا .
لنخلق …
لنخلق ألفة مع نقيصتنا ونحول أوجاعها إلى لوحة لنهار جميل .
وهل من مات عقله يحتاج إلى قوة المسيح لكي يعيد حركته إلى الحياة ؟
عضو لايعوضه عقرب لسان .
وأي لوحة لنهار جميل سيرسم من ماتت كرامته /عقله ؟
ولقد كرمنا الإنسان بعقله … هذا ما يتغنى به العلو والأفق .
العقل الذي أقصد ذاك الذي يكن مطلق الإحترام والتبجيل لأمه ولها أجمل الأسماء : محبة الحكمة .
وهي لاتقيم إلا في الجمال ولسانها لايتعب من الغناء بحرية وسعادة الإنسان كإرادة ورغبة وقدرة على الخلق والإبداع .

وإذا أجبرنا الحكمة على الكلام ستقول لنا :
إن الحياة التي تتنفس بالكراهية وإحتقار كل ماهو جميل ، يستحيل أن أقيم تحت سقفها .
وهل يدخل الحكيم إلى منزل لاتدخله الشمس ؟
عندما يخلو خراج العقل من النزعة الإنسانية يتحول إلى آلة للقتل .
وليس بالضرورة رصاصة أورسالة “إينولا غاي” ١٩٤٥إلى اليابان .
أو إلى …..
تعددت الآلة والجهات والخراب واحد .
والمستهذف دائما ودوما الإنسان الأعزل .
همه الوحيد سعادته وقد وجدها أخيرا تحت سقف دفء عائلته .
وهل تركه خراج العقل المريض .؟
أصبحنا في ظل هذه الحضارة المرض ومضة شاردة وصار العقل المدبر المفكر خادما للذين يفكرون اليوم تدمير كوكبنا والصعود إلى القمر وليس غريبا شراء أراضي هناك ، أكيد أثبت لهم العقل الخادم المطيع لأهوائهم إمكانية الحياة هناك . ومادامت الحياة هناك مضمونة فليذهب إلى الجحيم هذا الكوكب العجوز..

أولاد الأبالسة لقد حولوا المجانين المرضى والمساجين إلى قتلة و قنابل موقوتة .

نعم للعقل نغمته الجميلة .
وليس ذاك الذي مع جرعة كونياك حصدت رسالته ثمانين ألف إنسان في ثانية .
.
…………………
أتسمي هذه قصة ؟
………………

أرجوك ..
حاول القبض على الكلمات الهاربة من شفتيك … إجلس ونظم فوضى الأعماق وعد إلى غرفة الراحل . نحن نريد حكاية…
هل تسمع ؟
إبدء إذن …
إنك ” هنا ” عزيزي كفراشتك تنط من فكرة إلى خاطرة إلى صمت حيرة لاتخدم الكلام بالبركان المطلوب صوته وحممه في كل كتابة صادقة مع الحلم وهو حلم في حاجة إلى سماد وماء .
لماذا تركض بهذا الشكل البئيس ؟ عن أي شيء تبحث ؟
إجلس…
إجلس إليها ونظم فوضاك وكن بسيطا مع جرح مشهد يسكن الذاكرة ، خلخل أرضه بقبلة الأميرالأزرق للأميرة النائمة .
لا بقرع الطبول والنفير.
أكيد فكرة الحرب تطاردك .
تلك حقيقة ترقص في أفق حياتنا ” الأن ” و ” هنا ” .
وماذا سنخسر أكثر مما خسرناه …. قريبا سنحول السماء إلى مقبرة .
ألم تقل في نص لك وسميته ” عين العدم ” على لسان الأب نيكولاس :

