الرئيسية | حوار | عزيز أزغاي: لا زلت أعتبر نفسي تلميذا كسولا في الشعر | حاوره عبد الواحد مفتاح

عزيز أزغاي: لا زلت أعتبر نفسي تلميذا كسولا في الشعر | حاوره عبد الواحد مفتاح

الحوار مع عزيز أزغاي، هو اقتناص نادر للحديث العميق والسخي، فهذا الشاعر هائل الكرم، على مستوى كتابته الشعرية وأعماله التشكيلية، قليل الظهور في الملتقيات و الموائد الثقافية، ينأى بنفسه عن الزعيق العام، للاشتغال الهادئ والمتواصل داخل مرسمه، بعيدا عن الأضواء ومتحالف بقوة مع متنه وفنه، الذي خط لنفسه انتباها كاملا داخل الساحة الثقافية المغربية.

عزيز أزغاي هنا ينير لنا تفاصيل صغيرة وهامة عن مشروعه الجمالي، ويفتح لنا زاوية قرب مع تكبير أجزائها، لنكون بمحاذاة تلك المتعالقات الصغيرة والحميمة، التي هي سريرة المنجز الذي خطه بأناة واجتهاد، بعيدا عن الجاهز والمتواضع عليه

في منظورك ما وظيفة الشاعر اليوم؟

ربما لا تختلف كثيرا، وفي العمق، عن وظائف كل الفاعلين داخل أي مجتمع وفي أي زمن من الأزمان، شريطة الإيمان المطلق بضرورة الاتقان والميل أكثر إلى مزيد الوضوح.  وأنا أضع كلمة “وضوح” هنا كنقيض لكملة “غموض” بما تعنيه من سلوكات وممارسات وقناعات تحيل على الالتباس والمكر والانتهازية والافتراء.

فيكفي الشاعر أن يقول كلمته وينسحب إلى قضاه شؤونه اليومية الصغيرة. وللكلمة هنا مرادفات ومعان كثيرة. منها الانحياز إلى الجمال في مواجهة القبح، والنبل والكرامة وعزة النفس ضدا على كل أشكال الانبطاح وتسويغ المسخ والأباطيل، ومنها أخيرا وليس آخرا حفر الشاعر عميقا، وبروح فلاح بسيط، في أراضي قصائده، عوض زرعها ببذور الآخرين. بمعنى آخر، يكفي الشاعر أن يكتب عن الأشياء اليومية البسيطة، عن الهامشي والهش وعن المهدد بالزوال، عوض الارتماء في القضايا الكبرى التي فخخها السياسيون الأميون الجشعون بألغامهم الفتاكة القذرة.

يكفيني الاحتفاء بوردة في بستان أو ببحيرة في حديقة أو بسلوك إنساني راق، كي أحبب كل ذلك لأطفالي ولأطفال العالم، إذا ما ترجم نصي إلى لغات العالم الأخرى. ولا يعني ذلك استقالتي من الإدلاء برأيي في الشأن العام. فكم من قضية صغيرة، بسيطة وهامشية كانت سببا في سقوط نظام وقيام آخر على أنقاضه.

أعود لأقول، مرة أخرى، إن وظيفة الشاعر اليوم، كما كانت في الماضي وستكون في المستقبل (إذا كان لهذا العالم من مستقبل)، هي الانتصار لروح الإنسان ولجدواه في بناء عالم تسوده المحبة والتآزر والتآخي والتكامل، عوض الانخراط الحماسي في موجة الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية واسترقاق الشعوب والتطرف والإرهاب، التي باتت لغة عالم هذه الألفية الثالثة.

تزاوج بين الإبداع الشعري والتشكيلي، طال ما وجدتك ترسم داخل القصيدة وتكتب الشعر بالألوان، أيهما يمكن أن نقبض على عزيز أزغاي كاملا فيه، الشعر أم التشكيل؟

في أكثر من حوار لي كنت – ولا أزال – أصور نفسي مثل شخص ينام فوق سرير يتسع لوسادتين، بحيث يتيح لي هذا الوضع المريح التمدد فوق هذا السرير، بوسادتيه الوتيرتين الناعمتين، بما لا يسبب لي تشنجا في الرقبة أو المكوث على نفس الوضعية المحكومة بالضيق، أثناء النوم وفي الأحلام أيضا. بحيث أستطيع أن أنتقل من وسادة الشعر إلى وسادة التشكيل، وأنا فوق نفس سرير الإبداع بمعناه الواسع. هذا على سبيل المجاز فقط.

والحقيقة أنني بدأت رساما وتشكيليا، بالمعنى الذي تحيل عليه كلمة تشكيل من إعادة تشكيل الأشياء، في حالتي، بطريقة تجريدية جديدة – حسب ما أدعي أو يتهيأ لي على الأقل – قبل أن أجد نفسي، بسبب ضيق ذات اليد، ميالا إلى كتابة الشعر.

