الرئيسية | فكر ونقد | المثقفون المغاربة ورهان التغيير (3): أنماط المثقفين في المغرب المعاصر | فريد لمريني

المثقفون المغاربة ورهان التغيير (3): أنماط المثقفين في المغرب المعاصر | فريد لمريني

فريد لمريني

 

3- أنماط المثقفين في المغرب المعاصر: محاولة في التصنيف السوسيولوجي

     هل يمكن الحديث فعلا عن أزمة ما خاصة بالمثقف المغربي اليوم، أم أن وضعه الراهن وضع تاريخي عادي؟ وهل نعته بأوصاف قدحية كثيرة كالاستقالة من المسؤولية ، أو الصمت أو الموت …أوصاف موضوعية، أم أنها مجرد أحكام سطحية وغير دقيقة ومثقلة بالتحامل عليه ، وعاجزة عن تحليل الأوضاع الثقافية للبلد ، وبالتالي تحليل الأوضاع السوسيولوجية الحقيقية للمثقف والفعل الثقافي .؟

     كتب عبد الله العروي مجيبا عن بعض عناصر هذه الأسئلة الكثيفة المعنى، في علاقتها بالمثقف العربي قائلا :

” يمكن القول أن ظاهرة الأزمة لا تفارق المثقف في كل مجتمع، وفي كل حقبة من الحقب التاريخية. بل إن الأزمة لا تدل في الغالب على انحطاط أمة ما، بقد رما تواكب نهضة تلك الأمة من كبوتها وركودها. لدينا أمثلة مشهورة في التاريخ الغربي :

          أ- الأزمة الرومانسية في ألمانيا في بداية القرن الماضي(يعني القرن التاسع عشر).

          ب- الأزمة الواقعية في روسيا في أواسط القرن التاسع عشر

          ج- أزمة 1870 في فرنسا بعد هزيمتها أمام بروسيا

عندما نتكلم عن أزمة المثقف العربي، فإننا نتكلم عن واقع تاريخي عادي ومنتظر، ما دام العرب يعيشون نهضة منذ ما يقرب من قرن ونصف.

     إن أزمة المثقف انعكاس لأزمة مجتمعه. لكن المثقف عامل فعال في المجتمع: يستطيع إما أن يخفف من الأزمة المجتمعية بدراسة أسبابها وإظهار سبل الخروج منها، وإما أن يضعفها بأزمة ذاتية تهمه هو، ويلهي بها ذهنه وأذهان قارئيه. ٌ [1]

     هل يصح إذن ،بناء على هذه الفرضية،أن نعتبر أوضاع المثقفين المتأزمة،أوضاعا عادية وطبيعية،خاصة حين تكون مجتمعاتهم في طور الانتقال التاريخي الصعب من التقليد إلى التحديث،بمعنى حين تكون هذه المجتمعات تعيش أطوارا تاريخية انتقالية غاليا ما تكون طويلة الأمد،فننتهي إلى القول مع الباحثة شيرين أبو النجا [2] في دراستها الحديثة حول المثقفين المصرين بعد ثورة 25 يناير 2011 في نطاق ما سمي بالربيع العربي،بأنه ما دامت هناك مجتمعات انتقالية،فلا يمكن أن نرصد سوى مثقفين انتقاليين.؟

     وكتب محمد سبيلا في سياق قريب من الأسئلة الآنفة الذكر قائلا :

ٌ ليس من مهمة المثقف إن ينزل إلى الأزقة والدروب، ويواكب المهرجانات والاجتماعات، ويصرخ بأعلى صوته. بل إن دوره الملاحظة والتحليل، وفتح النقاش المعمق حول القضايا بروح نقدية استشرافية، والمساهمة في عقلنة الرؤية والثقافة والممارسة. (…..) إن المثقف محكوم بمنطق البحث والفكر، وبالمدة التاريخية الطويلة ، وباللاشعور الثقافي الثاوي وراء السلوكيات والتصورات ، وهذا ليس استقالة من التاريخ ،بل حفرا في أعماقه البعيدة .والحملة الحالية المتواترة ضد المثقف، ليست إلا شكلا من أشكال ضغط السياسي عليه حتى يواكب التحولات والانعطافات، ويندرج في مسارها وينتج خطابا إيديولوجيا ( تبريريا) داعما لما سمي بالانتقال الديمقراطي، والتناوب التوافقي ، والتحويل من الداخل …..   ٌ[3].

    وكتب كمال عبد اللطيف قائلا :

“”إن مواقف الذين يربطون  بين صورة المثقف والسياسي،وبشكل نمطي،تتضمن كثيرا من صور الحنين إلى المثقف المنقذ،المثقف صاحب البصيرة والحدوس القوية والخيارات القاطعة والقطعية،المثقف  الذي يشبه القائد الملهم،إلا أن هذا الموقف وان كان أصحابه يقرون بحصول التغيرات (التاريخية)..،إلا أنهم لا يتردون في استمرار إعلان تعلقهم بصورة لم يعد ممكنا تحقيقها.

إن الذين يحنون اليوم،إلى مشاركة المثقفين الطلائعيين في معارك معينة،كما كان عليه الأمر في أزمنة خلت،يتصورون إمكانية حصول هذا مجددا،إنهم يعتقدون بإمكانية عودة المثقف الداعية العارف وحده بحقيقة ما جرى ويجري،بدل أن يفكروا في التحولات التي تنبئ بالصورة الجديدة للمثقف، القادر اليوم على حراسة مقتضيات اليقظة الذهنية والتسلح بالنقد والفكر النقدي، لمواجهة اليقينيات ومختلف أشكال الفكر الشمولي،ليظل الفكر عنوانا لخيارات لا تتردد في مواجهة أعطاب التاريخ وصناعة المستقبل.””  [4]

   يوجد المثقف المغربي في أوضاع سوسيولوجية بالغة التعقيد وغير قابلة للتحديد الدقيق. هنا لا يمكن في تقديرنا الشخصي، سوى الحديث عن معاينات لمواقع هشة وسهلة الاختراق، من طرف الايدولوجيا المهيمنة داخل الدولة وداخل الأحزاب السياسية على حد سواء، وبالتالي سرعان ما يتم إرباك المنطلق النظري التأسيسي لمفهوم النخب ،وهو ينبني على أساس التماسك الصلب بين شرائح اجتماعية محددة سوسيولوجيا إلى حد كبير .

