الرئيسية | فكر ونقد | قراءة في «لسان الأخرس» لعبد الله المتقي | عبد الرزاق هيضراني

قراءة في «لسان الأخرس» لعبد الله المتقي | عبد الرزاق هيضراني

عبد الرزاق هيضراني

 

فحولة مشفرة في دائرة الاِتهام

قراءة في المجموعة القصصية «لسان الأخرس» لعبد الله المتقي

                                    

من يقرأ المجموعة ق ق ج «لسان الأخرس» لعبد الله المتقي، الصادرة عن دار النايا، 2014، يجد نفسه وسط عالم ذكوري مشفر ببيانات صامتة، وأمام تشفير قصصي متناظر له ممكناته في إنطاق مضمرات هذا العالم أي آستنطاق الخرس وفضح ما يضمره من مخاتلة وغدر. ولا غرابة في التشفير القصصي المتناظر الذي تتميز به مجموعة«لسان الأخرس»، ذلك أنها تنتمي لجنس كتابي مختلف حكمته في أنظمة تشفيره، يكتفي بالإشارة ليحقق وجوده وربما ليباغث مسلمات القراءة بكثير من التشفير. لذلكتتأسس المجموعة على آستعارة مستوحاة من عالم صامت لا تصدر منه لغة. وهذه الاِستعارة هدفها فضح عوالم ذكورية تستلذ بما تقترفه من جرائم ضد الأنثى،لتقتحم بيانات لغة الخرس المشفرة، وتحقق دهشة القراءة من خلالها بتفكيك أنظمة التعمية التي تستخدمها شخوصها في ممارسة شهوة التسيد والإلغاء.              

التقابل السالب

تنبني قصص “لسان الأخرس” على بنى تقابلية بين عالمين؛ عالم الأنثى وعالم الذكر. ويأخذ هذا التقابل صورة متناقضة بين وجودين، وجود أنثوي منقوص ووجود ذكوري صامت لكنه مكتمل بله مستفحل. وينشأ التقابل السالب بسبب ما يضمره الذكر من مشاعر خادعة آتجاه الأنثى كما نقرأ في قصة “حب” التي تنقل مشهد عاشقين في مقهى كورنيش يتابعان الأخبار، بحيث لا يقابل الذكر مشاعر الأنثى بمشاعر مماثلة وإنما يقابل لغة المشاعر بتأمل لا يترتب عنه أية إجابة أو تفاعل،

(قالت له بصوت بدا عليه الاِرتياح:

“الحب هو الحل”

تأملها مليا،.. ولا شيء سوى

أصوات لنوارس يأتي من بعيد) ص 179

نلاحظ في هذا النموذج ما يلي:

أ- الشخوص منكرة لا أسماء لها ولا صفات

ب- أنثى تتكلم لغة مقابل ذكر لا يتكلم اللغة نفسها وإن كان يفهما

ج- ظهور صوت لنوارس يكسر وحشة اللغة.

إن تنكير الشخصية دليل على توسيع الحكاية لتشمل مواقف وعوالم مماثلة وما أكثرها. ويجعل من السلوك أهمية بغض النظر عن مكانه، بحيث لا يعدو أن يكون فضاء هذه القصة وغيرها وعاء لسلوك وعلاقة تتكرر في أزمنة وأماكن متعددة. لكن المثير في القصة هو آنتفاء المعادل الموضوعي للغة التي تتكلم بها الأنثى. الشيء الذي يجعل العلاقة بين الجنسين،بآستحضار اللغة كوسيلة للتواصل، علاقة أحادية وتراتبية تبوئ السيادة لخرس متلون. ورجوعا إلى فكرة الفضاء التي أشرنا إليها والتي قلنا إنها لا تكتسي أهمية كبرى ومطلقة، نؤكد ذلك بآستحضار قصة “سبابة” أو قصة “آنسلاخ” أو قصة “مقام” التي تنبني هي الأخرى على هذا التقابل الفضائي السالب، بحيث يجلس رجل قبالة آمرأة لكن من دون لغة أو وصال، والذي يمكن أن نستخلص من القصتين معا أن الذي يجعل الاِتحاد متحققا بين الذكر والأنثى ليس الفضاء وإنما اللغة ومشاعرها. بل إن هذا المشهد وغيره في قصص الأخرس يجعلنا ننتهي إلى فكرة مفادها أن الخرس لا يرتبط فقط بلغة تحقق شرط التواصل، لكن الخرس الذي يضمره سلوك الذكر، في القصتين السابقتين، هو خرس وجودي مطلق.

