الرئيسية | سرديات | امرأة | صفوت فوزي – مصر

امرأة | صفوت فوزي – مصر

صفوت فوزي

 

ولقد أتى على قريتنا حين من الدهر، استنامت فيه إلى أن العيبة لا تخرج منها؛ فصارت تختال على القرى المجاورة بصلاح رجالها، زينة شباب القرى. تمادوا في غيِّهم. يمشون في الطرقات خافضين أبصارهم كالبنت البنوت، وفي المساء يتلصصون على النساء من شقوق الأبواب وشيش النوافذ. يزنقون العابرات في التواءات الطرق والأزقة المعتمة، ويتمتمون بالأدعية طالبين من الله أن يهدي القوم الفاجرين. ينتظمون في حلقات الذكر، ويقيمون الموالد لأولياء الله الصالحين، يفرشون الموائد لفقراء الناس وأبناء السبيل، وفي ليالي الصيف، إذ يتخفف الناس من ملابسهم، ينطون على البيوت الواطئة يسترقون السمع والنظر. يأتي الصباح وقد عرفت القرية كلها من ضاجع امرأته بالأمس، ومن استعصت على زوجها فنام كمدًا وقهرًا.

طفح الكيلُ وفاضت الشكوى. صاحت امرأةٌ عجوز أنَّ البلدة قد عدمت رجالها، وأنَّ الذين اختشوا ماتوا، والبلدة سيظل حالها مائلًا طالما بقيت اللعنة حالة فيها.

وحدها تسكن مطمئنة في بيتها العالي على أطراف القرية، تطل على الخضار المنبسط في الأفق ونخلتها السامقة خلف الدار. تتهادى في الحارات والدروب عفية ممشوقة القوام. رداؤها الأسود يتماوج مع النسمات، وطرحتها السوداء تؤطر وجهها الطري الجميل. تحاصرها العيون النهمة، تتربص بها من خلف الأبواب المواربة في الحارات والأزقة الفائحة برائحة العطن والعرق، والتوابل، والبخور. تمضي واثقة غير مبالية فتأكل الغيرة قلوب النساء، وتمسك النار بأطراف جلابيب الرجال حتى تصل إلى شواربهم. يشتهونها سرًّا ويلعنونها جهرًا. وصموها بأنها امرأة متاحة، وأن من له زند وقلب جسور قادر على اجتناء شهدها. تتحرك الشفاه نحو الآذان، نظرات، غمزات، غمغمات، وإيماءات تتهم المرأة. يسنون أسنانهم عليها، يدلقون ماء استحمامهم في ساحتها، ويجهرون بعداوتهم لها.

تتفتت في الحارات شذرات الحكايا عن أدق تفاصيل حياتها. قميص نومها الوردي الشفاف، ضحكتها التي تجلجل في صمت الليل، عطرها الذي يفوح إلى سابع جار فيجعل الرجال يتقلبون في فراشهم مبتئسين.

تجتمع النسوة في باحات الدور، تبدأ إحداهن ثرثرتها وبخ سمها في الآذان، فتكون هي الغائب الحاضر، يقتسمن لحمها بينهن، وتلوك الألسنة سيرتها. فإذا سئمن الكلام عنها ترد إحدى الحاضرات: كفاكم غلًّا، لم نَرَ منها شيئًا رديًّا.

البنت المفلوجة الأسنان التي تضرب الصفرة وجهها، تقف أمام الدار بصحبة رفيقات اللعب. تهز أناملها المتباعدة وتشفط قدرًا من الهواء بين شفتيها المضمومتين محدثة صفيرًا هيِّنًا وهي تحكي لهن ما سمعته من النسوة القاعدات في قعر الدار. تضحك مخفية صوتها بوضع يدها فوق فمها. تكتم الضحكة قبل أن تأخذ راحتها، حين يفاجئها صوتٌ خشن لأحد المارة.

حاصرتها نظراتُهم وهمساتُهم، وحاصرهم وجودُها الباذخ.