لذلك، لا يمكنني أن أفاضل بين هاتين الممارستين الجماليتين. فعلى الرغم من أن لكل منهما لغتها وفلسفتها وروحها وأدواتها التقنية والفنية والجمالية الخاصة بها إلا أنهما، في العمق، تتكاملان، تعضد إحداهما الأخرى، تدعمها وتغني ” حكمتها “، بغض النظر – بطبيعة الحال – عن ثنائية ” اللغة واللون ” الشائعة والبسيطة بل والساذجة أحيانا. كما أن لكل منهما مكانة أثيرة داخل منطقة وعيي الشقي، وهذا هو الأهم في تقديري الخاص.

لذلك، أزعم بأنني أكتب وأرسم، بوعي منظم ومتآزر وبروح ” جشعة ” وغير قانعة، كما أنني أحاول ألا أضع حدا فاصلا بين هاتين الفعاليتين، حتى حينما يتعلق الأمر بوعيي النظري باشتراطاتهما ومظانهما التاريخية والمعرفية والجمالية والتقنية. أحاول ما أمكن أن أمنح لنفسي حرية محاولة ( أقول مجرد المحاولة ) التجريب في جغرافيتيهما الشاسعتين. وفي نهاية المطاف، لا زلت أعتبر نفسي تلميذا كسولا يطمح جاهدا إلى تجريب حظه في إضافة جملة بسيطة أو لمسة مندهشة إلى كتاب ولوحة آبائنا المؤسسين لروح الجمال في  تاريخ الإنسان. ربما كان حلما رومانسيا.. أوليس بالأحلام نحيا؟!! مجرد سؤال أبيض يجري تحته كثير من الماء.

كيف تتعامل مع النقد؟خاصة أن كتابات كثيرة تراكمت حول منجزك؟

مثلما تحدثت، قبل قليل، عن وظيفة الشاعر، وعن وظائف باقي مكونات أي شعب أو حضارة أو مجتمع، فللناقد كذلك دوره، الذي لا يقل عن سواه أهمية، في التأسيس لهذا الطموح الذي يحذو الإنسان من أجل التغلب على أعطابه وهواجسه وقلقه الدائم، لكن من زاوية أخرى مختلفة بعض الشيء.

فالناقد، هكذا ببساطة التعريف، سلطة معرفية يسعى من يملكها إلى تقويم الأشياء والحكم عليها وتصويب مقترحها وطموحها، سواء كان أدبيا أو غير أدبي، وهو ما يعني نوعا من الكاريزما، التي قد تضع نفسها، في بعض الأحيان، في مرتبة أعلى، أي في مكانة ذلك الخبير بعلم الأرصاد، الذي يرقب الإرهاصات الجوية القادمة ومحاولة التنبيه إليها، بما يساعد الناس على التحضير لها وتجنب أخطارها. وكما قد يخطئ خبير المناخ أو تكون آراؤه موجهة وتخدم ” أجندات ” الداعين إلى صلاة الاستسقاء مثلا، قد يخطئ الناقد عن حسن نية وتقدير وقد يصيب، كما قد يكون، وهذا هو الأسوأ، مرتش وقليل المروءة، أو ضعيف النفس ومنعدم الضمير والذوق أو جاهل هش المعرفة.

من هنا وجب الحديث عن أنواع من النقاد وليس ناقدا واحدا. وحتى لا ننعت بالانحياز أو الطهرانية الكاذبة، فإن هذا الأمر ينطبق، بكل تأكيد، عن المشتغلين والناشطين ب وداخل كافة الحقول المعرفية والإبداعية والجمالية بل وفي الحياة العامة أيضا، لا يختلف في ذلك العالم المتقدم عن المتخلف أو الذي ينعت بالسائر في طريق النمو.من هنا وجب التنصيص على هذا التفاوت في الكتابة النقدية، وهو أمر يعكسطبيعة الكائن البشري ويترجم تركيبته الهشة.

أما بخصوص تجربتي المتواضعة البسيطة، فيما يتصل بالنقد، أصدقك القول بأنني، بقدر ما أسعد كثيرا بالتفات أحد النقاد لما أكتب أو أرسم، بقدر ما لا أحزن كثيرا حينما يتم تجاهلي كلية. وأحسب الأمر، من هذه الزاوية، مجرد اختيارات ذاتية تستند على أذواق خاصة وميولات فردية، لا أقل ولا أكثر. من هنا دربت نفسي، بل روضتها،على الاقتناع بهذه الفكرة، مخافة أن أقع فريسة ذلك الإحساس بالإقصاء والتآمر أوالشللية والشيطنة، وكلها أحاسيس مدمرة، بمجرد ما يستسلم لها المرء يجد نفسه خارج نطاقات الثقافة والأدب والإبداع… بمعانيها الإنسانية النبيلة والراقية.

