الرئيسية | بالواضح | جهاز كشف الطائفية ! | رباب كمال

جهاز كشف الطائفية ! | رباب كمال

رباب كمال

 

رائحة عطرها كان نسيمًا عليلًا، شعرها جميل مموج، ملابسها الفاتنة كانت من وحي آلهة الأناقة، اقتربتْ مني بعدما رصدتني من بعيد وسارت في اتجاهي بخطوات هادئة، وكلما اقتربت مني، سمعتُ صوت الموسيقى في نغمات ارتطام كعبها العالي بأرض القاعة وكأنها معزوفة راقية المسمع. اعتقدتُ أنها ستعلق على كلمتي في المؤتمر الذي جمعنا وحين دنت مني قالت:

 “يا ليتك ترتدين قلادة عليها اسم الله كما أفعل أنا! فسألتها لماذا؟ فقالت لقد تحجبت جميع النساء ولم يتبق سوى المسلمات غير المحجبات مثلنا والمسيحيات.. فعلينا أن نرتدي قلادة إسلامية لنفرق أنفسنا عنهن”.

 فجأة تحول عطرها العليل إلى رائحة كريهة، وتحول شعرها المموج إلى عمامة جهادي متطرف، وتحول كعبها العالي إلى مداس رديء يسحق المنطق، وتحولت ملابسها الأنيقة إلى جلباب للأفكار المتعصبة.

سألتها بحدة.. ما الفرق بين ما تقولينه وبين دعوة شيوخ التعصب لارتداء الحجاب بحجة التفريق بين المسلمة والمسيحية؟ أشرت عنايتها – إن كان لها عناية – بأنه لن ترضى عنها حجافل المتطرفين إلا أن اتبعت ملتهم في نشر التعصب الديني.

نظرتْ إليّ نظرة غاضبة وسألتني عن ديني؟ فقلت لها ديني شأني وشأن ربي، فأنا لا أحتاج لقلادة دينية لأعبر بها عن نفسي!! فقالت لي: “ربنا يهديك.. يبدو أنك كفرتِ بالله”.

 قبل أن ترحل اعتقدت أنها ستطلب مني نطق الشهادتين على سبيل الاستتابة، لكنّها رحلت وهي تنظر لي شزرًا، وهذه المرة كان صوت كعبها العالي وهي راحلة عني أشبه بالمطرقة التي تقرع رأسي! هكذا انتهت المعزوفة الجميلة في عقلي. الفتاة الجميلة كانت مدنية المظهر لكنها داعشية العقل.

هذه القصة ليست من نسج خيالي، إنها قصة حقيقية، قصة الفتاة التي التقيتها، فاعتقدت من مظهرها أنها ليبرالية الفكر لكنني اكتشفت أنها متطرفة حتى النُخاع، فالمظاهر كانت خادعة و هي لم تتخلص من جرثومة التطرف، هي كذلك قصة مصرنا، قصة وطن محتل بأفكار طائفية حتى و إن كان يدعي التمدين.

د. جابر نصار رئيس جامعة القاهرة

د. جابر نصار رئيس جامعة القاهرة

تذكرت هذه الفتاة… ليبرالية المظهر داعشية الهوى، حين أصدر د. جابر جاد نصار رئيس جامعة القاهرة قرارًا بإلغاء خانة الديانة من جميع الأوراق والوثائق الرسمية في الجامعة بتاريخ 11 أكتوبر 2016 وقوبل قراره بحرب ضروس من داخل مؤسسات الدولة نفسها… هكذا كان حال الفتاة التي ادعت أنها مدنية قبل أن تكشف عن وجها الطائفي، وكذلك مصر التي ادعت المدنية قبل أن يسقط القناع عن الطائفية الراسخة داخل مؤسساتها.

نَصَّ قرار جامعة القاهرة على إلغاء خانة الديانة في كافة الشهادات والمستندات والأوراق بالنسبة لطلاب الجامعة والموظفين وأعضاء هيئة التدريس. استند قرار رئيس الجامعة بالمقام الأول إلى دستور 2014 بشكل عام، لم ينص القرار على مادة دستورية بعينها، إلا أنه كان ُيفضل أن يقوم د. جابر نصار بذكر مادة منع التمييز بعينها و هي المادة رقم 53 و التي تنص بدورها على التزام الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض.

و بالرغم أن المادة الدستورية أوصت بإنشاء مفوضية مكافحة أشكال التمييز  منذ عام 2014 إلا أن إنشاء هذه المفوضية مازال متعثرًا ما بين البرلمان و الحكومة .

د. أنيسة حسونة عضو البرلمان المصري

د. أنيسة حسونة عضو البرلمان المصري

كان يجدر بنواب البرلمان – الذين اعترضوا على قرار د. جابر نصار- أن يعجلون بإنشاء هذه المفوضية بدلا من وصف قرار إلغاء خانة الديانة بأنه غير دستوري. كان عليهم مؤازرة د. أنيسة حسونة عضو البرلمان التي تسعي لإقرار قانون إنشاء مفوضية منع التمييز  بدلا من التفرغ لشن هجماتهم على قرار منع التمييز داخل جامعة القاهرة.

تصدر عمرو حمروش أمين اللجنة الدينية الهجوم على القرار، وتساءل ما هو  الأساس الدستوري  الذي استند  رئيس جامعة القاهرة إليه  في قراره؟! و كأن سيادة النائب على غير علم ولا ادراك بمادة مناهضة كافة أشكال التمييز الديني (المادة 53) المشار إليها مسبقًا.