    يتعلق الأمر بحالات يمكن معاينتها في تجليات هاربة ومستعصية على الضبط والتحديد .إن المثقف المغربي يوجد داخل الحقل الاجتماعي بالكيفية الآتية:

   – حالة المثقف العضوي

     كانت التجربة السياسية لليسار المغربي في الستينيات والسبعينيات الماضية  بشكل خاص، وهو قادم موضوعيا من قلب الحركة الوطنية المغربية ، عاملا تاريخيا قويا في تنشيط الحركية الثقافية المغربية،وتخصيب الأطروحات الفكرية التي كانت متداولة في ذلك الوقت، في أوساط المثقفين المغاربة . وقد تميزت كثير من المناقشات والتنظيرات الفتية آنذاك بجرأة فكرية بالغة، وبدرجة عالية من الاستقلال الفكري والقدرة على المجادلة الإيديولوجية .

     كانت شهية المثقفين المغاربة ، حتى وهم يتحدثون من قلب المعترك السياسي، مفتوحة على الفكر النقدي الحر، كما اتسمت مطارحاتهم الفكرية ، حتى حين كانت تكتسي في كثير من الأحيان،تحت تأثير النزاعات الإيديولوجية الظرفية، طابعا متناقضا، بغير قليل من الاجتهاد والتفتح على المستقبل .

     مما لاشك فيه أن وراء هذه الديناميكية الثقافية التي ساهمت في إنضاجها التجربة السياسية لليسار المغربي ، عوامل داخلية قوية يمكن اختزالها في الأزمة الواسعة النطاق للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الوطنية، وقد بلغت مستوى عاليا من الاحتقان والتوتر، وفي الأزمة السياسية التي عاشتها الدولة قي ذلك الوقت ، مما نتج عنه توتر حاد في علاقتها بالحقل الاجتماعي. وقد أدى هذا الوضع إلى استفزاز الحس الفكري لدى النخبة المثقفة ذات التوجه الحداثي أو اليساري . لكن وراء هذه الديناميكية أيضا ، عوامل خارجية دولية في ذلك الوقت ،تتجسد إيديولوجيا في الإقبال الكبير للحقل الثقافي المغربي في ميوله الاشتراكية أو الشيوعية على ثقافة الحرب الباردة والتغيير الثوري للأوضاع القائمة، من خلال الاستهلاك الواسع النطاق لمفاهيم المادية التاريخية ، وللأطروحات العالمثالثية حول مواجهة الامبريالية والقضاء علىٍ  ٌ المعاقل الإيديولوجية” للكومبرادور ” ومناهضة الرأسمالية باعتبار مسؤوليتها العالمية على التخلف والفقر .

      لعبت الجامعة المغربية في قلب هذه المعركة الإيديولوجية التي كانت لها امتدادات دولية قوية ، دورا بارزا في تنشيط المطارحات الفكرية الرائجة  في تلك الفترة، وهي منبر ثقافي عمومي مفتوح ومستقل عن الدولة .وكانت مفاهيم الثورة والمثقف الثوري أو العضوي، تثير شهية اللاشعور السياسي لدى فئات عريضة من المثقفين وأشباه المثقفين المتشبعين بالمعجم السياسي الماركسي اللينيني بشكل خاص . كما لعب الحقل السياسي المغربي في ذلك الحين ، دورا طلائعيا في هذا السياق،لأنه كان مشتلا إيديولوجيا ديناميكيا ومشعا، يساهم في ميلاد المثقف ونضجه الفكري.فالمثقف المغربي ، من الناحية التاريخية في الكثير من الأحيان،  يستمد قضيته ونموذجه في الفكر والحياة من قلب الحقل السياسي، ومنه يستمد كثيرا من شعاراته وجهازه المفاهيمي الذي يستخدمه في مرافعاته الصاخبة حول التغيير والثورة.

     كانت النهاية الإيديولوجية ً للمثقف المغربي العضوي أو الثوري ً في التسعينيات الماضية،  ونحن على مشارف نهاية القرن العشرين . وكان ذلك من الناحية الموضوعية نتيجة حتمية لصيرورة تاريخية  معقدة و حتمية في تجلياتها الداخلية والخارجية  .

     على المستوى الدولي، كانت المرحلة إعلانا كونيا قويا بنهاية درامية لكل شعارات الحرب الباردة، وكل الأوهام الإيديولوجية اللذيذة حول سقوط الرأسمالية والإمبريالية ، وقد تجلت العولمة في أفق الكون معلنة بزهو سياسي غير مسبوق، احتكارها للمشهد، وهيمنتها الحصرية في تدبير السياسة العالمية، ومعلنة خروج الايدولوجيا ذاتها من حلبة السباق والتنافس .كما شهدت المرحلة كذلك تراجع وهج كل الشعارات الجوفاء التي كانت تحوم حول “القومية وًالوحدة العربية من المحيط إلى الخليج “،وقد كان لها وقعها التعبوي في أذهان المثقفين المغاربة، وهم يرمقون فلسطين تسقط يوما بعد يوم في قبضة الاحتلال الصهيوني ، في ظل  مناخ سياسي متوتر كانوا يعتبرون أن المسؤول الأول عنه، هو ما كانوا يسمونه ًاستبداد الأنظمة العربية وتخاذلها ً .

     على المستوى الوطني ، شهدت التسعينيات الماضية، ميلاد تجربة سياسية فريدة من نوعها في المغرب،  سميت ب” تجربة التناوب التوافقي”، وعلى إثرها التحقت المعارضة السياسية الماضية بالحكم، واستلمت بعد مخاض سياسي وإيديولوجي قوي، وبعد إقناع القواعد الحزبية والجماهير، مقاليد تدبير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للبلد ، تلك التي سبق لتقرير البنك الدولي الشهير الصادر سنة 1995 حول المغرب، أن وصفها بأنها على عتبة ٌ السكتة القلبية ٌ .

     كان قطاع هائل من النخب المثقفة المغربية، يتابع باهتمام بالغ ما كان يجري في الحقل السياسي من تطورات مثيرة ، ويترقب حصيلة التدبير السياسي الجديد بحماس إيديولوجي متوهج أحيانا ، وحذر أحيانا أخرى، خاصة وأن كثيرا من المثقفين العضويين اللامعين، كانوا من بين الفريق الحاكم .غير أن الكيفية التي انتهت بها هذه التجربة المتميزة والجريئة ، علاوة على استمرار الحرس القديم إلى اليوم في التشبث بمبدأ المشاركة في الحكم، ولو كان ذلك فوق كراسي سياسية غير مريحة وبكيفية هجينة ،أدت إلى فتور الحماس السياسي لدى قسم كبير من النخب المثقفة ، بل دفع يبعضها الآخر، إما إلى الهامش والاستسلام لليأس ، أو إلى تغيير الخندق الإيديولوجي برمته . وربما لن نجد أبلغ في التعبير عن الوضع التراجيدي لهذه الفئة من المثقفين العضويين ، من الأوضاع الإيديولوجية والتنظيمية البئيسة التي تتخبط فيها الأحزاب اليسارية المغربية،كما يتخبط فيها اتحاد كتاب المغرب في السنين الأخيرة ،مما جعله يفتقد كثيرا من الروابط السوسيولوجية بالحقل الاجتماعي .

