الرئيسية | سرديات | المزار | شاهر جوهر

المزار | شاهر جوهر

 شاهر جوهر / سوريا

 

”قصة من التراث السوري، وقعت بداية أحداثها في ستينيات القرن الماضي في قرية صغيرة من قرى الجنوب السوري “

 

سمحوا له بالعيش بينهم، فمكث أعلى الثلة في مكان لا يقصيه أحد، بدت القرية الصغيرة ببيوتها المتناحرة تحت مسكنه الضيق كخيام نكستها الحرب، فتضرع وتعبّد إلى الله في كوخ لا يصلح سوى لسكنى البهائم و الطيور التي شرع يربيها ليقتات من لحمها ولبنها .

فالكل يذكر – في إحدى سنوات الجدب والقحط – كيف جاء هذا الشاب الأسود من أقصى القرية يجر عظامه المهيضة حتى أعيته جراحه النازفة. وعلى أطراف القرية، و بالقرب من مقام الأمام “الخضر”، تجمّع الناس حول حطامه، فطببوا على غير العادة جراحه حتى اندملت، لتمر الأيام ووعيه قاصرٌ ادراك ما جرى له، إذ تغيبت عنه ذاكرته وذكراه، فلم يتعرف على نفسه ولم يعرف أحد كيف جاء ومن أين جاء .

اعتاده الناس، وأحبوا رفقته، واعتادت النسوة والفقراء زيارته ليدعو لهم الله بالفرج والقبول، وبعد سنوات، وفي شتاء قاسٍ، قيل أنه غط في نوم عميق، فزاره “الأمام الخضر” في المنام، عظ بيده الطاهرة على كتفه، فأغشته رهبة المنام حتى تجهم وجهه الأسود وأحس برعدة في جسده، وقال له:

–  لا تخف يا أمام، أنا الخضر .. أقصدني الله إليك في أمر .. علم الله أن هذا الخراب يؤلمك كما كان يؤلمني، فلا نريد ليديك الرطبتان أن تتيبسان بحمل الضغينة، ولا لهذين الساقين أن يتعثرا بشرائع البشر، لا تبتعد عن الناس فتبتعد عن الله، فما أحوجهم وأحوجك في هذه الظلمة إلى نوره . لأنك ان ثبت سنلتقي أنا وانت غداً في ذروة الازدحام، فهناك يوم اللقيا . فلا تراقب خطايا الآخرين، وتجيّر بالصمت والصبر . وعندما تتخابط الاكتاف بالأكتاف سأبحث معك عمن أحببناهم ورحلوا أشلاء أموات في هذا العالم الذي يقدس القبور..

– ماذا أصنع لأجل ذلك ؟

– تعال معي وادعوا هؤلاء الفقراء حولك أن يأتوا معك وليكن لي بيتا بالقرب منك، فقد ضاق بي المكان، وتجيّفت حولي الجثث والقذارة حتى تأبد المكان وتوحش .

– لكن الناس لن يصدقوا روايتي.

– ادعوا الناس صباحاً، و سأترك لك شريطاً أخضر في عود لوز  قد زرعته قرب كوخك .. فتحيّن لي بيتاً مكانه.

في الصباح تهوّك الامام في أمره، إلى أن عزم عليه ونادى بالناس، الأمر الذي حمل مشايخ البلدة للإتيان وهم يرفلون بأثوابهم و لحاهم الطويلة الناعمة، وقد بدا في وجوههم نظرة النعيم، على خلاف جميع الوجوه المغبرّة من الفقراء .

تصدّر المشايخ الناس، وتقدمهم كبيرهم وسأل بتثاقل ووقار :

– نتمنى أن يكون الذي حملك لدعوتنا هذا الصباح خيراً يا إمام .. تفضل جميعنا يسمع ما تقول.