 كما وصف السيد حمروش القرار بأنه “تزيد” ومعركة جانبية واتفق معه الدكتور عبد الرحمن البرعي  وكيل لجنة التعليم والبحث العلمي في البرلمان حيث وصف القرار بالسطحي، بينما طالب النائب عاطف مخاليف بإقالة رئيس جامعة القاهرة لأنه أثار البلبلة  الطائفية و الطامة الكبرى هي أن الأخير مرشح لرئاسة لجنة حقوق الإنسان في البرلمان!!

الاتهام بالسطحية كان العامل المشترك في مهاجمة قرار د. جابر نصار ، على اعتبار أن هناك مشاكل أكثر أهمية من إلغاء خانة الديانة في  الأوراق الرسمية بالجامعة. والسؤال هنا …  طالما هؤلاء يعرفون بأن هناك قضايا أكثر أهمية من خانة الديانة، لماذا يتمسكون بها ؟ ألا تعد هذه سطحية ومعارك جانبية ؟ فالسطحية هي التمسك بالتمييز لا المطالبة بالغاء  التمييز .

عمرو حمروش أمين اللجنة الدينية

عمرو حمروش أمين اللجنة الدينية

أما القول بأن القرار يثير البلبلة ويشعل أزمة طائفية لا علاقة لها بالبحث العلمي، فهو  قول يطرح تساؤلا  مماثلا  ألا وهو: من يشعل الأزمة الطائفية؟ أهو صاحب قرار منع التمييز؟ أم من يصر  على إبقاء خانة الديانة التي لا علاقة لها بالبحث العلمي ؟

 أما التعليق الأكثر فداحة، فصدر عن وزير التعليم العالي نفسه د. أشرف الشيحي وهو التعليق الذي ينم عن محدودية الوعي الكارثية، حين قال أن مثل هذا القرار سُيصدر للرأي العام أن هناك مشكلة طائفية في مصر !

 ألا يدرك السيد وزير التعليم أن المشكلة الطائفية قائمة حين تصر مؤسسات الدولة على الحفاظ على أشكال التمييز؟؟ ألا يدرك أن ما يصدر صورة طائفية عن مصر هي الاعتداءات الطائفية مثل التهجير القسري أو حرق  منازل المسيحيين أو سحل سيدة قبطية في صعيد مصر؟

ألم يسمع السيد الوزير عن تعرض عائلة اثنين من رجال الدين المسيحي بقرية طهنا الجبل لاعتداءات بالعصي والأسلحة البيضاء، مما أسفر عن وفاة فتاة وإصابة 3 أشخاص؟ (يوليو 2016).

ألم يسمع عن هجوم المتشددين في قرية كوم اللوفي بمركز سمالوط على منزل بحجة أنه كنيسة تحت الإنشاء، فأشعلوا النيران بأربعة منازل مسيحية مجاورة ؟ (يونيو 2016).

وزير التعليم العالي المصري د. أشرف الشيحي

وزير التعليم العالي المصري د. أشرف الشيحي

ألم يسمع السيد وزير التعليم العالي عن سحل سيدة قبطية في قرية الكرم التابعة لمركز أبو قرقاص بمحافظة المنيا على إثر  شائعة عن علاقة بين مسيحى ومسلمة؟ (مايو 2016).

ألم يسمع  السيد وزير التعليم عن رفض تنفيذ  قرار ترقية السيدة مرفت سيفين إلى  مديرة مدرسة بني مزار الثانوية بالمنيا لكونها مسيحية ؟ (فبراير 2016).

ألم يسمع السيد وزير التعليم عن حادث تمزيق اسم الشهيد كيرلس فاضل من على مدرسة بمحافظة الشرقية؟ وهو  الشهيد المجند الذي ٌقتل على أيدي الجهاديين في سيناء؟ (ديسمبر 2014).

ألا يعرف السيد وزير التعليم أن أقسام النساء و الولادة في المستشفيات الجامعية لا يعين فيها الأقباط و ذلك منذ عقود ؟

ألا يدرك أن كل ما سبق هو ما ُيصدر صورة طائفية عن مصر و ليس إلغاء خانة الديانة من أوراق جامعة القاهرة ؟ ألا يدرك أن دوره كمسؤول تربوي هو تشكيل الوعي للقضاء على كافة أشكال التمييز ؟!

اعتبرت تلك  النخب  (بدون تعميم) أن قرار  د. نصار بالغاء أحد  أشكال التمييز الديني في الأوراق و الاستمارات الجامعية مجرد اثارة للفتنة الطائفية، أي أن منطقهم مع الاعتذار للمنطق قائم على فكرة أن التمييز نفسه لا يؤجج الطائفية و انما مواجهة التمييز يثير  المشاعر الطائفية !! و هو منطق أشبه بوضع التراب تحت السجادة بدلا من كنسه.

أصبح القرار الذي أصدره د. جابر نصار رئيس جامعة القاهرة بمثابة جهازًا لكشف الطائفية داخل الدولة نفسها ليواجه  قراره حربًا ضارية  لا من الأحزاب السفلية أو مجمع البحوث الإسلامية فحسب و إنما من نواب برلمان  ووزراء حكومة تتشدق بالمدنية !  لربما يعد  قرارًا رمزيًا و لن يحل معضلات الطائفية الجسيمة ، لكنه بمثابة إلقاء حجر ثقيل في مياه الأصولية الراكدة .

تعليق واحد

  1. دكتور سيتى شنوده

    مقال وتحليل أكثر من رائع يا استاذة رباب كمال ..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.