     لقد تقلص هامش الحركة بالنسبة للمثقف العضوي القديم ، ذلك الذي كان ديناميكيا في قلب الحقل الاجتماعي، وهو يتجول واضعا رموز وأقمصة المناضل السياسي ً الثوري ً  أو ً ألأممي ً أو ً الملتزم ً أو ً الحداثي المتنور ً  فوق جسده، أو يقود مظاهرات احتجاجية ساخنة بشعارات صاخبة . ان المثقف العضوي يوجد اليوم في حالة استرخاء فكري، متابعا ما يجري من تحولات تسير هاربة بسرعة جنونية ، ولا يكاد في الوقت الراهن يجد لها تعليلات أو قوانين واضحة ومقنعة تشفي ضميره المتعب، وتطمئن غليله الثقافي المثخن بجروح الماضي، وبأسئلة جديدة ومستعجلة تبلغ درجة المتاهة والحيرة  . وقد لفت انتباهنا في السنين الأخيرة،  كيف أن عددا لا بأس به من هذا النوع من المثقفين، اندفع بحماس مستجيبا لنداءات وإغراءات منتدى ثقافي / سياسي جديد، سمى نفسه “حركة لكل الديمقراطيين المغاربة”، وهو يرفع ذلك الشعار القديم ذاته الذي سبق أن أتعب مناضلي ومثقفي الماضي ، ونعني بذلك شعار الأصالة والمعاصرة .وكان التحاق عدد لا بأس به من هؤلاء المثقفين بهذه الحركة القادمة من مربع الدولة،  واسعا وملحوظا على أوسع نطاق  سوسيولوجي.

     غير أن حركة 20 فبراير المغربية الاحتجاجية،التي جاءت في السياق العام لحركة الاحتجاجات العربية في سنة 2011، كانت فرصة سياسية وايديلوجية ثمينة لعدد هائل من المثقفين العضويين القدامى والجدد، الذين كان قد تسرب اليأس والكسل إلى قلوبهم وميولهم النضالية.والحقيقة،فان مساهمة هؤلاء بالإجمال، في نجاح حركة 20 فبراير كانت واضحة، خاصة بعد تذمرهم العميق من أحزابهم السياسية التقليدية.

    – حالة المثقف الديني

     هناك نوعا آخر من المثقف المغربي، هو المثقف الديني الذي يوجد اليوم بتجليات وتجسيدات مختلفة. وقد نراه يتحرك في الحقل الاجتماعي أو في حقل الإعلام والأضواء المتوهجة، بأسماء إيديولوجية مستعارة في بعض الأحيان حسب مستلزمات ً التقية الدينيةً، أو حسب مقتضيات الحركية السياسية الجارية وأعرافها الإيديولوجية العريقة.غير أن هذا النوع من المثقفين في تقديرنا الشخصي، يخضع لنفس منطق الصيرورة التاريخية التي يخضع لها المثقف العضوي القديم وزميله المثقف الحداثي الليبرالي . وقد ازدادت قوة المثقف الديني في النسيج الاجتماعي المغربي العميق بشكل ملموس، على حساب نظيره العضوي أو الحداثي  ، منذ شروع الدولة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في تشجيع العلوم الدينية على حساب الدراسات الفلسفية والعلوم الاجتماعية الحديثة،في الجامعة المغربية و داخل الأوساط الأكاديمية العليا .

     ينتمي المثقف الديني المغربي، من الناحية التاريخية، إلى التاريخ العقائدي الإيديولوجي العريق للمجتمع المغربي.انه في الأصل مكون مركزي من مكونات الحقل السياسي الرسمي للدولة، ما دامت الشرعية السياسية ذاتها في المغرب، قادمة بعمق من قلب الحقل الديني.

     يمكن أن نعاين اليوم في المغرب على المستوى السوسيولوجي ، أنماطا متنوعة من المثقف الديني . أقدم هذه الأنماط من الناحية التاريخية ، هو ٌ الفقيه أو العالم ٌ أو ً الشيخ السلفي التقليدي  ً، أو ً شيخ الطريقة والزاوية ً أو ٌ المثقف الديني الدعويٌ، الذي إما أنه يتكلم بصوت الدولة،أو أنه يتكلم من موقع معارضة الحكم ( حركة العدل والإحسان نموذجا متميزا ) . غير أن هناك في الوقت الراهن، مثقفا مغربيا يتحرك على رقعة المجتمع بثقافة دينية عصرية أو حداثية ، ويتجسد نموذجه في قلب الحقل الاجتماعي في شخص ً المثقف الصوفي العصري ً  وعالم الدين الذي يتحدث بلغات العالم بطلاقة ، ورجل الدين الذي يعتبر اليوم فاعلا أساسيا داخل الحقل السياسي ، وهو يحترف السياسة منطلقا من مرجعية دينية محضة .

     في سياق منطق” التجديد الحذر للنخب” الدينية في المغرب  ، واستجابة للمطالب المستعجلة التي فرضتها في السنين الأخيرة مجموعة من التحولات الجارية على المستوى الوطني والدولي ، وعنوانها البارز هو : ٌسياسة محاربة الإرهاب  ٌ ، اشتغلت سياسة الدولة على ثلاث واجهات إيديولوجية  جوهرية :

          * الواجهة الأولى تجسدت في مسارعة الدولة إلى ملائمة مستعجلة للتشريعات الجنائية والزجرية الوطنية، مع المقتضيات الدولية في هذا المجال، قصد مواجهة تغلغل الثقافة السلفية الجهادية في النسيج الاجتماعي ، وبالتالي القضاء على المنابع  الثقافية للعنف الديني بصرامة .وإذا عرفنا أن الثقافة الدينية بأنماطها الشعبوية والجهادية والتكفيرية، اكتشفت قنوات حديثة من التصدير والتلقي في عصر العولمة ، وأصبحت في عصر الويب والدعوة عن طريق الفضائيات المنتشرة بكثرة هذه الأيام ، سهلة المرور من مجتمع إلى آخر ، تبينت لنا بالضبط العوامل الموضوعية التي أدت إلى ميلاد هذا النوع من ٌ المثقفينٌ أو أشباه المثقفين الدينيين في المغرب ، كما تبينت لنا أيضا أهمية هذه الواجهة الإيديولوجية من عمل الدولة في الحقل الديني،  خاصة بعد أن فهمت هذه الأخيرة الخطورة الأمنية للسلفية الوهابية على الأمن الروحي للبلد واستقراره العقائدي والمذهبي .وما زالت الدولة في الوقت الراهن،من خلال مخططات أمنية واستخباراتية تشتغل على صعيد دولي، تتوجس من هؤلاء الجهاديين والتكفيريين الذين يوجد عدد كبير منهم ضمن مقاتلي ما يسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.