ترويض اللغة ومباغتة القراءة

إنها القصة ق ج التي تبني أفقا مفارقا بتكثيف وعجائبية قل نظيرها كما تتجلى في قصص “لسان الأخرس”. ولا يقف هم الكتابة في “لسان الأخرس” عند تكثيف اللغة ومباغتة القارئ بشعرية ناضجة، وإنما يدخل القارئ في دوامة المفارقة. فهي تستفز القارئ لقراءة مضمرات الخرس وهوياته القاتلة والمقنعة. إنها تجعل من الخرس نفسه آلية لترويض الأنثى عبر اللغة، على العكس مما جرى بين شهرزاد وشهريار. فالمعادلة هنا تنتصر للخرس وليس للغة أو الحكاية، ويتحول لسان الأخرس الذي لا ينطق إلى هوية سالبة لوجود اللغة.

هذه هي جنسية القصة ق ج. نظام من المجاز الشعري والتكثيف المرجعي. بقدر تعريتها لسلوك بقدر آنفتاحها على إمكانية التأويل لتخلق تساؤلات حول ذوات تتحرك في دائرة الاِتهام إذا ما جردت من مكاسب البلاغة والزخرف. أما المباغتة فهي التي تخلخل القصة وتعيد ترتيب أوراق القراءة مثلما تعري ذكورة خرساء لكن وجودها لا يضاهيه وجود. هذه المباغتة هي التي تقحم الأنثى نفسها في دائرة الفعل.

لنقرأ قصة “سرير السرد” على سبيل المثال،

(كانت الثلوج تدثر المداخن والسقوف

بمحض الصدفة بزغ رجل شتوي) ص 185

المداخن نعرفها جيدا بآعتبارنا قراء أو أفرادا عاديين، والسقوف الجرداء نعرفها، غير أن العجائبية تبدأ من آستعارة المعطف للثلج الذي يغطي السقف الأجرد والمداخن السود. لكن الذي يباغت أكثر هو أن دخول الرجل إلى عالم مستور بالبياض سيحدث المفاجأة الغير متوقعة. وسيقحم الرجل ذاته في عالم مستور وصامت لينتهكه بالتحريض على الفعل،

(كان كل شيء أبيض بالثلج

حيث تبدو آمرأة بمعطف بنفسجي

وبين أصابعها سيجارة منطفئة

يلتقي الرجل والمرأة في مفترق الطرق

ويفكران في زجاجاة نبيذ

وسرير من السرد) 185

لم يتغير أي شيء قبل دخول الرجل إلى مضمار المكان والأنثى. لكن عندما يقتحم يحول اللقاء إلى علاقة- رغبة. بل الأدهى من ذلك هو أن التفكير في سرير السرد وإن كان يبدو مبادرة من كلا الطرفين، فإن الرجل وإذا ما أعدنا آستحضار لسان هذا الرجل من حيث كونه لا يتكلم لغة غالبا، يدخل الأنثى في رغبة الجنس على إيقاع سرد أنثوي. ولعل هذا المنزع القصصي المفارق ليخلق من الذكر أوجها متعددة. فهو الأخرس كما قرأنا في النماذج السابقة وهو الذي يؤنبه ضميره من دون توقف عن آقتراف الجرم كما في قصة “خصومة” وهو الذكر الذي لا يشبه أحدا ولا يشبه نفسه كما في قصة “لوحات تكعيبية”..

على سبيل الختم

برع المتقي في لسان الأخرس، في أن يعري مجتمعا ثقافيا طبقيا ينتصر فيه وجود الذكر من دون لغة أو حكاية، غير أنه مع ذلك، وبالنظر لمضمرات القصص، لم يسقط عنه تهمة النذالة والخبث. فكل القصص تدين لسان الذكر الخفي، بل وتدين مجتمعا وذاكرة وسلوكيات.

بعد قراءة المجموعة ننتهيإلى ما يلي:

  • ما يمكن أن يضمره الخرس لا يمكن أن تضمره اللغة

  • لا يتحقق الوجود ضرورة من خلال اللغة

  • لا يقتسم الذكر مع الأنثى الإدانة إلا في قصة “غموض” ولا تدين القصة الأنثى بشكل صريح إلا في قصة “الآخر”.

  • ما يمكن أن يمارسه الخرس من آغتيال لا يمكن أن تمارسه البلاغة واللغة

من يقرأ لسان الأخرس لا يتوقف عند شعريتها غالبا. من يقرأها تدفعه إلى أن يبحث  من خلال مضمراتها في مضمرات ثقافة ذكورية. بآختصار تدفعه إلى تأويل، من بين تأويلات متعددة طبعا، مفاده أن الفحولة تضخمت إلى درجة أصبحت معها اللغة أمرا ثانويا لطالما أن التمثل الجمعي كرس ذلك الحضور وأن الخرس والصمت يحقق وجودا لا يضاهيه وجود.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.