وقف الامام ولاح على وجهه التردد، ثم حكى لهم ما رآه في ليلته السابقة، فهذر الناس لكلامه، ولم يرق للكثير منهم ما سمعوا، حتى صرخ أحدهم :

– أو لم يجد سيدي الخضر أحداً سواك ليكلمه..

وتابع آخر باستخفاف :

– إن كنت لا تعرف اسمك وأصلك وفصلك ومن أي بلد جئت، فكيف عرفت سيدي الخضر .. كيف كان شكله ها ..؟ هل كان أسود البشرة مثلك، وهل يرتدي عمامة أم جلباب قصير .. أم سروال من الجينز ؟

فضحك الجميع، وسيئ وجه الامام . إلى أن تدخّل أحد المشايخ ودنا بالقرب منه مدافعاً :

– ولما سيكذب هذا الرجل الطيب، مذ جاء إلى ديارنا لم نر منه إلا الخير، ولم يسئ لأحد من رجالنا أو نسائنا، على العكس فقد كان يعلّم أبنائنا في وقت قد انشغلتم فيه بالبحث عن لقمة العيش، وليس لنسائكم شغل سوى  البحث عن سفاسف الأمور .. أنا أؤمن بهذا الرجل، وأتمنى ان يُسمح له ببناء بيت لسيدي الخضر بجوار بيته. لعل الله يباركنا به، ويغفر لنا خطايانا بإهمالنا لمقامه القديم .

فعاد الناس وكثر هذرهم من جديد، فأسكت كبيرهم الجميع وقال جازماً الجدال :

– أنا أصدق الإمام رؤياه، وعند عود اللوز سنبني بيتاً مباركاً لسيدي الخضر ..

تفتّح وجه الإمام، وسرّه حديث المشايخ، وبالفعل أخذ الناس يبحثوا عن عود اللوز إلى أن وجدوه مغروزاً بالقرب من كوخه، وقد طليت حوله الأرض بالجير الأبيض ..

بُني البيت، و مرت الأيام سراعاً، وصار الناس ينادوه “بالإمام الغريب”، فقد كان بينهم صادقاً ولا يتكلف، وثمة شيء يريح الأعصاب عند زيارة كوخه، وأنوف المتعبين تعشق رائحة البخور في حضرته، وأمثال هؤلاء من الناس بحاجة أن يعبوا سكينته ليرتاحوا مما هم فيه من وصب المجاعة.

و في تلك البلدة كان “علي الزين” الرجل الصلد، غليظ القلب يمثل النسخة القديمة من جيل المحافظين على تقاليد تلك البلدة . فقد عقرت زوجته لتسع سنين، حتى أرِق حالها، وتجشّن صدرها، وأقفر البيت حولها، فطلبت من زوجها  زيارة الامام، لعل الله يسمع دعائه فيهب لهم ولداً، وعندما رفض بعزم، زارت الامام في بيته سراً، جلست وراحت تحدثه بألم :

– أعلم أنه من غير اللائق بامرأة مثلي في هذه البلدة أن تخرج عن إذن زوجها سراً لتأتي و تبث لرجل غريب شكايتها، لكنني موقنة بأنك رجل صالح، ومؤمنة بأن محبتي لله سيل وعهدي برحمته إسفنجة .. كانت مريم البتول عزباء وقد رزقها الله بكلمة منه نبينا عيسى عليه السلام، نوراً أضاء دروب البشرية المظلمة، وعتى الدهر على نبينا ابراهيم فمنحه الله بعد الكِبر جزاء ايمانه بإسماعيل واسحاق، وناداه سيدنا زكريا فمنحه من صلبه نبينا يحيى، ليس على الله في ذلك تعب في أمره، ولا راداً لرأيه، لكنني لست كمريم ولا كأبينا ابراهيم وزكريا حتى أتجرأ وادعو الله ليمنحني ابناً .