      * الواجهة الثانية هي إعداد الدولة لخطة تعمل على إدماج قسم كبير من الفاعلين الدينيين القدامى، بوساطة بعض الرموز المخزنية القديمة ، في قلب الحقل السياسي الوطني .ويتكون هؤلاء الفاعلون من بعض المثقفين الدينيين المتنورين والمتفتحين على العصر ، إضافة إلى بعض بقايا الجماعات الإسلامية القديمة التي تبنت في وقت سابق خيار العنف وتراجعت عنه، عن طريق نقد ذاتي صيغ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة .وقد استهدفت الدولة من خلال هذا العمل الاستقطابي المشار إليه ، غايتين جوهريتين : – أولا – تنشيط الحقل السياسي الرتيب والبطيء الحركة بفاعل سياسي من نمط خاص، وبثقافة سياسية لها طعمها المتميز . ثانيا – التخفيف من حدة التوترات التي تتسبب فيها المعارضة الدينية وبالتالي مراقبتها بشكل أفضل .

     الواجهة الثالثة هي ما تسميه الدولة ذاتها بسياسة: تأهيل الحقل الديني ، وهي في نهاية الأمر سياسة موجهة لخدامها الرسميين ، أو بعبارة أخرى، فهي موجهة للمثقف الديني المخزني ، ذلك الذي يسهر عمليا على تنفيذ أوامر السياسة الدينية القادمة مباشرة من حقل إمارة المؤمنين .

     يتعلق الأمر في هذا السياق الخاص من تجديد النخب ، بعملية تحديث وعصرنة للحقل الديني برمته، لكي يكون في مستوى التحديات الإيديولوجية الجديدة في عصر العولمة والانتقال السريع للأفكار والآراء والتكنولوجيات الحديثة للإعلام والاتصال  ، سواء من حيث تجديد البنيات التحتية  واللوجستيكية التقليدية لهذا الحقل الحساس في حياة الأمة ، أو تجديد ثقافة الفاعلين الدينيين التقليديين ، والرفع من مستوى كفاءاتهم المعرفية والعملية ، وفقا للضوابط المعاصرة للحقل التواصلي .

    كانت مساهمة المثقف الديني قوية في حركة 20 فبراير الاحتجاجية.وتمت معاينة حضور عدد كبير جدا من النخب الدينية بكل أطيافها. ولا يمكن أن نعتبر أن انسحاب ” حركة العدل والإحسان” المعارضة فيما بعد من الصفوف الاحتجاجية الأولى، تراجعا في هذا الحضور المشار إليه.

  – حالة المثقف الأمازيغي

     هناك نوعا آخر من المثقفين المغاربة، هم أولائك الذين جعلوا من المعضلة اللغوية والثقافية الوطنية القديمة قضيتهم الجوهرية وشعارهم الاستراتيجي .إن المثقف الأمازيغي هو من يجسد هذه الحالة الفكرية والسوسيولوجية ، وهو يقترب أو يبتعد من الحقل السياسي الوطني ومن الأحزاب السياسية ، حسب إحساسه برعاية هذه الأخيرة لقضيته أو إهمالها.

     وما دامت الأحزاب السياسية المغربية لا تملك إلى حد الآن، تصورات واضحة حول الموضوع ولا أطروحات فكرية قوية، وهي لا تستخدم هذه القضية في الغالب ، إلا كورقة انتهازية للابتزاز السياسي في علاقتها بالدولة ، أو في نطاق الابتزاز الانتخابي للمناضلين الأمازيغيين هنا وهناك  ، إضافة إلى توجسها الإيديولوجي من هذه القضية الشائكة التي لا تملك الجرأة الفكرية للخوض فيها كما لا تملك سلطة نوعية تسمح لها بطرحها على طاولة المناظرة السياسية ؛ فان  قسما كبيرا من النخب المثقفة الأمازيغية عادة ما لا يثق في رجل السياسة . لذلك فهو يتحرك بحرية واسعة النطاق منذ السبعينيات الماضية إلى اليوم في الحقل المدني،  في إطار الجمعيات الثقافية الأمازيغية وهي منتشرة بكثرة في الحقل الاجتماعي .وربما أمكن لنا على مستوى المعاينة السوسيولوجية للفعل الثقافي لدى هذا النوع من المثقفين ، أن نلاحظ كيف أن بعضا من هؤلاء حازوا الكثير من الجرأة الفكرية ، وتمتعوا بهامش لا يستهان به من الاستقلالية وحرية القول ، كما بلغ بعضهم الآخر مستوى عاليا من التطرف الفكري ، خاصة أولائك الذين يتحركون بحرية واسعة على نطاق دولي .  كما يوجد هذا المثقف اليوم كذلك في قلب الجامعة المغربية، مشكلا لاعبا إيديولوجيا مشاكسا ومساهما في حركية المناظرة الثقافية الوطنية.

     وما يثير الانتباه لدى هؤلاء المثقفين الحاملين لهموم هذه القضية الوطنية الشائكة وذات الأهمية المصيرية في المستقبل الثقافي المغربي ، هو أنهم لم يتمكنوا إلى حد الآن من ترقية توافقاتهم الإيديولوجية التي تتميز بالهشاشة والخضوع لتقلبات المزاج الفكري ، إلى مستوى الثوابت الثقافية الإستراتيجية . وكثيرا ما أدت النزاعات الذاتية وتناقضات المصالح الشخصية لدى بعض شرائح هذه النخب ،إلى تعطيل القضية برمتها .

     يوجد المثقف الأمازيغي اليوم في قلب الحياة الثقافية المغربية، وهي تعيش ديناميكية سريعة في السنين الأخيرة بشكل خاص .انه باحث أكاديمي رفيع المستوى العلمي في بعض الحالات ، وناشط مدني في الجمعيات الثقافية والهيآت الإعلامية الوطنية . كما يوجد هذا المثقف في حالات أخرى في قلب” الكونغرس العالمي الأمازيغي”، رافعا شعارات القضية على نطاق دولي واسع . ويتواجد أيضا  منظما ومؤطرا ، في المهرجانات الفنية الكبرى التي تنتج الفرجة بطعم أما زيغي أصيل ، وتعمل على تسويق منتوج فني متميز باللغة الأمازيغية .

