الرئيسية | فكر ونقد | المعقول واللامعقول في القتل العراقي… “مقتل بائع الكتب”انموذجاً | داود سلمان الشويلي-العراق

المعقول واللامعقول في القتل العراقي… “مقتل بائع الكتب”انموذجاً | داود سلمان الشويلي-العراق

داود سلمان الشويلي

 

((احتاج الى مغامرة وانجاز ملموس يبقى في الذاكرة.. الكتاب يبقى الف سنة.. ثم بطلي ليس بالرجل النكرة.. عاش حياة غير تقليدية.. انا واثق.. )). ص22

 

وهكذا كان الكتاب الذي بين ايدينا، “مقتل بائع الكتب”. إنه مغامرة في حياة الصحفي ماجد البغدادي، وانجاز ملموس له سيبقى في الذاكرة، فهو سيعمر اطول فترة زمنية، لانه يتكلم عن شخصية غير نكرة، نادرة في سيرة حياتها، ونادرة في مقتلها، ونادرة في عدم معرفة سبب قتلها، ونادرة في المكان والزمان التي قتلت فيهما، وفوق كل ذلك انها شخصية عراقية تحملت كل المآسي التي تحملها البلد والشعب في العراق.

سأكتب مقدمة “تمحلية” عن عنوان الرواية، لانها الوحيدة التي ستوصلنا الى معناها الاولي والظاهري، والذي سيصل له المتلقي، حيث يجمع شتات الرواية، وينظم احداثها، ويسمع حديث شخوصها، ويرى افعالها، ومن ثم نقول المستتر والمخبأ من عالمها السردي.

ان “مقتل” هي على وزن “مفعل”، مصدر ميمي، ويمكن ان ننهيه بـ(ة) ليكون”مقتلة” بائع الكتب، و”المقتلة” هي شدة القتل وقسوته، وهكذا كان مقتل هذا البائع، الماركسي والمسجون سابقا، فهل كان الروائي يريد من روايته ان تقدم حادثة مقتل هذا البائع، ام انه يريد ان يقدم صورة عن مقتله؟ ام هو يريد ما هو ابعد من ذلك؟

او، ان”مقتل” اسم للزمان ليدل على زمان وقوع الفعل، فعل القتل، وقد وقع هذا الفعل في وضح النهار وامام الجميع.

او، ان “مقتل” اسم مكان ليدل على مكان الفعل، مكان فعل القتل وقد وقع في الشارع، وفي مكان مزدحم بالمارة.

اذن امامنا مصدر ميمي، واسم زمان، واسم مكان لحدوث فعل ما، هو فعل القتل الذي وقع على بائع الكتب في بعقوبة، وبعقوبة مدينة عراقية، وعندما يقع فعل القتل على شخص ما” والمقتول شخصية عراقية، تتحرك جميع قوى الحكومة لتقف على اوليات هذا الحادث، الا ان روايتنا تأخذ مسارا غير المسار الرسمي، وهو المسار الشخصي، اذ يبعث احد شخوص الرواية، غير المعروفين، على احد الصحفين من بغداد ليأتي الى بعقوبة ويجمع المعلومات عن هذه الجريمة ليصل الى حقيقتها، ويكتب كتاباً في ذلك.

و”بائع” اسم من باع يبيع بيعاً، وهو عكس “شاري”، وهذا البائع يقوم ببيع الكتب، فتجد عنده الكتب القديمة والحديثة، السميكة والقليلة الصفحات، غنية المادة اوفقيرتها من المعلومات، شعر وقصة، رواية وفلسفة، تاريخ وجغرافية، كتب الطبخ وكتب المكياج، ويبيع كذلك المجلات بكل انواعها. اذن هو يبيع كل شيء له علاقة بالثقافة، ثقافة المدينة، فهو مقدم هذه الثقافة الى ابناء المدينة، وسقوطه يعني سقوط الثقافة في المدينة.

هذا البائع قد وجد مقتولا في الشارع، عندها توقف عن بيع الكتب والمجلات في محله “سردابه”، فافتقدت المدينة عنصرا مهما من عناصر ثقافتها المعاصرة والقديمة، فهل هذا يكفي لنكتب رواية عن مقتله؟ ام اراد ذلك الشخص من الصحفي ماجد ان يدون تاريخ حياة هذه الشخصية؟ ام ان هناك اسباباً اخرى تقف وراء كتابة هذه الرواية؟

وهذه الرواية اعتمدت على حبكة القتل، والبحث عن االقاتل، كمن يبحث عن ابرة في كومة قش، فكادت ان تكون رواية بوليسية، لا لانها تمتلك تلك الحبكة وذلك البحث فحسب، وانما يعود السبب الى طريقة واسلوب الصحفي ماجد البغدادي(التحري) الباحث عن القاتل، وهو اسلوب بوليسي كما تقول المصادر التي تتحدث عن الرواية البوليسية، وتضع اشتراطات من اهمها ما قلناه، او سنقوله في السطور القادمة، اضافة للتشويق والاثارة، فضلا عن الغموض الذي يلف الرواية بغلالة كثيفة، من خلال تنوع صور السرد فيها، من مثل الحوارات المباشرة و الهاتفية، واستخدام الصور واللوحات، واشرطة التسجيل كوثائق، واشياء مكتوبة كمذكرات، وغير ذلك، وكل هذا يعتمد المخيلة النشطة للكاتب، لهذا نجد هذه الرواية تقترب من ان تكون رواية بوليسية، الا انها افترقت عن هذا اللون، من خلال عدم الوصول الى القاتل، واسباب القتل، أي حل هذا اللغز.