( أنظر سيدي إلى العلاقات البشرية. جافة، يطبعها التكلف والمجاملة الكاذبة. النفاق والأنانية. أما الخيانة شحدت خنجرهآلقديم لتطعن حبيب القلب، من الخلف. جرائم القتل تقع في كل ثانية وبلا حصر. والرعب يتجول في الشوارع، القرى والمدن. ولا أحد…لا أحد اليوم يملك يقين سلامة عودته الى البيت هذا المساء. مات المعنى في حياتنا، ولا مكان تحت قبة هذا الكون، يعد بالدفء.
وأطفاله أدركوا عمق أحزاننا وشيخوختنا المبكرة، وبدل أن يرسم أطفالنا لوحة لعالم جميل وهادئ، رسموا ورودا حديقة ذابلة وأشجار اقتلعت جذورها وتمارها لم تنضج بعد. وتلك العصافير التي كانت تعكس بتغاريدهابهجة الحياة،رسموها كأوراق خريف ملقاةعلى الأرض، وبشكل حزين تحتضر. رسموا أنواعا من الأسلحة، أسلحة حرب تعرضها الشاشة الصغيرة مع مطلع كل نشرة أخبار. رسموا الدمار… الدخان… الجيف … أحشاء بشرية …. رسموا مدنا وقرى تحترق والإنسان يحمل قبره ويركض بين الأنقاض . حفر الأرض ترفضه ، والسماء تتوعده بالعقاب . طرق ولا نقطة ضوء واحدة تلوح في الأفق . عين شبح الإنتحار تطارده .والوصايا تعددت .ودمعة الضجر ، القرف ، المسخ ، الإغتراب والقهر أنهار والمصب رمل … رمل جشع لا يشبع …..أما أطفال الحرب لا وقت لديهم لرسم . هم يبحثون عن مخبأ .

إن ضربة جنون تهدد هذا الكوكب … أنظر…أنظر الى نجومه … ومنذ زمن بعيد وبعيد تنحو الى الأفول واحدة …واحدة .
وصناعةالألم : خبز العصر اليومي .
ناقوس الخطر تدلى من السماء… أرهف السمع جيدا … هل تسمع ؟ آه ربي …ربي ، حقا قرعه الصاخب هذا لايطمئن بخير.نحن المصابون. لا مخبأ لنا …. لا مخبأ لنا ربي . ووحدك ربي تعلم العلم اليقين هلْ…هل الحي منا ستنتعش روحه بعد الغبار ،الدخان ، بعطر آخر وردة على الأرض .أغمض عينيك وتخيل هذا العالم . شيء رهيب حقا .
إن موت طفل برصاصة من بندقية جندي أجبروه بدافع الخبز على القتل : عار نتحمله جميعا )

وقد تنتهي الحرب
لكن عين لاتنام
مفتوحة دوما على جرح ذكريات ليلة قهر بعيدة .
وهل ينام من به نوبة شجن وأحزان ؟
حتى وإن أجبرتموه على الرقص …وهل يمكن الرقص على ساق واحدة ؟

إجلس …
وكن منصتا لأنغام الطائرالجريح الكسير الذي قلت في حقه :

(هل يحلق النورس الكسيرالجريح المنعزل ويواصل السفرإلى جزيرة ” إلى أين ” ؟)

بلى …
بلى سيدي ومولاي… وكن له نعم الرفيق الحكيم… لما لا … لا… بل أكيد … غدا مع إطلالة شمس صباح قادم قد يحلق .وقد ينعم بجمال وهواء الجزيرة الحلم ، ولنحافظ على الإسم … ولما لا… جزيرة ” إلى أين ” لكي نواصل دوما البحث عن الأجمل .

إجلس ولا تفكر الأن في الحشرجة الملعونة التي كانت شرارة البوح الأولى ، وواصل الحكي .
مفهوم …
لنبدء بتنظيم فوضى حروفك هذه .
واعلم أن كل نظام إن طال أمده ينقلب إلى جمود وقعود . وكل تباث هو موت .
لنبدء إذن …

ودندنت روحه :
لقد سكنت جسدك أيها الجالس على الكرسي ”الآن” و”هنا ” … كيف للذي يخيفه ظله أن يتقدم ؟
أنت تعرف نفسك جيدا … وأعتقد أنك لست في حاجة إلى المزيد من المواجع . يكفي ما أبتليت به …لأنك بكل بساطة تزعجك المرآة .وأكثر من هذا فظاعة فأنت …..
هل اكشف عري الأوراق لشمس ؟
هي….
هي في الحقيقة حكاية قديمة وإن كانت كذلك فهي عين حاضرك .
في يوم من سنة ….

جلس إلى حاسوبه وبدء النقرعلى الحرف الأول تم الثاني والثالث والرابع وزاوج بينهم وقرء بصوت يتمايل مع حروف الكلمات :
(حـ…حشـ…حشـ…رجة…
وصوت…
وصوت أنين مغتال …
ت
ه
ا
و
ى …
تهاوى الجسد كورقة خريف من شجرة… جذورها في غيمة لاتعد بقطرة ماء واحدة .
قبل…
قبل قليل : كان هنا .
يرسم بالكلمات قصردفء لأوجاع العظام والذاكرة .
…………..
…………..
قبل قليل : كان هنا .
سيدة الغرفة الآن : روحه .
كان هنا …
عيناه بزهو طاووس خبرنا البريق بصوت المتعال : أنا الخلود
…………….
……………..
…………….)
خلود؟؟؟
لحظة …
لحظة من فظلك ولما لا … ؟
خلود يقوم على قهرالأسباب التي تقود إلى الموت المبكر.
إن العبودية موت .
ومن قال أن زمن العبودية إنتهى ؟
الفرق الوحيد اليوم أن كل واحد منا ينام في بيته والعين مفتوحة على الساعة المنبهة ، ينتظر الخيوط الأولى لأشعة الشمس ليذهب إلى الزيادة في إنتاجهم ، والمقابل حبة خردل .
السوط تحول إلى طرد أو عقوبات …النقص في الدخل وممارسة العنف النفسي ضده .
كل …كل عامل اليوم يعرف هذا … أشْ غادي إيديرْ ؟
وجوابه :