      تلتقط الدولة بذكاء سياسي ملحوظ هذه الديناميكية الثقافية الأمازيغية، كما تلتقط مطالبها  وتتابعها باهتمام كبير ، وقد استفادت هذه الحركة الواسعة النطاق في الوقت الراهن من اتساع رقعة الحريات المدنية والثقافية في السنين الأخيرة .كما شكل إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية تجسيدا بليغا على نية الدولة وإرادتها السياسية، في طرح هذه القضية بصفة القضية الوطنية ذات الأولوية الإستراتيجية . وقد التقطت النخبة المثقفة الأمازيغية بدورها خطاب الدولة الجديد ، واستوعبت أن الدولة التي بذلت جهدا مهما في طي الصفحات الحقوقية والسياسية السوداء والقديمة ، مستعدة بنفس العزم لطي صفحة الانتهاكات الجسيمة في حق اللغة والثقافة الأمازيغية . وهو الجهد الذي ستكشف السنوات اللاحقة عن نسبة نجاحه أو فشله في تلبية الانتظارات العويصة والقديمة لللاشعور الثقافي الوطني .

     وكانت المطالب اللسانية والثقافية للغة الأمازيغية حاضرة بقوة كبيرة، في الحركة الاحتجاجية التي عرفها المغرب مع بداية ما سمي” الربيع العربي”. والحقيقة أن هذه الديناميكية القوية من الاحتجاجات التي كانت مدعومة بحركة 20 فبراير،كانت العامل الأقوى في رفع درجة اللغة الأمازيغية إلى درجة اللغة الرسمية بجوار اللغة العربية، في نص الدستور الحالي لفاتح يوليوز 2011،رغم أن القوانين التنظيمية التي يرتقب أن تعمل على تنزيل هذه الترقية الثقافية للغة الأمازيغية،ما زالت معطلة من طرف حكومة عبد الإله بنكيران التي تنتظر إشارات من القصر في هذا الاتجاه،لأنها تعرف جيدا أن الموضوع حساس إلى حد كبير ولا يقبل المخاطرة السياسية،رغم كل الصلاحيات والسلط التي يمنحها الدستور الحالي.وهذا ما يثبت روح الجبن السياسي لدى الأحزاب السياسية المغربية بدون استثناء.

   – حالة المثقف الفرنكوفوني

     ليس المثقف الفرنكوفوني في المغرب قادما من حقل ثقافي أجنبي ، بل جاء إلينا مقبلا من قلب الصيرورة التاريخية التي بصمت بنكهتها الخاصة التاريخ السياسي المغربي الحديث . فقد تميزت علاقة المغرب بجارته أوروبا الحديثة  إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، كما يؤكد لنا ذلك مؤرخونا الكبار،  بنفور مغربي قوي وبمعارضة ثقافية ودينية واسعة النطاق، للانفتاح على الحضارة الحديثة ،وهي على عتبة نضجها الكوني الكاسح في ذلك الوقت ، كما لم يتأثر المغرب في القرن الثامن عشر على الإطلاق لأسباب إيديولوجية ودينية قوية، بالشعارات الفكرية الكبرى للثورة الفرنسية وقد بلغت آنذاك مستوى الحدث الكوني البار[5].

 غير أن المثقف الوطني وهو سلفي وعروبي المرجعية الثقافية ، أبان منذ البداية عن استعداد كبير في الإقبال على الثقافة الفرنسية وحضارتها العريقة ، وهي في تلك الظروف العويصة ، ثقافة المستعمر الغاصب. والحركة الوطنية المغربية ذاتها وهي ما زالت بعد حركة سياسية ناشئة وفتية التكوين الفكري ، كانت شيئا فشيئا مشتلا لميلاد ونضج ذلك المثقف العصري المزدوج التكوين الثقافي واللساني .ومع رحيل الحماية الفرنسية من أرض المغرب ، تبين على المستوى السوسيو لساني ، أن النخبة المثقفة الفرنكوفونية جزء من بقايا اللقاء الثقافي غير المتكافئ بين حضارتين متباينتين .كما بينت الصيرورة التاريخية ذاتها أن الحركة الوطنية بالذات وبفضل مساعدة الدولة ، هي من ساهم في تثبيت المواقع السياسية والاقتصادية الامتيازية  للتوجهات الثقافية الفرنكوفونية التي استقطبت بشكل ملحوظ قطاعا هاما من نخب الأرستقراطية الحضرية المقبلة على الحضارة والعلوم المعاصرة ،وهو ما سيسمح لها موضوعيا بالانتماء إلى مربع النخبة الحاكمة التي ستستلم مقاليد التدبير السياسي والاقتصادي للبلاد في السنوات اللاحقة للاستقلال،ويوجد عدد كبير من هؤلاء ضمن مربع السلطة الذي رصده جون واتربوري في دراسته الشهيرة حول النخب المخزنية المغربية [6] . كما يوجد قسم آخر منها في تلك العائلات الكبرى، القريبة من دوائر القار السياسي،تلك التي رصدتها الباحثة أمينة المسعودي، و نجدها في العادة مكلفة بحقائب حكومية على مدار الستين سنة الماضية [7]  .

     لا يعني هذا أن هناك تجانسا سوسيولوجيا تاما بين المثقفين الفرنكوفونيين ،ولا يفيد هذا التوصيف سوى في معرفة الوعاء اللساني والرمزي وجهاز القيم الثقافية المشترك الذي يستقبل من خلاله هؤلاء المثقفين تصورهم الشمولي للعالم والحياة الاجتماعية ونمط العيش ، كما لا يعني ذلك على الإطلاق أنهم محكومين بالانتماء إلى مربع السلطة السياسية. ومن الأكيد أن هناك شرائح واسعة من النخبة المثقفة الفرنكوفونية، انتمت منذ الاستقلال إلى الوقت الراهن،  إلى صف المعارضة السياسية ، أو إلى معسكر الثقافة الثورية والملتزمة ، كما انتصب بعضها الآخر مدافعا عن منظومة حقوق الإنسان وعن حرية الانتماء الفكري وحرية الضمير والاستقلال الثقافي والليبرالية الاجتماعية .وهناك مثقفين مغاربة بهذه الصفة السوسيولوجية ، يشتغلون في أوساط أكاديمية عالية الجودة العلمية ، أو يشتغلون حاليا في الحقل الإعلامي الوطني حاملين شعار” المنابر الصحفية المستقلة” ، وآخرون يعيشون أغلب الأوقات في الخارج ، ويساهمون في ترقية وتقدم الإنتاج الثقافي الذي يسمى الأدب المغربي أو المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية .

     غير أن لهؤلاء المثقفين الفرنكوفونيين كذلك، ميول نضالية لا يرقى إليها الشك واستجاب عدد كبير منهم، لنداءات الاحتجاج والمطالبة بالتغيير كما رفعتها حركة 20 فبراير في حينه.

