الرئيسية | فكر ونقد | قراءة في رواية “هديل سيدة حرة” للبشير الدامون‎ | عبدالرحيم التدلاوي

قراءة في رواية “هديل سيدة حرة” للبشير الدامون‎ | عبدالرحيم التدلاوي

عبدالرحيم التدلاوي

إن الحروب الدينية، أو التي تحت غطاء الدين، لا تزيد الصراع إلا عنفا، وأنه لا يمكن توقيفها إلا بالحب، وبحلم بناء عالم يسوده السلام، عالم يعتمد الأخوة والمواطنة أسسا.

تلك رسالة النص، وتلك مسؤولية الإنسان الحقيقي التي ينبغي أن يطلع بها إن كان يريد أن يكون جديرا بهذا الاسم.

وقد سعت “الحرة” إلى تحمل هذه المسؤولية؛ مسؤولية بناء عالم المحبة والوئام، بالرغم من هول ثقلها، منذ صغرها، فجدتها زرعت فيها الإيمان بالحمامة المخلصة، فما كان من “الحرة” إلا أن آمنت بها، وشدت عليها بالنواجذ، رغم ما اعتراها من شك في وجودها، بفعل كثرة الضربات الشديدة التي تعرضت لها، وبالأخص من الأصدقاء، والخيانة من الأصدقاء والأقارب أشد مضاضة على المرء من الحسام المهند. ولأنها امرأة حرة، فقد تولت السلطة بكل مسؤولية، ونهضت بها أحسن ما يكون النهوض، وسعت إلى إقامة إمارة يسودها التعايش، إلا أن الفكر الذكوري كانت له الكلمة، فأمطرها بالإهانات، وتمكن من عزلها وإسكانها عزلة قاتلة، كانت سببا في هديلها بالفصل الأخير، هديل هو بمثابة بوح وتأمل في الوقت نفسه.

لم تعش الحرة سوى لحظات قليلة من السعادة، مقارنة مع كمية الحزن والقلق، بفعل الحروب ضد العدو الخارجي من جهة، والعدو الداخلي من جهة أخرى، ولم تنتبه لضربات الصديق إلا في اللحظة الأخيرة حين تمكن منها.

وإلقاء نظرة على عدد صفحات الفرح، ستظهر بجلاء ما قدمناه، هي صفحات معدودات، وبالرغم من قصرها مقارنة مع طول صفحات مشاهد الحرب وما تخلفه من خراب، إلا أنها امتزجت بالخوف والندم، على اعتبار أن حبها لخيرون ليس صحيا وفق الشرع.

وإذا كان بعض فقهاء الجهل قد وقفوا في وجه ولاية “الحرة”، فإن الكاتب قد منحها فرصة كتابة الرواية بضميرها، وسمح لصوتها بالحضور، وهو بذلك، يعيد للمرأة أهميتها، ويسعى من خلال سردها إلى إعادة الاعتبار لأدوارها التي سعى المتربصون بالمرأة إلى تغييبها.

ويمكن تقسيم الرواية إلى قسمين اثنين: قسم الأحداث، من طفولة “الحرة” إلى حين عزلها، وقسم تأملها للأحداث بغاية فهمها: “في عزلتي ها أنا بعيدة عن كل التقوض الذي أحاط بي. استنجدت بعزلتي، علها تسعفني عزلتي، في البحث عن تبرير لما حدث ويحدث”. ص 177

تمارس “الحرة” في خلوتها بالمسجد الذي بناه أبوها في شفشاون، تأملاتها بغاية القبض على فهم لما يجري، تأملات هي أقرب إلى روح الحكمة، من مثل: “عندما تهدأ الحروب تتشتت الجيوش ويسقط أو ينتصر الحكام، تظل جمار مخلفاتها وفواجعها وحدها تحرق ما تبقى منا.” ص 177

والحق أنها خلاصة تجربة عاشتها “الحرة” وما يحدثك مثل مجرب خبير.