خابت زرعة الحاج “رضوان” فراح يرغي ويزبد لاعنًا الحر الذي أفسد زرعته، ولم ينسَ أن يوجه السباب للمرأة واليوم الذي جاءت فيه إلى القرية. جست الخالة “لبيبة” مؤخرات فراخها لتطمئن على البيض. تحركت قطة فوق جدار ثم قفزت إلى السطح فكسرت قلة ماء. رمتها بفردة شبشب قديم سابَّةً أباها وأجدادها وأبا اليوم النحس الذي عرفت فيه المرأة وشافت سحنتها الغبراء. ابتاعت بخورًا وحرقته داخل الدار لتطرد النحس.

تغطيها خيمة من حزن دفين. صارت تتجه للعزلة واجتناب أهل القرية. تغلق النافذة ثم تستلقي بفراشها ساهمة، تتسمَّع أصوات الليل، نباح الكلاب، نقيق الضفادع، صرير الجنادب، نعيب البوم. تحملق طويلًا في الفراغ ثم تغطي وجهها المغسول بالدمع لتنام وحيدةً.

● ● ●

الخلاء يطنُّ بالصمت وصوت الريح الخفيفة. رجال القرية يتحلقون حول “راكية” النار في الجرن. دارت أكواب الشاي الأسود. بدا الضيق والتبرم على الوجوه المنعكسة على ضوء اللهب الواهن. عوى ذئبٌ من بعيد وعلا نقيقُ الضفادع فنطق “حنفي العبيط” حكيم قريتنا وكبيرها. تشابكت يداه معًا فوق بطنه الكبيرة، وومضت عيناه الخامدتان وقال: إن القرية معقود بناصيتها اللعنة بسبب هذه المرأة، ولتنفك اللعنة ويعود لقريتنا مجدُها إما أن ترحل أو تُقتَل.

لكل شيء تحت السماء وقت؛ للزرع وقت، وللحصاد وقت. للولادة وقت، وللموت وقت آخر. ولقد اختار الرجال وقت القتل وحددوا القاتل الذي سيؤجر بفعلته.

● ● ●

كانوا يتأهبون لصلاة الفجر. نامت بيوت القرية على غلِّها وأسرارها، والذين يعرفون الوقت ظلوا ساهرين مؤرقين. انتصبت آذانهم تتسمع الصوت في آفاق السكون، ينتظرون البشارة من رَجُلِهم.

ولم تتأخر البشارة. صرخةٌ مدويةٌ ملتاعةٌ شقت جسد الليل الساكن، تردد صداها في سماء القرية. فزعون، مترقبون، آملون، يتخبطون في الأركان والزوايا المعتمة. أشعلوا لمبات الجاز ولمبات الصاروخ، يخوضون في وحل الدروب، يتلمسون الطريق إلى مصدر الصوت. تتوالى الصرخات المستجيرة المنازعة، تزعج كلاب السكك الهاجعة لصق الجدران، ويتوالى خروجهم جريًا في الحارات.

حين اقتحمت جموعهم منزلها كان المشهد صادمًا. الرجل، بجرمه الضخم، عاريًا متقوسًا على نفسه يتلوَّى ألمًا، يحاول إخفاء عورته المرتجفة فاغرًا فاه يسيل منه الريال. وجهه يميل إلى الزرقة، يلقف الهواء بصعوبة وقد ثقل لسانه وتلجلج. فَقَدَ سيولة الكلمات، تهتكت كلماته في قاع الحلق ثم خرجت مطحونة.. مجرد حروف لا يربط السابق فيها باللاحق إلا نهنهة عواء ممطوط متوتر. من بين فخذيه تبرز يدان. عشر كلابات حديدية صلبة تمسك بخصيتيه وتعصرهما بقوة فيشارف على الاختناق وتجحظ عيناه ويتلوى على نفسه أكثر فأكثر وهي لا ترخيهما حتى سقط متكورا على الأرض مغشيا عليه.

أزاحته بقدمها. انتصبت في مواجهتهم شامخة، عارية تمامًا، خلفها نخلة الدار ترتفع سامقة، ساكنة، لا تهزها ريحٌ.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.