الرئيسية | بالواضح | في الحاجة إلى غوستاف لوبون: عنف الجماعة … القانون الموازي – علي أوعبيشة

في الحاجة إلى غوستاف لوبون: عنف الجماعة … القانون الموازي – علي أوعبيشة

علي أوعبيشة

 

“إن الجماهير غير ميّالة كثيرا للتأمّل، وغير مؤهّلة للمحاكمة العقلية. ولكنّها مؤهّلة جدا للانخراط في الممارسة والعمل، والتنظيم الحالي يجعل قوتها ضخمة جدا”

(غوستاف لوبون، دار الساقي، الطبعة الأولى 1991. ص: 45)

ليست السلطة مجرّد نسق مؤسساتي أو منظومة سياسية، فهذا التحديد العقلاني للسلطة يجعل منها كيانا معنويا محضا مفصولا عن الإرث التاريخي لكل أشكال العادات والتقاليد والأساطير المؤسسة لروح شعب ما أو جماعة معينة. لهذا، فإنها أيضا وبشكل جوهري حصيلة إكراه اجتماعي وثقافي…تراكَم في الذاكرة فأصبح يمثّل قاعدة خلفية أو بنية عميقة لتصور الأفراد لذواتهم وللعالم، أو لنقل بعبارة أوضح ذهنية سوسيو- ثقافية مترسخة في جماعة ما، لذلك من الضروري – تبعا للفتح الأركيولوجي- أن نتجاوز التحليل البسيط الذي يربط السلطة بالمفهوم التقليدي للسياسة ويختزلها في التراتبية الهرمية لنظام الحكم ومؤسساته المباشرة، فيغفل عن أكثر صور السلطة تأثيرا وأكثرها تعقيدا وتركيبا.

إن مطلب تحليل السلطة إذن يجب أن يبدأ من تشريح الكيانات التاريخية المتمثّلة في المجتمع والثقافة والدين…أساسا، إذ غالبا ما تكون السلطة السياسية مجرّد مرآة تعكس (العمق) الثقافي أو الاجتماعي أو الديني لجماعة معيّنة، معادِلةً -بشكل من الأشكال- لصور التنظيم داخل الجماعة نفسها، وللعادات والتقاليد ونظم إنتاج المعرفة والمعتقدات والطقوس الدينية والأساطير…هذا ما يجعل من غالبية قوانين الجماعة يتم -عبر الزمن- إضمارها كأنماط للسلوك وطرق للتعامل وتصور محدد للذات وللعالم، ما يجعل من لفظ القانون مثلا، مرتبطا أشد الارتباط بمنطق السلوك، سواء بالإلزام الذي ينتج (الرفض المبدئي والقبول البرجماتي) أو الالتزام الصادر عن قناعة عقلانية بالقانون. بحيث “إن نفسية الجماهير تبيّن لنا إلى أيّ مدى يكون تأثير القوانين والمؤسسات ضعيفا على طبيعتنا الغرائزية العنيفة. وكما تبيّن لنا إلي أيّ مدى تبدو عاجزة عن تشكيل أي رأي شخصي ما عدا الآراء التي لقنت لها أو أوحيت إليها من قبل الآخرين ولا يمكن للقواعد المشتقة من العدالة النظرية الصرفة أن تقودها، وحدها الانطباعات التي يمكن توليدها في روحها يمكنها أن تجذبها ” (المرجع نفسه ص: 48)

منطقُ الجماعة، قائمٌ أساسا على “العاطفة التي تتولّد عن التجمّع”، فالفرد داخل الجموع، لا يفكّر بقدر ما يتأثر، ولا يتأمل أو يخطط بقدر ما يشعر ويتعاطف، غير أن هذه العواطف والمشاعر التي قد تتولّد لديه، أثناء انخراطه في الجَمْع، غالبا، ما تنقلب رأسا على عقب ضد كل ما هو إنساني، إذ عوضَ أن تشحنه بالقيم الإنسانية والحب والتعاون غالبا ما تحرّضه على العنف والهمجية، وكل من أراد أن يخاطب الجموع في لحظات هيجانها، لم يتعلّم بالشكل الكافي من التجربة حتى الآن “أن البشر لا يتصرفون أبدا انطلاقا من مبادئ العقل النظري المحض”[1]، بل تبعا للغرائز والعواطف والتأثير الذي تخلّفه الصور والشعارات… فالجماهير لا تفكّر عقلانيا، وإنما تتبنى الأفكار دفعة واحدة أو ترفضها، وإنها لا تحتمل لا مناقشة ولا اعتراضا، وأنّ التحريضات المؤثرة عليها تغزو كليا ساحة فهمها وتميل للتحوّل إلى فعل وممارسة فورا.