    –  حالة المثقف التكنوقراطي

     هناك نوعا آخر من حاملي الثقافة الفرنكوفونية ، وهم يتواجدون داخل الحقل الاجتماعي بصفة الخبرات والكفاءات التقنية العالية الجودة التي يمتلكونها . إنهم المثقفون التيكنوقراط الذين يعتقدون أن شرط التغيير تكنولوجي المنبع ، ويؤمنون أن التقدم التقني من خلال اكتساب التكنولوجيا الحديثة ، يمثل شرطا موضوعيا وحاسما في التقدم الاجتماعي .

     لا تتحدد ثقافة هؤلاء بانتماءاتهم السوسيولوجية الطبقية، بل بموقفهم الفكري والسياسي في بعض الأحيان ،من المجتمع والتقدم الاجتماعي ، واستبطانهم وادعائهم للريادة والقدرة على تقديم حلول برجماتية لحل المشاكل العويصة القائمة في الحقل الاجتماعي. ولا ينتمي هؤلاء إلى طبقة اجتماعية واحدة ، لأنهم قادمين من طبقات مختلفة ، بل ومتناقضة على المستوى الإيديولوجي وعلى مستوى المصالح الاقتصادية  في بعض الحالات ، كما قد تكون أصولهم الاجتماعية من الطبقات الاجتماعية الدنيا والمهمشة .

     تتواجد هذه النخبة التيكنوقراطية بصفة موضوعية، في الحقل الاقتصادي وحقل الأعمال والاستثمارات الإنتاجية والمالية في القطاع الخاص،كما يوجد بعضها الآخر في الأوساط الأكاديمية الراقية .

     وليست هذه النخبة بعيدة عن الحقل السياسي ، بل إنها تشكل بداخله لاعبا جوهريا ودائم الحضور منذ الخمسينيات الماضية ، أي بالذات حين كان المغرب وهو خارج على التو من تجربة الوصاية الاستعمارية، محتاجا أشد الحاجة إلى الخبرة التقنية والإدارية اللازمة، من أجل الشروع في فتح الأوراش التأسيسية الكبرى للتحديث الاقتصادي والسياسي لمرحلة ما بعد الاستقلال .

     تتميز علاقة هذه النخب بالحقل السياسي بالالتباس ، كما تميزت في كثير من سياقات التطور السياسي في المغرب،بالانتهازية والتقرب بكل الوسائل المتاحة إلى مربع الدولة ومراكز القرار الاقتصادي والمالي. غير أن الدولة نفسها كانت دائما في حاجة ماسة إلى خدماتهم، خاصة في الثلاثين سنة الأولى بعد الاستقلال، حين كانت الأطر الوطنية قليلة،  وكان المغرب يعاني من نقص كبير على مستوى الخبرة التقنية العالية الجودة. ومازالت الدولة محتاجة إليهم  في الوقت الراهن في مهام يفترض أنها سياسية ، في الوظائف الإدارية العليا وتدبير القطاعات الحكومية التي تحتاج إلى خبرة تكنوقراطية دقيقة ، غير أن هؤلاء يكونون في حالات كثيرة بعيدين عن الحقل السياسي، وغير مكترثين بما يجري داخله ، إلا ما تعلق بمصالحهم المهنية أو التخصصية . لقد كان ممكنا في السنين الماضية، أن نلاحظ بوضوح تام ، كيف أن وزراء ومسؤولين حكوميين بهذه الصفة من الانتماء الثقافي ، أي من حيث هم نخبة تكنوقراطية ، كانوا عاجزين عن التمييز بين أحزاب الأغلبية وأحزاب المعارضة ، وكيف أن بعضهم داخل الغرفة التشريعية،  كان عاجزا عن إلقاء خطاب ركيك وجاهز باللغة العربية أمام البرلمانيين  .

     لقد كانت الدولة محتاجة في الماضي، لا فقط إلى الخبرة التقنية العالية لهذه النخب التكنوقراطية ، بل أيضا في حاجة قوية إلى ثقافتهم ، أو بعبارة أدق إلى ثقافتهم السياسية .فهذه النخب بطبيعة تخصصاتها العلمية الدقيقة ، تمتلك كفاءات عالية في تدبير وتنفيذ المشاريع الكبرى والجاهزة في انسجام تام مع المخططات والتوجهات الإستراتيجية للدولة ، بمعنى تلك التوجهات العليا التي تتجاوز صلاحيات السلطة التنفيذية،وتدخل في نطاق الاختصاصات الملكية .وقد كانت الدولة في ظروف دقيقة من الحياة السياسية للبلاد تفضل خدمات هؤلاء على خدمات السياسيين المحترفين،لأن النخب التكنوقراطية لا تشترط شروطا سياسية عويصة، ولا تكترث لمناوشات السياسيين المتحزبين ، إضافة إلى أنها مسلحة بثقافة برجماتية، تغلب كفة العمل المنتج والدقيق والقابل للحساب والبرمجة، على السجال الإيديولوجي الذي لا تتعب نخب ومثقفو الأحزاب السياسية من إثارته وترديده الصاخب  .

       وعادة ما يتم استدعاء هذه الخبرات التقنية العالية  لتنفيذ السياسة العليا للدولة ، لا من أجل تطبيق برنامج حكومي يكون غالبا  ذا شرعية برلمانية أو شعبية  هشة .غير أن الحياة السياسية المغربية الراهنة، تبين أن الدولة الآن ، بحكم الخيارات الجوهرية للانتقال الديمقراطي ، واستجابة للاكراهات الوطنية والدولية لهذه الفلسفة السياسية الجديدة التي تسمى بخيار الحداثة والديمقراطية ،وهي مستمرة إلى اليوم في طلب خدمات النخبة التكنوقراطية ، مضطرة إلى البحث عن انتماءات سياسية لهؤلاء ، وهي انتماءات تعسفية في الحقيقة ، وغالبا ما تنزل على عجل قبل القيام بمراسيم التعيين الرسمي، و حتى دون استشارة الأحزاب التي يفترض أن هؤلاء أصبحوا منتمين إليها و “مناضلين ” في وسطها .

      ولم يكن المثقف التكنوقراطي بعيدا عن تأثره بالحركة الاحتجاجية المغربية في سنة 2011 ودعمه لها. وقد شاهدنا في حينه فئات اجتماعية من هذا الصنف، مقاولين ورجال أعمال كبار ومهندسين ذوي مستوى أكاديمي عال،ينخرطون بتلقائية في قلب المظاهرات التي نظمتها الحركة.

