الرئيسية | أدب وفن | الفن | تشكيل | ما بعد “عصر كورونا”.. نحو عالم مغاير | عز الدين بوركة – المغرب

ما بعد “عصر كورونا”.. نحو عالم مغاير | عز الدين بوركة – المغرب

  • استرجاع الأنفاس:

لقد جعلت جائحة كورونا العالم بأسره أمام ضرورة إعادة النظر في كل رؤاه وأنظمته الكبرى، ومساءلتها وإعادة التفكير في جدواها في مواجهة مثل هذه الأزمات الإنسانية التي تطال العالم كليا دونما أي استثناء. لقد جعلت هذه الكارثة الوبائية “الجلّ” ينعزل إلى الداخل، داخل الدور، وأن تُقْفِل الأُسَرُ أبواب منازلها للنجاة. فـ”من دخل داره فهو آمن”!. لقد أصبح فعل الخروج من المنزل فعلا محفوفا بالمخاطرة، تحتاج معه لحسابات دقيقة من الوقاية والآمان. فالقاتل الخفي يتربص بالناس في كل مكان.

ولا تتمثل المخاطرة في الخروج فحسب، بل في الشراء والتبضع، فالفيروس موجود في كل حيز. كائن خفي يهدد حياتنا واستقرارنا العالمي، مبينا عن هشاشة الأنظمة العالمية الوقائية، وأبرز إلى جانب شجع وأنانية معظم الناس، فشل دول كبرى في تدبير الفاجعة، التي لا تستثن أحدا ولا بلدا. فالكل سواسية أمام “كورونافيروس”. بل إن مواطني العالم بأسره باتوا شخوصا بطلة وثانوية في رواية أو فيلم تتمحور قصته(ا) حول انتشار وباء عالمي. وفي الوقت نفسه أبرزت هذه الفاجعة ضعف الإنسان الباحث عن الكمال بكل أبحاثه وتكنولوجيتها المتعالية، أمام فتك الطبيعة والبيئة التي أظهرت جبروتها.

  • صراع القوى:

لقد سعى الإنسان منذ الأزمنة البعيدة ومنذ الحضارات الغابرة أن يسيطر على الطبيعة ويقوض البيئة لصالحه، بل حتى سقوط المطر والتحكم في زحف الصحراء…؛ سعيه هذا كان دائما في منحى التحكم بالكوكب وخيراته، وقد تصارعت الحضارات ليس باسم إيديولوجية معينة فحسب، بل حتى من أجل موارد الكوكب. وذلك لخدمة وجوده وخدمة الجنس البشري، على حساب باقي الكائنات. لهذا استنبت أنواعا جديدة وهجّن كائنات وطوّر جينات حيوانات وغير في جيناته، كل ذلك عبر بحث لاواعي أو واعي عن الإنسان الأعلى. إلا أن الإنسان الأعلى كما نظرت له الفلسفة النيتشوية: هو إنسان ليس قويا جسمانيا فحسب، بل قوي فكريا وعلميا أيضا، قادر على التكيّف مع الوضع وجعله في خدمته ولصالحه. لهذا يرى مجموعة من المفكرين بأن الإنسان وهو إزاء هذه الظرفية إنما يتلقى عاملا جديدا قد يؤثر في جيناته بطفرات جديدة قادرة على جعله أكثر مقاومة وتكيفا مع القادم من الأوبئة والجائحات. فقد مرت على البشرية جائحات وفاجعات كبرى، تخطتها وتقوت عبر إصلاح أخطائها ورأب تصدعاتها التي كادت تُضْعْفُها.

غير أن فيروس كورونا أظهر قوة لم يكن ليتخيلها الإنسان، ومقاومة مازلت مستمرة لأشهر عديدة. وبينما يحاول الإنسان الانتصار على هذا الكائن الذي يهدد هيمنته، يجد نفسه أمام معضلة كون جسده هو “سلاح عدوه الحالي”، لهذا اختار العزلة والانسحاب إلى الداخل، داخل الدور.