ثم أخذت تنشج بلوعة، ذارفة دموعاً سخيّة، و راحت تبث شكايتها له والألم يعتصر قلبها، فتركت كلماتها أثراً حزيناً في نفسه، ودون أن يتحدث اليها رفع يداه إلى السماء متضرعاً ببعض الكلمات :

– ربي هذي يدي ممدودة إليك إملئها من كيسك نعمة وبركة، و علمني أنا وهذه الزوجة المحرومة كيف نبتدئ بك.. وكيف ننتهي بك .. علمني وعلمها كيف نكتفي بك..

فإن أسكتني بخلي لسؤالك طوال تلك السنين فكلامي إليك اليوم لطمع في كرمك ..

و إن سدّ جهلي نطقي فدعائي اليك لثقتي بعلمك..

ربي لطالما ترددت عيناي الرخوتان في سماءك، وأعرف بكفرٍ أن ساقاي تترنحان على أرضك. فليتك تساعد هذه المحرومة، و ترزقها ابنا باراً برحمتك .

وبتلك الكلمات الهيّنة ختم تضرعه ثم طلب منها العودة إلى بيت زوجها وأن تذكر له قدومها إليه، وعدم عصيان أمره مرة أخرى . وما إن عادت حتى أخبرت زوجها بالأمر، فثار غضبه لبعض الوقت ثم سرعان ما تناسى ما حدث وغفر لها خطيئتها، لما في روحه من توق راعف لطفل يرثه .

وبعد أسابيع كان لمشيئة الله تدابيرها، بأن حبلت تلك الزوجة، وبدا بطنها يتكور وينتفخ، فرِحت لذلك أشد الفرح وأقام الزوج لذلك الذبائح ووزع اللحم على الفقراء، وعَلَتْ البلدة رائحة اللحم المطبوخ لثلاثة أيام لا زال الناس يستذكروها لليوم، إلى أن مرت الشهور التسعة وأذنت الزوجة بحملها لوقتها ووضعت مولودها .

كان المولود ذكراً، ممتلئ الجسم ومكتملاً، لكن لم يسعد الزوجان به، فقد كان أسوداً كوشاح الليل، وقد علم كل من في القرية بذلك . ولم تنم ألسنتهم وهي تلوك في حديثها شكوكاً حول المولود الجديد، حتى تأسن وجه الزوج وتكدّر، وثارت ثائرته حين أخذ الناس يتهموا زوجته بعفتها مع ذاك الامام .

وفي الليلة الثانية حين حل المساء تجمّع إخوة “علي الزين” وبعض رجال البلدة بعصيّهم أمام منزله . خرج عليهم وبدا على وجهه التعب والفتور، صرخ عليه أحد إخوته بعصبية:

– لم يسبق لعائلتنا أن دُنس شرفها كما دَنست زوجتك شرفنا ونسبنا مع ذلك الغريب المدعي الأمانة ..  لا ينظف الوسخ إلا الدم يا أخي ..

قال آخر على شاكلته:

– سكوتك يقول أنك راضٍ عمّا فعله هذا الرجل، أو أنك مقتنع بأن هذا المولود هو ابنك ومن صلبك ! . أنظر حولك جيداً و اجلب لي امرأة واحدة فقط في عائلتنا أو في هذه القرية قد أنجبت طفلاً أسوداً منذ ربع قرن إلى اليوم ..

لم يقوَ علي الزين أن يرد كلامهم ولو بكلمة، فنظر إليه أخيه بنفاذ صبر :

– ها .. لم لا تجب، لن تستطيع أن تحجب الشمس بأصابعك المنفرجة يا أخي، أو أن تكذب على نفسك، في داخلك قناعة بما نقول، لكن لا أعلم لما هذا الخنوع، كل القرية تعلم أن زوجتك كانت تزور الإمام سراً بذريعة أنه رجل مبارك ليدعوا الله لها بإنجاب ولد، وكانت تفعل فعلتها الخبيثة معه تحت تلك الحجة .. إن كنت راضٍ عن ذلك فنحن لن نرضى أبداً بهذه الإهانة، وستشهد هذه الليلة دماً يغسل عارنا ..