يتعلّق الفرد بالجَمْع، لكون إحساسه بالضّعف يتلاشى كلما ازداد عدد الأفراد المكونين للجمع (كمّ الأجساد الحيّة)، فيأسره الإحساس بالقوة، ويغذي فيه الرغبة في الهيمنة والسيطرة والتدمير إذ إن” الفرد المنضوي في الجمهور يكتسب بواسطة العدد المتجمع فقط شعورا عارما بالقوة. وهذا ما يتيح له الانصياع  إلى بعض الغرائز، ولو لا هذا الشعور لما انصاع(…) وبما أن الحس بالمسؤولية هو الذي يردع الأفراد  فإنه يختفي في مثل هذه الحالة كليا”[2]، وهذا ما يجعل الفرد يفقد السيطرة على نفسه، كما لو تم تنويمه مغناطيسيا، بحيث يمكن له في حالة التجمّع/ التخدير أن يقوم بأي فعل دون التفكير في عواقبه أو في مشروعيته الأخلاقية…إن الفرد في هذه الحالة يفقد حس المسؤولية تماما.

تمثّل “الجموع” في غالب الأحيان النقيض المنطقي للمسؤولية الأخلاقية والتحضر فبمجرّد أن ينضوي الفرد داخل صفوف الجمهور فإنه ينزل درجات عديدة في سلم الحضارة. فكلما كان الفرد غير مستغرق في الجماعة  يكون إنسانا عقلانيا(يتصرّف وفقا لمبادئ العقل وقواعد المنطق السليم)، لكن بمجرد أن ينضم إلى الجمهور يصبح مقودا بغريزته وبالتالي همجيا، وهو عندئذ يتصف بعفوية الكائنات البدائية وعنفها وضراوتها وحماستها وبطولاتها أيضا. ويقترب منها أكثر بالسهولة التي  يترك  نفسه فيها عرضة للتأثر بالكلمات والصور التي تقوده إلى اقتراف أعمال مخالفة لمصالحه الشخصية بشكل واضح وصريح، إن الفرد المنخرط في الجمهور هو عبارة عن حبة رمل وسط الحبات الرملية الأخرى التي تذروها الرياح على هواها”[3]،

على هذا النحو يمكننا أن نفهم كيف أن  التحكيم الجمعي ( هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( المنظمة: مسألة فتاتي إنزكان أو العفوية: مسألة مثلي فاس)، المحاكم الشعبية( تعنيف الذين ضبطوا في حالة سرقة أو شاع عنهم ذلك في الأسواق الأسبوعية) ، وكذا (التجمهرات/الأشكال الجامعية) التي تصدر أحكاما كان يمكن أن يدينها كل عضو مأخوذا على حدة”[4] نذكر هنا، مسألة الفتاة شيماء التي حكم عليها بحلاقة شعرها وحاجبيها بكلية العلوم بمكناس. ” فمن وجهة نظر العواطف والأعمال التي تثيرها هذه العواطف فإنه يمكن لهذا الجمهور أن يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، وكل شيء يعتمد على الطريقة التي يتم تحريضه أو تحريكه بها” (المرجع نفسه ص: 61)

        يتم التحريض أساسا اعتمادا على:

العوامل البعيدة المتحكمة في الجماهير: العرق، التقاليد الموروثة، المؤسسات السياسية والاجتماعية، التعليم والتربية…

