الرئيسية | فكر ونقد | دروب الغياب للشاعر التونسي جمال قصودة.. القصيدة تتنفس المعنى | أحمد الشيخاوي

دروب الغياب للشاعر التونسي جمال قصودة.. القصيدة تتنفس المعنى | أحمد الشيخاوي

أحمد الشيخاوي

 

حين تناور الذات الإبداعية على مضض، بمتتالية دغدغات ترشق بها معطيات اللحظة الهاربة ،أو لنقل تقود إلى متاهات مرايا الكامن كما نحبّ النظر فيها وفق أسلوبية مقلوبة تماما ودافعة باتجاه لعبة هشّة تُطرب بما هو حلمية مفخخة و منظومة رمزيات رافلة في أقنعة الواقع.

تكشّف وعري تامّ يجلو صدأ الأزمنة ،ويقترح الكلمة على نحو فلكلوري ينزّ بعهر العالم الآيل إلى هاويته الموقوتة.. حكاية تنسجها أوجاعنا تقّدم فوق ما يندب الشعر من شعر ،ينأى حدّ عجز الأخيلة عن تصور أو التكهن بما يمكن أن يُحسب للقضية دونما التصريح ولا التلويح حتى بتباشير امتطائها هي،كونها مطبوعة منذ الأزل بشتى صفات الجلال والقداسة،وهو زخم أسرار متغنّج بسرمدية ليلاء نرنو إلى شموسها، ليس يسجّله سوى دم شهداء القضية في تضحياتهم ونخوتهم وتساقطهم تباعا وكل حين كأنهم أوراق الشجر، أمام سلبية وبربرية وصمت العالم.

كذلك هو الشاعر التونسي المبدع جمال قصودة حين يخيط بنا دورب حكاية الغياب،مثلما عودنا على الدوام، يستفزّنا بما تفرزه أوتار قوله الشعري،يشهر بلباقة امتعاضه ويخون البياض عن طريق حشو طيات هذا الأخير بنبرة غضب وتمرّد وانتصاف للرهانات العروبية و للحس الإنساني وللقضايا المشروعة بشكل مبدئي غير قابل للجدل.

قصائد تبكي السليبة الحبيبة فلسطين بمدامع من دم.

حقّ لهذه الحبيبة أن تتثنّى مزهوة بتاريخ الأمجاد ،خاصة مع الوعد بتكرار تلوين راهن وربما مستقبل الهزائم والانكسار،بنفحات وإشراقات من صولات فاتحين عظام من هاهنا عبروا لكنه لم تزل تحاصرنا ظلالهم لنستلهم منها ما هو صحو للضمير شبه الميت وإذكاء لفتيل الهمم الخامدة .

هكذا يسلك بنا شاعرنا هوامش نصوصه،مستدرجا إيانا إلى مكامن الخلل ومواطن الداء،ومن ثم المتن الفاضح لأعيادنا البلاستيكية ومنتهية الصلاحية والقاصر عن مدّنا بمعين وقطوف وسائر ما يبدّلنا صفحات الخيبة والانتكاسة ويضمد جراحاتنا وصنوف ما كابدناه من جلد للذات في شخص حبيبة حاضرة/غائبة اسمها فلسطين الحكاية والأمجاد.

هذه معركة حطين يسوقها صاحبنا هاهنا ويعطّر عروق جسد شعرية نصّ من هذا الطراز، ويضمّن مفاصلها وبؤرها، بظلال هامات البأس و البطولات ،ودفق أنهر الدماء الزكية لشهداء واقعة الشرف تلك والمفخرة شأنها شأن مثيلاتها عبر تعاقب وتوالي السنون ، كضريبة مباشرة لتحرير عاصمة العروبة والإنسانية والإسلام وتخليصها وتطهيرها من نجس الصليبية واستأساد النزعة الامبريالية التوسعية المقيتة والنعرة الإمبراطورية المسطّرة بحدّ سيف حروب الإبادة والمجازر ومصادرة الزرع والضرع والثروات.