      – حالة المثقف المدني

      نعني بالمثقف المدني فئات اجتماعية عريضة، تنتمي من حيث علاقتها بالحقل الاجتماعي،إلى فضاء المجتمع المدني الواسع. إنهم هؤلاء المواطنين الذين جعلوا من قضايا شأن عام، اجتماعية أو ثقافية أوسياسية أو اقتصادية محددة، قضيتهم الشخصية.وهذا العمل المدني الدءوب يكون نتيجة منطقية لإيمانهم بأن هذا النوع من الفعل المدني يساهم في انجاز التغيير الاجتماعي، وهو بالذات هدفهم الاستراتيجي. .إنهم يتوحدون على ثقافة مشتركة،ويلتحمون حول مجموعة محددة من القيم والمبادئ، لخدمتها على المستوى العملي في إطار جمعيات أو هيآت مدنية أو منظمات غير حكومية، يفترض أنها تتمتع بكامل الاستقلال عن كافة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية القائمة.

      يمكن أن ينتمي لهذه الفئة أو يتقرب منها، عدد هائل من كل أصناف المثقفين الآخرين،غير أن هؤلاء المثقفين بالضبط يتميزون ببعض الصفات السوسيولوجية النوعية الخاصة.من أهمها :

1-حرصهم على إقامة مسافة واضحة المعالم بين الحقل المدني والحقل السياسي، رغم أن بعض المناضلين المحسوبين على الانتماء الحزبي يشتغلون أيضا في هذا الإطار.

2- عزوفهم عن الحياة السياسية الرسمية واستحقاقاتها المختلفة، كالانتخابات على سبيل المثال لا الحصر. إضافة إلى موقفهم السلبي من الأحزاب السياسية ونفورهم من برامجها وأرضيتها الإيديولوجية.

3- حضورهم القوي على الويب، وولعهم الشديد بشبكة الانترنيت وأفضية التواصل الاجتماعي التي يتواجد فيها المغاربة بشكل كثيف.وقد كانت هذه المساحات الافتراضية، عاملا قويا في دعم وتقوية حركة 20فبراير الاحتجاجية سنة 2011 إلى حد كبير.

     تعيش فئات واسعة من هؤلاء المثقفين تذمرا كبيرا من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة، بحيث يمكن اعتبارها المعارضة الأقوى للحكومة، في مناخ سياسي رتيب لا تقوم فيه المعارضة السياسية داخل البرلمان بأدوارها الحقيقية. وتتشكل هذه الفئة من شرائح واسعة من الشباب و الطلاب والأساتذة وخريجي الجامعات العاطلين، وفئات اجتماعية عريضة من مختلف القطاعات المهنية.كما  يمارس هؤلاء حريتهم الشخصية على أوسع نطاق، منفكين إلى حد أو آخر، من أشكال الثقافة والايدولوجيا الرسمية للدولة.

      لقد ساهم هؤلاء بقوة كبيرة ليس فقط في إنجاح، بل أيضا في ميلاد الحركة الاجتماعية المتميزة في فبراير2011،بل كان دورهم وازنا وفاعلا في تحقيق كثير من المكتسبات التي جاء بها فيما بعد دستور فاتح يوليوز 2011 في جميع المجالات.

          مما لاشك فيه أن تجربة الاندماج التاريخي بين الحداثة والتقليد في المغرب، تتمتع بخصائص مميزة عن غيرها من التجارب الأخرى، فالتحديث كصيرورة تاريخية لازمة ومفروضة بقوة الواقع، لم يكن أبدا متماثلا رغم أنه يستند على مرجعية واحدة.

    كانت حركة 20 فبراير المغربية على صعيد المعاينة السوسيلوجية، معيارا دقيقا في قياس مواقع المثقفين المغاربة ومواقفهم وأدوارهم الظاهرة والخفية.وبغض النظر عن المواقف الشخصية لهؤلاء سواء كانوا صامتين،أم مناصرين، أم معادين ومعارضين لها، فبقراءتي وتأملي لمعالم ومضامين ومنهجية هذه الحركة الاحتجاجية الذكية، يبدو لي أن التجربة الثقافية المغربية، وبالتالي تجربة المثقفين المغاربة مع التغيير الاجتماعي، تعيش في ضوء هذه الديناميكية السوسيولوجية القوية،لحظة انتقال تاريخي حقيقي، في سبيل المزيد من التحديث وإيضاح معناه أكثر فأكثر، وبالتالي تنقية مضمونه وروحه من شوائب لا حد لها علقت به في مخاضات وحسابات السنين الثقيلة الماضية، احتجاجا على كل الفرامل التي استخدمت ضد هذا المنحى الصيروري الذي بلغ سقفه الزمني الآن .

     وجسدت هذه الحركة موضوعيا، إعلانا صريحا على النهاية الحتمية لكل السياسات التي تم اعتمادها، ولكل السيناريوهات التي اشتغلت بها الدولة باستمرار في تدبير العلاقة : تقليد/ حداثة، وقد كان آخر هذه السيناريوهات على المستوى الإيديولوجي هو فكرة ً ً الانتقال الديمقراطي ً ً ذاته، وهي فكرة أصبح يتبين الآن أنها فقدت بريقها الذي سبق أن أغرت به الدولة جيلا كاملا من المثقفين والنخب الاجتماعية والاقتصادية .

    هناك اليوم في المغرب ديناميكية ثقافية قوية تجري داخل الحقل الاجتماعي.والسؤال الجوهري ليس هو مطالبة مثقفي اليوم بأن يكونوا فيما يفترض أنه شموخ مثقفي الأمس.لأن هذا النوع من التوصيف سطحي إلى حد كبير، وفيه الكثير من التجني البالغ على منطق الصيرورة التاريخية التي ترفض التكرار، وقد ازدادت تعقيدا والتباسا في زمن العولمة والعوالم الافتراضية .

     إن المثقف كما قال عبد الكبير الخطيبي: ” سواء كان مناصرا للعقل أو للحكمة في خدمة الإنسان،أو كان مناصرا لقضية أو مثل أعلى،فهو مطالب بأن يتكيف باستمرار مع المبادئ والقيم التي يدافع عنها،وبالتالي فهو مرغم على سلوك موجه لذاته(…..)لأن عمله هو تحريك الفكر وتحليل المجتمع لا إدارته.”[8]. والمثقف،رغم أنه ليس في جميع الأحوال صاحب مشروع جاهز للتغيير، إذ ليست تلك مهمته، فهو ذلك الشخص الذي يمتلك بصفة حصرية كل الكفاءات التي تسمح له بتوقع سيناريوهات ممكنة للمرور إلى المستقبل.انه يمتلك في نظرنا، ذلك النوع من الوعي الذي يسميه الفيلسوف ارنست بلوخ“الوعي الاستباقي” أو” الفائض الطوباوي”[9] الذي نعتقد أن المثقف في ضوءه،يستطيع أن يرسم طريقا أو دربا للمشي في اتجاه الآتي.