  • الهيمنة والامتلاك:

إن الإنسان كان ولا يزال مدفوعا بغريزة الهيمنة والسيطرة. بل إنها غريزة الامتلاك، بالمعنى الأدق. لهذا سعى جاهدا لأن يمتلك أراض أكثر، ويجعلها تخدم مصالحه ومؤسساته غير مهتم بالضروريات البيئية، والأولويات الطبيعية، فقد دمر غابات وقاد أنهرا للجفاف… مغيّرا الخريطة البيئية، ما أدخل الأرض في عصر جديد موسوم بالاحتباس الحراري، وعصر جيولوجي نووي. الأرض تشع من الأسفل وتحترق من الأعلى. فهيمنة الإنسان على المكان (الكوكب) تغيرت من الاكتفاء بالموارد الداخلية أو استخراج الموارد اللازمة، إلى الإنتاج الميكانيكي الذي قاد إلى عصر من الاستهلاك المفرط للموارد بلا أي عقلانية، كل ذلك لصالح مؤسسات وأفراد بعينهم، لصالح القلة بهذا المعنى. هذه القلة التي لا تكف عن ترويج خطابها الاستهلاكي: “استهلك! استهلك! كل ما ليس في صالحك هو في صالحك!” و”كل ما لا تحتاجه، استهلكه! “. ما ذهب بالإنسان إلى حد استنزاف الموارد الخامة والحيوية في الأرض، ودخ المزيد من السموم نحو السماء. وهو ما دفع بفيروسات للتطور والتغير حسب الظروف الحالية.

  • مكمن الحل:

لقد كشفت فاجعة فيروس كورونا على كل هذه الأمور وأشياء خفية ظل الإنسان المستهلك المعاصر يخفيها، مقابل نشر خطاب السيطرة، بينما لم تكن كل تلك النظريات والفلسفات التي نظرت للإنسان المتعالي تدعوا قط للتدمير والتخريب من أجل التخريب والتدمير ولصالح خدمة الجشع والاستهلاك غير الـمُعَــقْلَن، بل كانت دعوتها أن تجعل البيئة والتكنولوجية لصالح الإنسان وخدمته، في احترام كليٍّ للكائنات التي تقاسمنا الكوكب. فـ”ما الإنسان، إلا كائن وجب عليه أن يتفوّق على ذاته”، يقول نيتشه. إذن، فسعي الإنسان للتعالي لا يمر عبر التفوق على الطبيعة بل التفوق على ذات. لهذا يدعو منظر الإنسان الأعلى، إلى أن يكون الصديق لأخيه الإنسان “كالهواء الطلق والعزلة والغذاء والدواء”. فالإنسانية لن تبلغ كمالها عبر الجشع، بل عبر أَنْسَنَةِ العالم، وعبر التضامن والتعاون.

صراعنا مع فيروس كورونا بقدر ما كشف عن عيوبنا، فقد أظهر نقط قوى يمكن أن تطوّرها البشرية لخلق نظام عالمي أقوى وأكثر تكافل، نظام مغاير للعولمة التي “لا تفتأ تشتغل كمنظومة كلية مترابطة الوجوه والمستويات”، ما جعلها تخترق كل الحواجز وكل الحدود، لتصير المتحكم في العالم اقتصاديا وثقافيا، وبالتالي سياسيا، فإذ “ليست ثقافة العولمة هذه سوى أيديولوجيا العولمة”. وفشل النظام العالمي اليوم في كبح تفشي هذا الوباء بفعل أنانية دول، أو استهتار أخرى، يقود النظام العَوْلَماتي إلى الانهيار بفعل فشل ثقافة العولمة…

لقد أبرز لنا صراعنا الحالي، والذي لا يزال ممتدا، ضعف أجسادنا، التي سعينا بها إلى الكمال. لا نقول هذا لنبرز ضعفها الأبدي، بل إن أي خطوة مقبلة ترنو للتغلب على الجائحات والأوبئة القادمة، تبدأ أولا من فك شفرة هذا الكائن الذي يصرعنا على الهيمنة، وفي الوقت نفسه تقوية أجسادنا التي بها نوجد في العالم، ذلك عبر علمنة العالم والعلوم ما يجعل العالم أكثر واقعية وحقيقة من ذي قبل.

 

*اللوجة للفنان التشكيلي المغربي رشيد باخوز، 2021

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.