والتأمل نشاط مهم يسمح لنا بممارسة إنسانيتنا في بعدها القيمي والفلسفي، باعتماد آلية النظر العقلي. التأمل في النص استعادة للموضوع من بدايته، وقراءته بعين ناقدة، وثاقبة، بهدف فهمه، واستخلاص العبر منه. والحق أن التأمل قرين السؤال، والسؤال يظل إسفينا في خصر “الحرة” التي تبحث عن أجوبة ممكنة: يعذبني السؤال. أبحث عن جواب يكون بلسما فأجد ربا واحدا وبشرا جاحدا. ص 179.

و ثمار التأمل الممتعة والمفيدة، هي ما تسعى “الحرة” إلى قطفها، واقتسامها مع الإنسان في حاضره ومستقبله، وحثه على طرح الأسئلة، وعدم الركون للجاهز والمعلب. وإذ تحذره من الانغماس في شهوة القتل والدم المغلفة بغلاف الدين،فإنها، في الوقت نفسه، تحثه على الإقبال على الحياة والحب النقي الصافي القادر على تجاوز كل الحدود الوهمية التي وضعها بنو البشر. أملا في تحقيق “العبور من وحشية الإنسان إلى إنسانيته.” ص183

أما القسم الأول، فهو الحافل بالأحداث، والوقائع؛ وحديث طويل ومفصل عن حياة “الحرة” طفلة وقائدة.

من هي السيدة الحرة؟

في مسألة الاسم:

سميت ب”الحرة” لتتخلص من عقدة الخوف، وتتحرر من قيوده، وحتى لا يكبل حياتها، فيعيق تحليقها بحرية خلف الحمامة المخلصة، فتلك الحمامة هي حلمها الذي عليها أن تظل متشبثة به، لأنه الأمل في إخراج الناس من وحشيتهم إلى إنسانيتهم. ولدت أواخر القرن الخامس عشر بمدينة شفشاون شمال المغرب، كان والدها علي بن موسى بن راشد أمير المدينة، ووالدتها مسيحية إسبانية تحولت إلى الإسلام، ما جعلها تعيش تمزقا وجوديا، وهوياتيا؛ وقد أجج هذا الشعور الفادح بالتمزق، الظرف التاريخي الذي عاشت فيه، حيث تميز بكثرة الحروب خارجيا وداخليا.. تزوجت الحرة من المنظري قائد تطوان وهي لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، وكان زواجا سياسيا تحالفت بموجبه شفشاون وتطوان لمواجهة الغارات البرتغالية التي تمكنت من احتلال بعض الثغور المغربية.. تسلمت الحرة مقاليد الحكم في تطوان بعد وفاة زوجها،والمثير للانتباه، تحملها أعباء الجهاد في فترة استعار الحرب؛ وقد جاء توليها هذا المنصب بشكل دال، في منتصف الرواية تقريبا. نجحت “الحرة” في خوض غمار مواجهات دامية لصد الهجمات الإسبانية والبرتغالية المتحرشة بشمال المغرب. بعدها سيأتي السلطان الوطاسي لخطبتها والزواج منها بقصد تحييدها. لم يكن زواجها بذلك التوهج الذي عرفته مع زوجها، المنظري، ومع عشيقها، خيرون، إذ كان السلطان يعاملها في الفراش كولاية تم فتحها. يقضي وطره وينام، ناسيا متطلبات الزوجة.

هذا الأمر يؤكد أن النية كانت مبيتة، هدفها الأساس، تحييد الحرة، وإبعاد خطرها على الوطاسيين، والبرتغال معا، وكانت على بينة من الأمر، وبفضل فطنتها أدركت أبعاد المؤامرة الخبيثة التي رامها السلطان الوطاسي.  لقد اعتمد الكاتب في حكي روايته على ضمير المتكلم بأن جعل له الريادة والهيمنة،وذلك بغاية جعلنا نعيش مع “الحرة” أطوار حياتها الحافلة والمتقلبة، من منظورها هي كإنسانة ولدت في وسط مضطرب، يعرف الكثير من القلاقل، لم يعرف الهدوء إليه سبيلا، ولم يهنأ بالسلام ولو للحظة. ..

**

-1 رواية «هديل سيدة حرة» البشير الدمون. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. المغرب.2016

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.