      فهل يستطيع المثقف فعلا بهذا المعنى الصارم والدقيق، أن يجد له حيزا سوسيولوجيا يؤويه ليقوم بعمله الفاضل لصالح مجتمعه ؟ وهل ما زال في استطاعة هذا الكائن الاجتماعي الذكي المسمى بالمثقف، أن يكون ذلك” الشخص الذي يتدخل فيما لا يعنيه من الأمور”،كما أراده جان بول سارتر أن يكون؟ [10] وهل مازال ممكنا وجود ذلك المثقف الملتزم بصفة عضوية كاملة بقضايا مجتمعه،كما نظر له الفيلسوف الايطالي أنطونيو غرامشي ؟[11]

      تسافر الثقافة اليوم دون استئذان، ولها في زمن الويب  قدرات خارقة على اختراق الحدود، بعد أن كانت بالأمس بناء رمزيا قويا ومتجانسا .كما أنها أصبحت باستمرار بضاعة زئبقية متداولة على صعيد كوني، ويتم تحميلها الالكتروني بحرية لا حد لها ولا رادع لمزاجها وأهوائها . فكيف يمكن لمفهوم المثقف في الحاضر أن يفيد نفس المعنى الذي كان يحيل إليه في الماضي؟ .وهذه الثقافة الكونية الزئبقية تؤثر في شخصية المثقف، من حيث تستفزه وتعدل رؤيته للحياة وللقيم وللتاريخ،غير أن المثقف مع ذلك ليس شخصا عاديا،فهذه الثقافة المشار إليها، تساعده أيضا على تطوير أدائه وتحبين كفاءاته، والتنمية المستمرة لعلمه وذكاءه.

     لا تعني هذه الاكراهات الجديدة، غيابا كاملا للمثقفين في المجتمعات التقليدية والحداثية على حد سواء، بل تغييرا في هويتهم ومواقعهم وعلاقاتهم بالحقل العمومي للمجتمع، وبالتالي علاقتهم بالتاريخ .

     تلك بالذات هي الفكرة التي يشير إليها ادوارد سعيد بقوله:” فرغم فيض الكتب والمقالات التي تقول أن المثقفين لم يعودوا موجودين، وأن نهاية الحرب الباردة…….وعصر التخصص، وتسليع كل شيء وتحويله إلى تجارة في الاقتصاد المعولم الجديد، وكلها أدت إلى نهاية الفكرة الرومانسية البطولية نوعا ما عن الكاتب-المثقف المتوحد……..، رغم ذلك كله، ما زال هناك الكثير من الحياة في الأفكار وممارسات الكاتب-المثقف التي تمس الحقل العام، وهي إلى حد كبير جزء عضوي منه.”[12]

     إن مفهوم المثقف والنخبة المثقفة،ذلك الذي كان بالأمس عصيا على التحديد النظري والضبط السوسيولوجي  في المجتمعات ذات الهوية الحضارية التقليدية،  أصبح اليوم أكثر استعصاء وازداد تمنعا وهروبا .

     إن السؤال الجوهري بالذات، ينصب على مدى نجاح أو فشل ثقافة اليوم في تدعيم المكتسبات الثقافية للأمس وهي كثيرة ، ومدى استعدادها لمواكبة التحولات التي تجري بسرعة جنونية على نطاق كوني ، وبالتالي قدرتها على الانتماء الراسخ إلى الحاضر،عبر التغلب على عوائق الماضي القريب والبعيد، بمعنى المساهمة في التخفيف من ثقل الماضي على كتف الحاضر.

   بحكمة المؤرخ المحترف، كتب  فيرناند بروديل قائلا :

     ” إن الزمن(التاريخي) القصير هو الأكثر تقلبا وغموضا في المدد.”[13] .ولعل تحليل زمن التحولات التاريخية التي ما زال المجتمع المغربي يعيش على إيقاعها اليوم،وبالتالي رصد مواقع ومواقف وأدوار الفاعلين الاجتماعيين، ومن ضمنهم المثقفين بشكل خاص وهم يتحركون داخل الحقل الاجتماعي، يحتاج إلى وضعهم في قلب الصيرورة التاريخية، وعلى حيز زمني واسع، قصد تحقيق كثير من المكتسبات في مجال التدقيق المفاهيمي والمنهجي. وتلك بالذات،هي الرؤية المركزية التي أنارت تحليلنا ومقاربتنا للموضوع.

[1] – عبد الله العروي ، ثقافتنا في ضوء التاريخ ، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الأولى 1983، ص.ص 171/172

– شيرين أبو النجا، المثقف الانتقالي –من الاستبداد إلى التمرد،دار روافد،القاهرة 2014. [2]

-[3] محمد سبيلا، النخبة السياسية والنخبة الثقافية في مغرب ما بعد الاستقلال، م.س

– كمال عبد اللطيف،” انتباه..المثقفون بيننا”، جريدة أخبار اليوم نقلا عن “العربي الجديد”، بتاريخ 17 أبريل 2015، العدد 1653.[4]

 [5] – أنظر الدراسة القيمة لعبد الحفيظ حمان،المغرب والثورة الفرنسية،منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم 9،مطبعة النجاح الجديدة،الدار البيضاء 2002.

 

[6]  John Waterbury, Le commandeur des croyons : la monarchie marocaine et son élite politique, édition PUF -, Paris 1975

[7]  -أمينة المسعودي ، الوزراء في النظام السياسي المغربي (1955-1992) – الأصول –المنافذ- المال ، الطبعة الأولى 2001

– أنظر أيضا، عبد الرحيم العطري، صناعة النخبة بالمغرب، دفاتر وجهة نظر(9)، الطبعة الأولى 2006

[8] – عبد الكبير الخطيبي،مرجع سابق،ص.ص.9-10.

[9]  – يستخدم ارنست بلوخ هذين المفهومين في إطار فلسفة الدين في جميع مؤلفاته،وبشكل خاص في :

– E. Bloch, L’ Esprit de L’Utopie, Trad. J.M. lang et C. Piron audard, Gallimard, Paris 1977

– – E. Bloch, Le Principe Espérance, 2 tommes, trad., Françoise Wilmard, Gallimard, Paris 1982.

[10] – Jean Paul Sartre, Plaidoyer pour les intellectuels, op. cité

[11]  Antonio Gramsci, Cahiers de prison, Gallimard, Paris 1983, (Tome 3 en particulier)

 –  ادوارد سعيد،الدور العام للكتاب والمثقفين،مجلة الكرمل، على الموقع الالكتروني: [12]

https://matnwahawamesh.wordpress.com/دراسات-إدوارد-سعيد-في-مجلة-الكرمل

[13] – Fernand Braudel, Ecrits sur l’histoire, Flammarion, Paris 1967, p.46.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.