لي قناعة راسخة بأن التاريخ ينصف التجارب الحقيقية والجادة، أو – على الأقل – تزعم الرهان على هذا الأفق، بروح مثابرة، نقية وشفافة، وإن مرت في زمنها مرور ” الكيران “.وقد لا أحتاج إلى الاستشهاد ببعض النماذج التي تدعم هذه الحقيقة التاريخية، وهي كثيرة وقاسية للأسف الشديد.

وما هو جديدك الفني؟

أعود، مرة أخرى، لأذكرك بما قلته قبل قليل. ” أكتب وأرسم، بوعي منظم ومتآزر وبروح” جشعة “وغير قانعة “. ولحسن الحظ أن إنتاجنا، نحن معشر الأدباء والفنانين، لا يفسد بسبب التقادم، بل على العكس من ذلك، قد تصبح له، مع مرور السنين، قيمة مضافة تثير فضول ” جامعي التحف ” والباحثين عن الأشياء النادرة، تماما مثل أي خمرة معتقة.

ولست في حاجة لتذكيرك وتذكير قارئ هذه الدردشة بتلك المفارقة المؤلمة المرتبطة بفن التصوير الصباغي والفن التشكيلي عامة. إذ جرت العادة أن يرتفع سعر الأعمال الفنية بشكل صاروخي بمجرد وفاة أصحابها!!! وقس على ذلك عدد طبعات الأعمال الأدبية أوالأعمال الكاملة التي تنزل إلى الأسواق بمجرد وفاة مؤلفيها. إنه عالم كافكاوي بامتياز. لقد مات السياب وهو يستجدي ثمن الدواء.. وقبله مات فان غوغ وهو يسعى إلى إقناع الناس، بمن فيهم النقاد، بجدية وجدة فنه. وفي  مغربنا مات الفنان عباس صلادي وقيل إنه كان يبيع بعض رسوماته بساحة جامع الفنا، إلى جانب حلقات مروضي الثعابين والقردة وشاربي الماء الساخن والمطربين الشعبيين وقارئات الكف، وبائعي النقانق والحلزون!!!

لهذه الأسباب وغيرها، كرست جزءا كبيرا من حياتي السابقة لأحوز وظيفا يوفر لأسرتي خبزها اليومي ويصون لي كرامتي ويضمن لي متنفسا أمارس فيه حريتي في الكلام والنقد وإبداء الرأي، بعيدا عن ركوب مغامرة الفن والأدب كمصدر وحيد للعيش، وهي مغامرة تسببت لبعض الطاقات الأدبية والفنية الجبارة في خسران أرواحها النبيلة وضياع طاقاتها الإبداعية الخلاقة، في حين حولت البعض الآخر إلى مجرد كائنات زاحفة على بطونها أمام أعتاب مخلوقات سخيفة، راكمت ثرواتها بالغش والتدليس والسرقات، طمعا في أعطياتها المسمومة راضية بصدقاتها المهينة.

هذه، فقط، بعض الخلفيات التي تؤطر نشاطي الإبداعي، إن في الشعر أو في التشكيل. بمعنى آخر، أكتب وأصبغ بوتيرة عادية ومقبولة ودون إحساس بالخوف من المستقبل. خوفي يكبر، فقط، أمام بياض الورق والقماش. ولا ألهث كثيرا وراء نشر قصيدة أو طبع ديوان أو إقامة معرض. نظرة واحدة في عيون زوجتي أطفالي الفرحين والمطمئنين تحولني إلى كائن بأجنحة. وعلى الرغم من ذلك ما زلت أقنع بالقليل القليل من متاع الدنيا، ولا أكره الكثير الكثير الذي يفيض عن احتياجاتي الخاصة. فما أنا، في النهاية، سوى إنسان بسيط، لي هفواتي الخاصة وأخطائي الصغيرة ونقاط ضعفي الهشة، ولي أيضا كذباتي البيضاء والزرقاء والصفراء والموف حتى. وقد قدر لي أن أعيش حياة متقلبة لكنها كانت منتجة، غنية ومفيدة، كما خبرت تجارب قاسية ومريرة، خرجت منها مثل أي جني صغير بسبعة أرواح وبصحة جيدة.

لأجل كل ذلك، وبسببه، أحب الحياة، وأجتهد، ما أمكن، في أن أجعلها تستحق أن تعاش، بالقدر الذي تسمح به محددات ” الطول ” و” العرض “، ودون تطاول على حريات الآخرين ولا على حقوقهم أو متاعهم الخاص.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.