ثم أومئ الأخ الغاضب برأسه للبقية فدخلوا البيت يلهثون بعصبيّة، جروا الزوجة المسكينة من شعرها وقد ضمّت ابنها إلى صدرها قبل أن ينهالوا عليها بالضرب والشتيمة، كانت فورت دمائهم تغطي آذانهم ليسمعوا توسلاتها . في حين تسمّر زوجها في مكانه دون أن يتلفظ بحرف.

و عند كوخ الأمام، أحاط الرجال المكان، ودون أن يعي ما جنايته أهانوا بعصيهم شيبته، ثم جمعوا الثلاثة (الإمام والزوجة والابن ) وربطوهم في عامود الكوخ وجمعوا الحطب تحتهم دون أن يلقوا بالاً لتوسلاتهم . ثم نظرت الزوجة إلى الإمام المسكين وهو يدعو الله في صوت خفيض، وقد بلل الدم وجهيهما :

– اغفر لي خطيئتي يا إمام، أنت رجل طيب، وقلوب هؤلاء الرجال لا تعرف الرحمة ..

ثم أخبرته بعجل ما جرى، سمع منها ذلك ثم ابتسم بتوجّع :

– لا تخافي، سيعلمون الحقيقة دون شك، ودون شك سيتبدل هذا النهار، وسيقف الله مع من ظلمهم عباده . إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، اصبري وسيقف الله معنا فلا تـ…

ثم قطع حديثهما ذاك الأخ الجاحد، وقد حمل بيده جذوة من نار، وبلا رحمة أو شفقة :

– ستغسل هذه النار خطيئتكم، لعلكما أن قابلتم الله تقابلانه بوجه أبيض ..

بكت الزوجة، بكاءً تتقطع له نياط القلوب، وصاحت :

– يشهد الله أننا براء من جنايتكم، هل جريمتي أني طلبت من هذا الرجل الطاهر أن يدعو لي الله ليرزقني طفلاً ..

لم يشفع لها كلامها معه، ولم يمنع ذلك الأخ من أن يشعل الهشيم من تحتهم، لتتسلق النار الجائعة وتأكل أيديهم ووجوههم دونما شفقة، فصرخوا حدّ الوجع، وصاحت الزوجة المسكينة بوجع:

– أخبروا زوجي أنني أحبه.. أخبروه أنني لم يمسسني بشر غيره..

والإمام يصرخ ويدعوا الله، وما زالت تلك دعواهم إلى أن التهمت النار أصواتهم، فهمدوا بلا حراك إلى الأبد.

في الصباح استفاقت القرية على خبرهم، فجمعوا على مضض ما تبقى من رمادهم ودفنوهم في قبرٍ واحد في ذاك الكوخ . ومرت الأيام والسنين، وراح طيف الإمام وتلك الزوجة المظلومة يطوف تلك القرية كل عام، و يراقب – في المنام – كل زوجة اشتهت ولداً في الحلال . إلى أن تحول قبرهما إلى مزار تتعوده زوجة عقرت أو أخرى وضعت ابناً لتتم مباركته، فتحمل مولودها في ليلته الثانية إلى قبرهما، حاملةً في يدها عود لوز لُفّ بشريطة خضراء فتغرسه بالقرب من رمادهم المدفون .

وبعد ثلاثين عاماً، وجد الناس في المزار ملاذهم الأخير وملجأهم من حربٍ شنها الحزب الحاكم في البلاد ضد من أشعلوا الثورة فيها، فتجمع سكان القرية لاجئون ومرتعبون في خيامهم حول المزار قبل أن تتحيّفهم أسلحة القوات الحكومية وتحرقهم في خيامهم فوق قبر الإمام الغريب .

 

تمت  في  1 آذار / مارس  2017

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.