الرئيسية | ترجمة | الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك: لا وجود للشعب و لم يعد بالإمكان الثقة في مبدأ الأغلبية الذكية

الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك: لا وجود للشعب و لم يعد بالإمكان الثقة في مبدأ الأغلبية الذكية

ترجمه: عبد الرحيم نور الدين

 

سؤال: منذ سنوات لم يحدث قط أن ترددت كلمة “شعب ” بالقوة التي تتردد بها اليوم. من يكون الشعب؟

جواب: لا وجود للشعب. إنه مجرد خرافة، مفهوم يعود إلى القرن 18 م، مفهوم مؤذ لأنه منتج لآثار توحيد خاطئ ووهم تجانس. صادفت طيلة حياتي رجالا ونساء، شاهدت شبابا وشيوخا، لكنني لم أر شعبا أبدا. الشعبوية الحالية هي، بكل بساطة، استمرار لهذه الخرافة.

2سؤال: لكنها خرافة مثمرة…

جواب:إن السياسة تتحول، أكثر فأكثر، إلى شيء لاعقلاني تمليه الانفعالات. ربما أن الوقت قد حان للتساؤل عما إذا لم يكن ينبغي الرجوع إلى تقنيات حكم المدن الإغريقية القديمة. كان جزء لا بأس به من الانتخابات يتم عبر عمليات يانصيب. في الحصص التي كان يمكن اختيارها، تُقدم شخصيات كانت سيرورة اختبارها تستغرق وقتا أطول من حملة انتخابية، “لحظة” تميل، كما لاحظنا ذلك مع ترامب  Trump، إلى أن تصير تهريجا فظيعا. إن هذا هو ما يقترحه المؤرخ و الكاتب البلجيكي دفيد فان ريبروكVan Reybrouk   David، وأعتقد مثله أن مبدأ اليانصيب يمكن أن يؤثر كترياق مضاد حقيقي ضد التعفنات الديمقراطية الموازية التي تصيب ديمقراطياتنا. لم يعد بالإمكان الثقة في مبدأ الأغلبية الذكية. وفضلا عن ذلك، ألقوا نظرة إلى نسب المشاركة: هل لا يزال بالإمكان الحديث عن أغلبية مواطنين يصوتون؟

سؤال: بماذا توحي لك نظرية ” ما-بعد-الحقيقة”، الرائجة حاليا؟

جواب: يتعلق هذا بتراجع ثقافي جماعي: لم يعد الناس قادرين على تمثل الأوضاع المعقدة. تتغلب تعبئة الانفعالات بشكل كاسح على الوصف المحايد. هذا ما أسميه التسطيح التدريجي للمجال العمومي؛ وهو يسير رفقة يأس جماعي واقعي جنبا إلى جنب. إنها ظاهرة اجتماعية بدأت في فرنسا خلال فترة حكم نابليون الثالث. و آنذاك أُعلنت البونابارتية كوسيلة هيمنة و تسريح سياسي للجماهير ، التي كانت ضحية إغراء و إلهاء ما يسمى اليوم “التسلية” L’entertainment. إن “عيدنا الإمبراطوري” يمر، من الآن فصاعدا، عبر شاشات صار صبيب سطحيتها جوهريا بما يزيد عن الحاجة، ستوافقني على هذا.

1

سؤال: ألا ترى في الانتخابات الأمريكية استعادة للديمقراطية من طرف الطبقات الشعبية التي شعرت بإقصاء النخب لها، تلك النخب المبغوضة عند الطبقات الشعبية؟