ـ الخبز قاصحْ أُو حَارْ أولد عمي .

خلود ما هو إنساني فينا… لعله يدفء بشر الزمن القادم …
أكيد هناك يمكن الحديث عن ” موت الإنسان ”
الأن…
الأن نعيش حشرجته الأخيرة .
ويكون الرب الرحيم ” آلة ”.
” آلة ”…
قد تسهل طرق عيشهم ، لكن مشاعرهم صقيع لايطاق …

والذي سيواصل قراءة روايات ”الحپ سيكون خارج مدينتهم .

تركت الباب مفتوحا وعدت حيت كنت …أين كنت؟… شيء غريبا حقا أشعر بأن جسمي قد خف وزنه بشكل كبيروأنني بإمكاني أن أحلق كالطيور . وقلت في نفسي :

ـ من منا يحلم الآن ؟
ومن منا الحي ومن منا الميت ؟
أم يصح عليك قول الإمام المغدوربه :
” الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا ”
ويضيف :
” استهينوا بالموت ، فإن مرارته في خوفه ”
الجنون حلم طويل .
من علاماته : الهذيان ، البلاهة وفقدان المعنى .

وكلانا نحلم
.
وتذكرت أنهم عندما أخدوني وبالعنف والقسوة والضرب الوحشي كنت جالسا إلى مكانه ، كنت أكتب …
وقبل جلوسي للكتابة …صفعت العجوز صاحبة الفندق…الكلبة القذرة نصف المدينة ملكيتها ومع ذلك تتمتع برغبة شرهة في البلع وتطالب بالمزيد والمزيد .
وفكرة القناعة كنزلايفنى بالنسبة للعجوزقائلها ينبغي أن يشنق بأمعائه .
نعم…
صفعت العجوز لأنها فكرت في تحويلي إلى كلب من كلابها بفرض قوانين لاتتلأم مع حريتي كنزيل في الفندق بحجة أنني أزعج هدوء نزلائه بالنقر على حروف الكتابة ودون إحترام نومهم . أنا في الحقيقة لاأريدهم أن يستسلموا لهذا النوم البليد …
نعم… لها حقول أيضا لزراعة العنب الذي بعد جنيه يعصر لإستخراج الخمر…نعم… هم يعملون في مزرعتها ولأن من الصعب الحصول على دفء سقف ، لهذا السبب شيدت العدد الكبير من الفنادق . وهل الثعبان يسلم سمه بالمجان ؟. … نعم… صفعت العجوزو شتمت كل نزلائه بل خرجت إلى الشارع عاريا مني وخفيفا مما يثقلني…أردد أغاني ثورية …

لا…

لاعلاقة لها بفلسفة ذلك الألماني الذي يشاركني العداء لجشع العجوز . ولا بمخططات ذلك الرجل الذي جلس على العرش بعد إنهيار قصرالقيصر … هي أغاني نظتمها نفوس متعبة ومقهورة ماتت حبا في الأرض وما إستمتعوا بالخراج .
قيل لي هناك في المصحة أصبحت عشرتي لاتطاق. لهذا السبب هجرتني بيلاجي… أين هي الأن ؟
أخاف أن تكون يدايا هذه قد خنقتها وربما اليوم أطلق سراحي بعد سجن طويل . والدليل أن الراحل الجالس أمام الحاسوب لازال شابا وأنا… مرآة المرحاض تقول لقد شخت وأن زمن رحيلي قد حضر.
لكن لماذا سأخنق بيلاجي وهي حبيبتي …عفوا أمي وهي من علمتني الأغاني الثورية ؟

