الرئيسية | تراث | الرسالة الهزلية لابن زيدون

الرسالة الهزلية لابن زيدون

ابن زيدون

رسالة لابن زيدون قام بإرسالها على لسان ولادة بنت المستكفي إلى أحمد بن عبدوس منافسه في حبها وذلك بإسلوب تهكمي ساخر , والرسالة تحتوي على كثير من الكنايات والتشبيهات والإشارات التاريخية والمعارف الأدبية , كما ضمنها الكثير من الأبيات والأمثال مما يعوزه التفسير لذلك قام ابن نباته بشرح الغريب فيها وترجم لاعلامها الذين ذكروا فيها ثم استطرد لذكر الوقائع والأيام ونصوص الشعر والخطب والحكم .

نص الرسالة الهزلية

أما بعد ، أيها المصاب بعقله ، المورط بجهله ، البين سقطه ، الفاحش غلطه ، العاثر في ذيل اغتراره ، الاعمى عن شمس نهاره ،الساقط سقوط الذباب على الشراب ، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب ، فان العجب أكبر ، ومعرفة المرء نفسه اصوب ، وانك راسلتني مستهديا من صلتي ما صفرت منه ايدي أمثالك ، متصديا من خلّتي ما قُرعت دونه أنوف أشكالك ، مرسلا خليلتك مرتادة ، مستعملا عشيقتك قوادة ، كاذبا نفسك انك ستنزل عنها الي ، وتخلف بعدها علي

ولست بأول ذي همة ** دعته لما ليس بالنائل

ولا شك أنها قلتك اذ لم تضن بك، وملتك اذ لم تغر عليك ، فإنها اعذرت في السفارة لك ، وما قصرت في النيابة عنك ، زاعمة ان المروءة لفظ انت معناه ، والانسانية اسم انت جسمه وهيولاه ، قاطعة انك انفردت بالجمال ، واستاثرت بالكمال ، واستعليت في مراتب الجلال ، واستوليت على محاسن الخلال ، حتى خلت ان يوسف ـ عليه السلام ـ حاسنك فغضضت منه ، وان امراة العزيز رأتك فسلت عنه ، وأن قارون أصاب بعض ما كنزت ، والنّطِفَ عثر على فضل ما ركزت ، وكسرى حمل غاشيتك ، وقيصر رعى ماشيتك ، والسكندر قتل دارا في طاعتك ، وأردشير جاهد ملوك الطوائف لخروجهم عن جماعتك ، والضحاك استدعى مسالمتك ، وجذيمة الابرش تمنى منادمتك ، وشيرين قد نافست بوران فيك ، وبلقيس غايرت الزباء عليك ، وان مالك بن نويرة انما ردف لك ، وعروة بن جعفر إنما رحل اليك ، وكليب بن ربيعة انما حمى المرعى بعزتك ، وجساسا انما قتله بانفتك ، ومهلهلا انما طلب ثأره بهمتك ، والسموءل انما وفى عن عهدك ، والاحنف انما احتبى في بردك ، وحاتما انما جاد بوفرك ، ولقى الاضياف ببشرك ، وزيد بن مهلهل انما ركب بفخذيك ، والسليك ابن السلكه انما عدا على رجليك ، وعامر بن مالك انما لاعب الاسنة بيديك ، وقيس بن زهير انما استعان بدهائك ، واياس بن معاوية انمآستضاء بمصباح ذكائك ، وسحبان انما تكلم بلسانك ، وعمرو بن الاهتم انما سحر ببيانك ، وان الصلح بين بكر وتغلب تم برسالتك ، والحمالات بين عبس وذبيان اسندت الى كفالتك ، وان احتال هرم بن سنان لعلقمة وعامر حتى رضيا كان عن اشارتك، وجوابه لعمر ـ وقد سأله عن ايهما كان ينفر ـ وقع عن ارادتك ، وان الحجاج تقلد ولاية العراق بجدك ، وقتيبة فتح ما وراء النهر بسعدك ، والمهلب اوهن شوكة الازارقة بأيدك ، وفرق ذات بينهم بكيدك ، وأن هرمس اعطي بلينوس ما اخذ منك ، وافلاطون اورد على ارسطاطاليس ما نقل عنك ، وبطليموس سوى الاسطرلاب بتدبيرك ، وصور الكرة على تقديرك ، وبقراط علم العلل والمراض بلط حسك ، وجالينوس عرف طبائع الحشائش بدقة حدسك ، وكلاهما قلدك في العلاج ، وسألك عن المزاج ، واستوصفك تركيب الاعضاء ، واستشارك في الداء والدواء ، وانك نهجت لابي معشر طريق القضاء ، وأظهرت جابربن حيان على سر الكيمياء ، وأعطيت النظّام أصلا أدرك به الحقائق ، وجعلت للكندي رسما استخرج به الدقائق ، وإن صناعة الالحان اختراعك ، وتاليف الاوتار والانقار توليدك وابتداعك ، وان عبدالحميد بن يحيى بارى اقلامك ، وسهل بن هارون مدون كلامك ، وعمرو بن بحر مستمليك ، ومالك بن انس مستفتيك ، وانك للذي أقام البراهين ، ووضع القوانين ، وحد الماهية ، وبين الكيفية والكمية ، وناظر في الجوهر والعَرَض ، وميز الصحة من المرض ، وفك المعمّى ، وفصل بين الأسم والمسمى ، وصرف وقسم ، وعدل وقوّم ، وصف الاسماء والافعال ، وبوب الظرف والحال ، وبنى وأعرب ، ونفى وتعجب ، ووصل وقطع ، وثنى وجمع ،وأظهر وأضمر ، واستفهم وأخبر ، وأهمل وقيد ، وأرسل وأسند ، وبحث ونظر ، وتصفح الاديان ، ورجّح بين مذهبي ماني وغيلان ، وأشار بذبح الجعد ، وقتل بشار بن برد ، وأنك لو شأت خرقت العادات ، وخالفت المعهودات ، فأحلت البحار عذبة ، وأعدت السّلام رطبة ، ونقلت غدا فصار امسا ، وزدت في العناصر فكانت خمسا ، وأنك المقول فيه :