جواب: لا ألاحظ بالضرورة اشتغال شعور مضاد للنخب، لأن هذه الطبقات الشعبية تساند بقوة نخبة المال التي يجسدها ترامب. وهي تعشق أيضا النخبة الرياضية إلى حد اعتبار كل مناقشة لمداخيل لاعبي كرة القدم أو سائقي الفورمولا 1  أمرا تافها، هم الذين يجنون مع ذلك أكثر ألف مرة مما تتقاضاه. ربما لأن هذه النخب تسليها في هذا ” العيد الإمبراطوري” وأنها تفي بالتالي ببنود العقد الخاصة بها…أما النخبة الثقافية، فإن الطبقات الشعبية تمقتها. لماذا؟ لأن هذه النخبة تثير تأنيب الضمير لديها. إن سكان ديمقراطياتنا الغربية يعرفون أنهم منعوا أنفسهم طوعا من الأفضل، وأنهم قرروا ذاتيا الاكتفاء بالمعادل الثقافي لِ ” الوجبة السريعة”، وأن الخطأ خطؤهم إن هم أضاعوا فرص لقاء معمق مع الكتاب و الفنانين و السينمائيين. أما بخصوص المجال السياسي فالأمر مختلف أيضا. ما هي النخبة؟ إنها مجموعة اجتماعية انبثقت عن مسلسل انتقاء؛ هي أرستقراطية وظيفية، لا تتوارث، إذ أن المطروح على المحك هي الكفاءة، والكفاءة ليست وراثية.

سؤال: مع الأزمة لم تعد الكفاءة مزدهرة…

1جواب: لا، وجَوُّ ديمقراطياتنا شبيه بجو جناح طب السرطان في مستشفى كبير، حيث تنعدم ثقة المرضى في الطبيب…صار الحشد من الآن فصاعدا يحلم بنخبة جديدة تتميز لا بالكفاءات وإنما بالميزات التي كانت تنسب في الماضي إلى السحرة المعالجين، وما يقوي هذه الظاهرة هو تضمن السياسة دوما لعنصر إسقاط شبه ديني. يؤاخذ على ترامب كونه مبسطا كبيرا؟ ولكن التبسيط امتياز ملكي…ففي القديم، كان الملك، بفضل تموقعه فوق القانون، يتوفر على وسيلة التبسيط الكلاسيكية: القرار. إن الشعبوية هي ” النزعة القرارية” للعقول البسيطة. أما ترامب، فهو يمتلك حقا كارزمية اللاكفاءة، مضاعفة بكارزمية البراءة بسبب كونه ظاهرة لاسياسية غدت سياسية. لقد بينت عالمة أمريكية منذ وقت قريب، بالاستعانة ببرمجيات ألسنية، أنه يعبر في خطاباته مثل تلميذ لا يتجاوز 10 سنوات. وهذا ما يضع من ينصتون إليه أمام اختيار: إما أنه بليد وإما أنه مسيح منقذ. نصف أمريكا الذي يصوت، استقر رهانه في النهاية على وظيفته الإنقاذية. يتظاهر أناس كثيرون بأنهم يعتقدون أن اللاكفاءة هي الوحيدة التي تستطيع إنقاذنا. المرحلة ملك لحماس التراجع.

سؤال: هل يمكن أن يقع هذا في فرنسا حيث لا أحد يثق في المنقذين وحيث قُطِع رأس الملك؟

جواب: يتوجب على فرنسا أن تقلق. وَقّعت مرحلة هولاند بكثرة على تآكل اليسار، حتى أننا لم نعد نرى من بإمكانه أن يجسد بكيفية متماسكة مبدأ الرجاء الملازم الجوهري لليسار. فرنسا وطن لإرث مزدوج: فإذا كانت تحمل مشعل التقدم، فإنها تعتبر مأوى لكل ما هو “رجعية”. تقترح الجبهة الوطنية حاليا رجعية جديدة مقيدة في حركة شبه شمولية لمن خاب ظنهم، و للمنبوذين و الغاضبين. في الواقع، إن حزب الجبهة الوطنية يمتلك كارزمية اللاكفاءة له – وهو ما يجعله مرتبطا بنيويا بالترامبية- وجزء هام من الأمة يتيم الرجاء، لا يبدي حياده تجاه مقترحاته. إن الدراما الحقيقية في كل هذا، هو فقدان اليسار للعلاقة بالتقدم الواقعي. يعتمد اليسار للتعريف بذاته أكثر فأكثر على “الرجعية” من أجل تأكيد أنه سيكون مضادا لها. في الحقيقة، إنه لم يعد يعرف معنى مفهوم ” الفعل”. إنه يكتفي بأن لا يكون سوى ردة فعل على الرجعية. قريبا جدا سنرى المدى الذي يستطيع حماس التراجع أن يصل إليه في وطن الأنوار.

مجلة لوبوان  الفرنسية Le Pointعدد 2306 . 17 نونبر 2016

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.