.وحده الجلاد القذر (جدانوف) يعرف محمول نارها وطبعا هذا يخيفه بل يرعبه .
والأم بيلاجي تعرف جيدا الملعون الكلب (جدانوف) تعرف أنها لو واصلت غضبها بنفس النغمة القديمة ضد ” الإرث الثوري ” لقلع أظافرها وجز شعرها وسحق جمجمتها وأرسل الرماد إلى قلعة سيبيريا الرهيبة.
شيء…
شيء حزين ومخزي وعار ومؤلم …أن يتحول المبشربالفرح والحرية إلا سفاح وجلاد والعدواللدود لمبادئه القديمة .
آه ” أنا أخماتوفا ” وحدك تحملين نذوب مرحلة سلطة العقيدة المريضة .
وفي أذني تهمسين :
ـ ليس هذا هو العالم الذي من أجله سجنا وعذبنا . أنا أرفض تلك الإثاوة ولا تلك المصالحة وأية مصالحة والحال أقذر مما كان .

هل من المعقول أن نلغي ونقتل من يعيننا على حب الحياة ؟

بيلاجي …
كل شيء هاديء الآن .
والإخوة في صراع من أجل الغنيمة ومنهم من إرتد عن الطريق ووضع خطوة إلى الوراء وتآمرضد وطنه.
ومنهم من غرق في يم كأس .
ومنهم من قال للمسخ أنت الحكَمُ .
ومنهم من قلد قرد المهرج : لا أسمع ، لا أرى و لا لسان لي .
ومنهم من دخل المعبد من اليسار وبصوت مسموع وجهازالمكبرعلى فمه:
كن مؤمنا بالذي أعطاهم إياكم والحسد والتهور.
ويؤكد :
القناعة كنز لا يفنى .

مزق في مزق
والكأس يدور ….
محموله : أفول نجمة .
وعدتنا ذات مساء
بزغرودة
فرح
و
صعود .

بيلاجي…
سلام…
سلام أيتها ”الأم ” الروسية .
.
خذيني … ضميني … إفتحي النوافذ …´
أتذكرين…
أتذكرين نخلتنا حبيبتي إليها بعد الركض فرحا حزنا الى ظلالها نستريح
نحكي وننسج معطف أحلام … لغذر الأيام … رأيتها تركض عارية من الجذور….
السعف
والتمر
تنظر هلعا الى السماء … وتنتحب :
أين الناس والماء.؟؟؟ أين الخيل والناي ؟؟؟
و
غ
ا
ر
ت
في مدام كأس …
وزيف ضوء …
وغط الملح والنار الرمال .

أكلما لاح لي وصدح أنين نخلتنا ، تذكرني بزمهريرقيامة تلوح في أفق الأيام .
و
تمايلت رقصا مع وجع نغمته : جوهر وجودي .
سميه حبيبتي : صمتي .
صمت يمتطي عربة موت ،عجلاتها تركض في جنون نحو مقبرة تحت سمائها ينام : غرباء الإسم .
شتات/ رقم ….. ذاكرتهم .
أكلما أينعت زهرته وفاحت بعطرأسئلة ، توضحت وتألقت ….هيء حراس الوقت البنادق والمقاصل و فتحوا أبواب السجون .
سمي صمتي :
ي
ت
م
ا
ق
تعكس حضوري .

لماذا شعر راسكولنيكوف بالذنب في قتله للعجوزالبشعة الجشعة الجائعة في الدم؟
نبتة جذورها تعمقت في تربة الإفتراس .
قانون واحد هو شريعتها :
أقتل أو تموت .
راسكولنيكوف رمز للإنسان المريض بأخلاقيات الضمير .
هو ضمير مسيحي ولنا يقول ويوصينا :
أدر خدك الأيمن لمن صفعك على خدك الأيسر.
هل معاناة سبيريا سوطه علمه تقبيل يد معذبيه ؟
…………
…………

إلى أين سأذهب الآن ؟
لا…لا…لا
سأنتظر دفنه وأجلس في مكانه وأواصل الحكي…

ولماذا تأخر هؤلاء الأوغاد في الحضور ؟ ألا تنبههم الروائح النتنة التي تفوح من جسد الراحل على موته .
أكيد بشر هذا الزمن فقدوا حاسة الشم وأكيد أيضا الإنصات والنظر .
وإلى أين سأذهب ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
لا…
لاأعرف…
من…
أين أتيت …
فكيف لى أن أعرف إلى أين أنا ذاهب ؟
إلى أين ؟
وهل سأجد ماأبحث عنه ؟
وعن ماذا أبحث أصلا ؟
من الأفضل لي أن أعود إلى غرفته ، على الأقل هناك تحت سقف غرفته أحسست بدفء كبيروحبب لي النوم إلى جانبه نعم هناك اعتدت النوم بعين واحدة والثانية مفتوحة ،حتى لاتفاجئني صفعة من كف غادرة في الظلام وقد انتباني إحساس غريب يمكن تسميته بالأمان الأعظم … ولمالا … علمتني لسعات سوط الزمان لعبة الإنتظار وكيف لا أنتظر في هذا اليم المتلاطم أمواجه : أنا ، هي ، هو ، الإثنان معا ، نحن ، هم ، هن …..؟؟؟؟؟؟؟؟
وإن كان يفوقني سنا خاطبته بشبيهي … من منا المرآة ؟