ان احجية الرواية لم تكتمل في جانب منها الا انها اكتملت في جانب اخر، فكانت رواية تتحدث عن مأساة المثقف، والعراقي بصورة عامة، والازمة التي وضعت نفسها فيها الاحزاب التي تتصف بالتقدمية.

ان الاهتمام بمقتل هذه الشخصية من قبل احد معارفها جاء بسبب كون حياته هي (( دراما كبيرة.. تلخص تاريخاً عريضاً لجيلنا))، أي جيله، وقد كانت الرواية هي كذلك بما قدمته من معلومات مثيرة وصادمة. انها قدمت تاريخا للجيل الذي تحدثت عنه.

ان من مصادر الصحفي البشرية والذين قدموا له مادة دسمة عن المرزوق، الشخص المقتول، هم كل من: فِراس سليمان ابن أخت المرزوق، وهيمن قره داغي وهو كردي، وسامي الرفاعي الرسام الذي يعيش في هولندا، ورباب صديقة محمود المرزوق المُقرَّبة، واثير البغدادي العراقي الذي يعيش في اليمن، ومصطفى كريم، وغيرهم، حيث ان كل شخصية من هذه الشخصيات تقدم بعض جوانب حياة المرزوق المحب، والماركسي، والسجين السياسي السابق، لتكتمل بعد ذاك قصة حياته، الا ان مقتله لم يكن مفهوما، ولم يكن معروفاً للاخرين.

امامنا الان صور ذهنية، مخزونة على شكل ذكريات، وكذلك رسائل، وصور فوتغرافية، هي ما قدمه كل من فراس سليمان، وهيمن قرداغي، وسامي الرفاعي، ورباب، واثير البغدادي، وعلى الراوي “ماجد الصحفي” ان يجمع فيما بينها لتكون صورة واحدة هي ما يمكن ان نسميه رواية “مقتل بائع الكتب”.

عند تجميع كل الصور/ الذكريات هذه، اضافة لما سمعه من الاخرين، تكون الرواية قد وصلت الى خاتمتها دون معرفة السبب الذي يقف وراء قتل المرزوق، هل هو قتل سياسي، ام انه قتل ثقافي، او طلباً للثأر، او”جاءت للمرزوق طلقة تائهة” فاستقرت في بدنه واردته قتيلا في الشارع؟

تنتهي الرواية بخيبة افق المتلقي لاحداثها الدرامية، وعمل الصحفي، ومتابعته لقضية القتل، اذ يبقى القاتل مجهولا، وبعيداً عن قبضة العدالة، وكذلك فإن دوافع القتل غير معروفة السبب، الا اننا نتعرف على الكثير من تاريخ هذه الشخصية (محمود المرزوق)الذي قتل بطريقة غامضة، نتعرف عليه عندما كان داخل العراق ، وخارجه، وهو يحب، وفي حله وترحاله، وفي السجن او خارجه، وكذلك نتعرف عن واقع العراق المأساوي بعد الاحتلال عام 2003.

وبأسلوب مسرحي كما التعليمات التي يعطيها الكاتب للمخرج عن الزمان والمكان ص12، ينقل لنا الراوي “الصحفي” مشهد قتل المرزوق فيقول:((… يصير بمواجهة شاب… يتصافحان… يتكلمان في امرما.. لا تستغرق المكالمة اكثر من دقيقة او دقيقة ونصف.. ثم يمضي كل منهما في حال سبيله.. يمشي المرزوق بضع خطوات. وفي لحظة خاطفة يتوقف عن المسير، يرتعش، ينكفيء، يترنح، يقع، يتمدد على بطنه)). ص13

نتساءل: هل قاتل المرزوق هو هذا الشاب؟ ام انه قتل من قبل شخصاً اخر؟

الرواية تنتهي دون ان تذكر الجاني، ولا السبب. إذ انها تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات التي ذكرت في الرواية، او التي لم تذكر، وهذه النهاية المفتوحة هي ما تحفل به الرواية الجديدة “ميتافكشن” من ضمن تقنياتها.

ان الذي ترمي اليه الرواية هذه هو القتل المجاني لابناء العراق الذين يعيشون في مركز الحياة، او في هامشها، انه قتل غير مبرر، ومجهول القاتل.