العوامل القريبة أو المباشرة: الصور، الكلمات والعبارات أو الشعارات…

لذلك، فإن قيادة الجماهير لا تتطلّب معرفة علمية ولا فكرا نظريا، بل تحتاج فقط إلى دهاء الممارسة وخبث التحريض ومكر الخطاب إذ إنّ” القادة ليسوا في الغالب رجال فكر، ولا يمكنهم أن يكونوا، وإنما رجال ممارسة وانخراط، وهم قليلو الفطنة وغير بعيدي النظر، فبُعد النظر يقود عموما إلى الشك وعدم الانخراط في الممارسة والعمل” المرجع نفسه، ص: 128

إننا في ما وراء الخطاب السياسي، ما بعد نهاية الحكايات الكبرى والمشاريع الإيديولوجية الكلاسيكية، إذ أصبح من السّهل تجميع الأفراد في تكتلات حزبية أو نقابية أو جمعوية، اعتمادا فقط على شخصيات ذات شهرة واسعة بين الجماهير سواء في مجال الفن أو الرياضة، بهذا المعنى نفهم قول لوبون بأنه من الممكن جدا “قيادة الجماهير بواسطة النماذج والموديلات وليس بواسطة المحاجات العقلانية”[5]

لم ترقَ (ذهنيتنا) بعد لإفراز حركات اجتماعية بالمعنى الدقيق للعبارة، فأغلب ما نعتبره اليوم كذلك، لا يعدو أن يكون (جموعا) أو (جمهورا) ليس غير، تتبنى الأفكار دفعة واحدة أو ترفضها، وإنها لا تحتمل لا مناقشة ولا اعتراضا، “وأنّ التحريضات المؤثرة عليها تغزو كليا ساحة فهمها وتميل للتحوّل إلى فعل وممارسة فورا”[6]

كما أننا لم ندخل بعد مرحلة التعاقد الاجتماعي، لأننا خضعنا للسلطة مكرهين، دون أدنى وعي أو قناعة، لقد التقينا بالقوانين العقلانية (الصادرة عن العقل) بفعل الاستعمار،هذا لا يعني أننا لم نؤسس لقوانين قبلية…لكن نقطة ضعف هذه القوانين القبلية ان غالبيتها كانت استبدادية  وغير ديمقراطية.

لم نستطع أن نجعل من القانون جزءا من هويتنا السياسية، وعنصرا أساس في تكويننا الشخصي والجماعي، لقد ظل ولا يزال مجالا للإكراه وبنفس الحدة موضوعا للكراهية، ننصاع له بوجود الرقيب ونتنكر له ونزدريه بغياب المحاسبة، هذا هو تمثلنا للقانون، كمرادف للسلطة والعقاب والجزر والقمع … ونقيضا للحرية.

إننا مطالبون بأن نتفهّم بجدٍّ مرحٍ القولَ العدميّ إزاء العالم، شريطة ألاّ نفهم من العدمية ذلك المعنى السلبي الدّال على الاستسلام والعبثية اللامبالية، بل، استيعابا لدرس التمرّد القصدي على منتوجات التاريخ (الثقافة، المجتمع، الدين)، أي من الانطلاق من هدم الخلفية الذهنية المؤطّرة للسلوك الثقافي والاجتماعي والديني، على شاكلة تعديل السلوك، تصويبه وربما تغييره بإطلاق، بالتدريج الذي تمنحه القدرة على مراكمة القطائع المؤسّسة (وليس القطائع البيضاء). أزمتنا إعاقة عقلية أصابتنا أفرادا وجماعات، بالخبل والتولّه الحضاري، ما يعني أننا في حاجة إلى شهادة وفاة جماعية رمزية، موجعة للذاكرة والبنيات المتحكّمة، حتى يتسنى لنا أن نلج العالم وأن يلج إلينا بإواليات جديدة وشروط بديلة، تمتح من التفكير الحرّ قيمتها ومن تقدير الحياة جدواها ومن ضمان المستقبل طابعها العادل.

[1] المرجع نفسه، ص: 48

[2]  المرجع نفسه، ص: 58

 المرجع نفسه، ص: 60[3]

[4]  المرجع نفسه، ص: 60

[5]  المرجع نفسه، ص: 135

[6]  المرجع نفسه ص: 91

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.