أين سأجد تحت سقف الكون مكانا أجمل من بيت كاتب .
طوال حياتي كنت أحلم بلقاء كاتب والجلوس إليه بالأحرى الإقامة تحت سقفه .
قلما تجد بيتا وروده الكتب .
إن بيته حديقة بعطر لايتبخرأريجه ولاتذبل ألوان محمولها .
هواء بيته : حرية وجمال .
وليس علامة موت .
أن يحولونك إلى آلة مطيعة تتحرك بضغطهم على أزرارك : عبودية .
عبودية والباب مفتوح .
بل قد تتمنى من خالقك أن ينقص من عمرك ويطيل في عمر معذبيك ، لأن حياة سلتك رهينة بوجودهم .
ملعون الخبز المغموس في عرق الذل .
من أكله وشكر خالقه تموت كرامته ….ومن ماتت كرامته عجلوا بدفنه .

السعادة تقيم تحت سقف هذا البيت حتى وإن أجمع بسطاء التفكير من الناس على بؤس وجنون الرجل . ليس من السهل على عقولهم الصغيرة إدراكها لأنهم سجناء الظاهر … وحدها العين الحَكم .
هو يحتاج إلى حاسة أخرى ليس من البساطة الفوز بها ، يفوز ببهائها من إكتوت نفسه بنار الحكمة … الحكمة التي يكون أفقها جمال الفهم العميق لنغمة جرح الوجود … لذة فهمها لاتأتي إلا بصلاة المعاناة … لا أقصد الجسدية والنفسية المرفوعة بل صلاة معاناة البحث والركض في حقل الروح .
وهذا الحقل كتب على بابه : لايدخل علينا إلا من كان مخلصا للحكمة .وليس كل من دخل إستسلمت له .

لندخل إلى غرفته :

سيدة الغرفة الآن : روحه .
كان هنا …
…………

نحن غارقين في الآخرين عزيزي .
قلت نحن …من نحن ؟
ومن أنا ،ومن أنت ،ومن هي ، ومن هو ، هما، هم ، هن …..؟؟؟؟؟؟؟؟
دعْ…دعْ الشمعة شبيهي مشتعلة سنقضي ليلة هنا طويلة …. ولفراشتنا حرية الحوم…. كم …. كم هي عميقة باردة ومملة هذه اللعبة .
أكيد…
أكيد في طفولتي والتي واصلت سير عربة حياتي ورسمت هاويات الطريق معالم عنفها بياضا وأحتل حقل الرأس …لم ألعب بما فيه الكفاية … ربما الحرمان القديم وجد لذته ” الآن ” و”هنا ” .
فاتني أن تستقيم رجولتي وبها أتواصل مع الحياة .
هي الناطقة في سلوكي ، في تفكيري وليس غريبا أن تتضخم ” الأنا ” في علاقتي مع من يقاسمونني الهواء .
نعم … آه … الكتابة … ولما لا إنها لعبة على الأقل تحررني من عقرب الضجر.

سأنتظر دفن شبيهي وأجلس في مكانه وسأواصل الحكي عن هذا الشيخ/ الطفل … لا من حيت إنتهى ، بل من شرارة البداية وستكون البداية هكذا :
(حين طرقت باب غرفته في الطابق الخامس الرقم ١٣ في فندق بئيس … كان مفتوحا … ودخلت .

كان يجلس على كرسي يقابل حاسوب . دون حراك ووجدت الشبه الكبيربيني وبينه بل وكأننا خرجنا من نفس الرحم و في نفس اليوم .
لماذا تركته هنا وحيدا ؟ وأين كنت ؟ ولماذا الأن وبعد غياب طويل يفاجئني بموته .
إقتربت من أوراقه المبعثرة وشدتني الكلمة الأولى :

حـ…حشـ…حشـ…رجة…
وصوت…
وصوت أنين مغتال …
ت
ه
ا
و
ى …

…………
………… )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبد الحق طوع إسبانيا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.