ان اختيار الكاتب لهذه الشخصية جاء بسبب ان الناس جميعاً هم مشروع للقتل، ويمكن ان يطالهم القتل المجاني حالهم حال الشريحة المتعلمة والمتنورة والمثقفة كالعلماء والاطباء، والمهندسين، والصحفيين وغيرهم، فقد قال كامران عادل ((إن كل شخص في هذا العالم يمكن أن يكون ملهماً لروائي ما في إحالته إلى شخصية تتحرك في رواية)). (ص 179)

الراوي في هذه الرواية كان بعيدا من ان يكون شخصية ذات تأثير سلبي او ايجابي على مجريات الاحداث، بل كان:

– غير جازم بما توصل له من تحريات، فيبقي الامور مفتوحة لشتى الاحتمالات.

– استخدم جميع الوسائل المادية والمعنوية للوصول الى الحقيقة التي يبحث عنها، الا انه فشل في ذلك، او ان الكاتب اراد ذلك.

– لم يكن الكاتب مؤرخا لحادثة القتل، وذلك لانه ابعد كل شيء عن تحرياته وعما يسمى بمنظوره الشخصي للاشياء والامور، فظل حيادياً وغير مؤثر في مجريات الاحداث.

– قدم صورة بانورامية ودقيقة في الآن نفسه لتاريخ الشخصية، وللعراق عموماً.

نتساءل: لماذا اختار الكاتب شخصية المرزوق لتكون محور الرواية ونقطتها المركزية؟

ان اختيار هذه الشخصية الميتة هو لقراءة ماضي العراق وحاضرة لنتبين بعدها مستقبله. ماضيه المليء بالسجون والدماء والازمات، وحاضره كذلك. وعلينا ان نسأل انفسنا عما سيكون مستقبله المخبأ في المجهول، وماضيه وحاضره، هكذا احمر دامي، مكبل باصفاد السجون، ومتأزم.

لقد كان المرزوق شاهدا على كل ما مر على العراق من نكبات وانكسارات ومحن وهزائم حتى وصل الحال بالوضع العام في العراق الى ان يتحول من قمع السلطة الى قمع المجتمع.

واذا كان الكاتب غير مهتم بالرجل الذي ارسل في طلب الصحفي للكتابة عن المرزوق، فالسطور هذه لايهمها امره، بل انها مهتمة كالرواية التي تقدم تاريخ العراق المعاصر من خلال هذه الشخصية.

الرواية تؤسس الى شيء خارج أي تنظيم حزبي، بل انها في جانب منها تنعي التنظيم واي فكر ينضح منه، وتنعى أي فكر: ((اقتربت من الماركسية كثيرا ولم أؤمن بالتنظيم، بالكفاح المسلح، بالحقد والكفاح الطبقيين.. قلت لرفيق عراقي هارب مثلي، متأنق متحذلق في براغ، لا اعتقد ان الصراع الطبقي هو محرك التاريخ ألان.. ما يصنع التاريخ الآن ويحركه هو الآتي، الفاشيات والمافيات والعقائد الجامدة والمسمومة والتطرف والإعلام الديماغوجي والدعاية السياسية الخداعة والمصالح الفردية الضيقة…). ص155

ان ما مر من صور التاريخ المعاصر للعراق لم يجعل من الكاتب سعد محمد رحيم مؤرخاً، ومن كتابه/روايته كتاب تاريخ، لان مجال التاريخ ليس مجال الكاتب سعد، وانما مجاله هو النص الروائي، إذ قدم لنا في كتابه هذا الذي ذكرناه في اول سطر من دراستنا رواية جديدة تعتمد الاسلوب المسرحي، والاسلوب السينمائي، واسلوب الحكاية، انها رواية من روايات الميتافكشن التي تدهش القاريء في فنها ومادتها.

***

اذا كانت شعرة معاوية التي بينه وبين الناس “الرعية” قد اشتهرت كثيرا في التاريخ، فإن شعرة سعد محمد رحيم قد وصفها بإنها ((شعرة واهية بين المعقول واللامعقول في حياة البلاد))ص218، ظلت من خلال هذه الرواية خالدة في الذاكرة. إذ ان المعقول في زماننا هو القتل كجريمة بحد ذاتها، واللامعقول هو كيفية وسبب القتل.

وقد كانت في ذهني وانا اقرأ هذه الرواية اكثر من رواية، مثل رواية “شيفرة دافنشي” لدان براون والبحث عن اثر جريمة تقع في متحف اللوفر وسط ظروف غامضة، فيكتشف هذا الباحث اشياء جديدة لا علاقة لها بالجريمة. ورواية “اسم الوردة” لامبرتو ايكو التي فيها يعرف راهب ضيف يدعى ويليم ان الجرائم التي تقع في الدير هي من فعل فاعل، وتنفتح امامه قضايا جديدة لا علاقة لها بالجريمة. ورواية عبد الخالق الركابي “ما لم تمسسه النار” حيث يبحث بطلها عن موت “نديم” فتنكشف امامه ابواباً كثيرة، وغيرها، وكل هذه الروايات تتحدث عن شخص يبحث عن شيء ما فتنكشف امامه اشياء، وروايتنا هذه هي من هذا النوع السردي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.