لنصافح ببصيرتنا ما ورائيات ألوان هذا النص الثري بحكم زانها اللبوس الجمالي، كي نستشفّ إلى أي مدى ثمّة نافذة إلى جرح طال وتقادمت حدّ التآكل والتهالك،لكنا لم نزل نتنفّسه كلما عنّت لنا رغبة عيش ومعايشة طقوس الموت في نكهة الولادات المتواترة والتناسلات الجديدة لمعنى الحياة.

“سَيغْشاكَ موْجُ الحَنينِ

و تَغْرقُ في الأمْنيَاتْ

فلسْت تغَازلُ ظلّك فيها

هوَ الشّوقُ كمْ يعتريكَ…

وكمْ يعْتَريها

أَرَاكَ كطِفْلٍ يُرَاودُ ظلًّا بوجْهِ الجِدارِ

وخلْف المرَايَا

فيضْحَكُ حينًا و حينًا ينُوءُ بثقْل المَعانِي

ولمْ يُدْرِك الحِمْلَ حينَ بحثْنَا

بوجْه التّشَابُه بينَ الظّلالِ و أصْل الحِكايةْ

سيركضُ خلْفَ السّرابِ اللّصيقِ

لعلَّ الحبِيبَةَ حينَ تجيءُ

تُلامِسُ جسْمِي بجسْم الحرِيق

إذا حانَ ورْدُ الغيَابِ

سنَلْثمُ ثغرَ السّحَاب

و نُوغلُ فيها

صلاَةَ التّردّدِ بين الضّفَافِ

ونُورقُ فيها

بنفسجةً هدّها الاشتهاءُ

إذا ما الجدِيلةُ بَانتْ

كشَفْنا السِّتاَر عَنِ المظْلمات

و خُضنَا الحُروبَ التي لا تُخاضُ

بأبْوَابِ كسْرَى قضَيْنَا النوافِلَ

حينَ تجلّتْ

وصمْنَا عَنِ اللَّغْوِ دهْرًا طويلَا

بحطّين مالتْ

كظلّ الصّليبِ بُعيدَ الغروبْ

و قالتْ:

-رجوْتكَ بالله أن لا تغيبَ

-فكيفَ أغيبُ

و فيكِ الغيابْ “

تلكم، لعمري قامة يستحوذ عليها هاجس الانتماء لشجرة الإنسانية عند نقاط تداخلاتها وتشابكها مع مصير قضية ذروة في الحساسية بحيث لا يزيدها تخضرمها سوى مشروعية وتعاطفا كونيا وصمودا مستميتا ونضالا مكابرا..

قضية أريد لها أن تسترسل لتدمي قلوب عاشقيها بسموم أشواك الخسة والسمسرة والخيانة والتواطؤ،والمعروف أنها زبدة أحلام كل تواق إلى سماء الحرية والانعتاق من قيود التبعية العمياء والرجعية والانتهازية وكامل ممارسات القمع و الاستعباد.

وفي الواقع هي حمّى ما تنفكّ تستشري لتنخر أوطانا مجاورة عدّة تخاذلت أو تغاضت أو طبّعت مع المؤسسات الصهيونية والمتصهينة بما يفوّت ملاحم استرداد الحقّ ونبذ التبعية والذل.

ليست شعرية موازنة بين الموت والحياة من جهة ولا الحضور والغياب من جهة ثانية، بقدر ما الظاهرة برمّتها وفي شموليتها وتساوق رؤاها وتكاثف دوالها، أشبه ما تكون  بمقامرة آسرة طاعنة بقوانين الجاذبية والإغواء ، واعية تفسح لأنامل التجريب وتمكنها من اغتصاب الأنساق،واستبقاء الحكاية حيث أجواء الغرابة السانحة بتسريبات وانثيالات ضمنية وطيفية توقّع توليدات هلامية للمعنى عبر صور شعرية مشوقة وكأنه تتلقّف ثيماتها من يباس  وحصيد الآني المترع بظلال الفناء بما هو ذاكرة للأمجاد الخالدة في احتياجها إلى تدويرات استعارية تشترطها اللعبة الكلامية في دورة كاملة وغير منقوصة، تروم صياغات جديدة ومقاربات مختلفة للذات والآخر والعالم.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.