((كلّ الصيد في جوف الفرا)) .

و : ليس على الله بمستنكرِ أن يجمع العالم في واحد
والمعنيّ بقول ابي تمام :

فلو صورت نفسك لم تزدها ** على ما فيك من كرم الطباعِ

والمراد بقول ابي الطيب :

ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ** كنت البديع الفرد من أبياتها

فكدمت في غير مكدم ، واستسمنت ذا ورم ، ونفخت في غير ضرم ، ولم تجد لرمح مهزا ، ولا لشفرة محزا ،
بل رضيت من الغنيمة بالأياب ، وتمنت الرجوع بخفي حنين ، لأني قلت :
* لقد هان من بالت عليه الثعالب *

وأنشدت :

على أنها الايام قد صرن كلها ** عجائب ، حتى ليس فيها عجائب

ونخرت وكفرت ، وعبست وبسرت ، وأبدأت وأعدت ، وأبرقتُ وأرعدت .
و :
* هممت ولم أفعل وكدت وليتني*

ولولا ان للجوار ذمة ، وللضيافة حرمة ، لكان الجواب في قذال الدّمُستقِ ، والنعل حاضرة ، ان عادت العقرب ،والعقوبة ممكنة ان أصر المذنب .وهبها لم تلاحظك بعين كليلة عن عيوبك ، ملؤها حبيبها ، حسنٌ فيها من تود ، وكانت انما حلّتك بحُلاك ، ووسمتك بسيماك ، ولم تعرك شهادة ، ولا تكلفت لك زيادة ، بل صدقت سن بكرها فيما ذكرتهُ عنكَ ، ووضعتِ الهِناءَ مواضع النقبِ بما نسَبتهُ اليك ، ولم تكن كاذبةً فيما أثنت به عليك ، فالمعيدي تسمع به خير من ان تراه .
هجين القذال ، ارعن السبال ، طويل العنق والعلاوةِ ، مُفرط الحمق والغباوة ، جافي الطبع ، سيئ الاجابة والسمع ، بغيض الهيئة ، سخيف الذهاب والجيئة ، ظاهر الوسواس ، منتن الانفاس ، كثير المعايب ، مشهور المثالب ، كلامكَ تمتمة ، وحديثُك غمغمة ، وبينك فهفهة ، وضحكك قهقهة ، ومشيُك هرولة ، وغناك مسألة ، ودينُك زندقة ، وعلمُك مخرقةمَساوٍ لو قسمن على الغواني لما أمهرن الا بالطلاق حتى ان باقلا موصوفٌ بالبلاغة اذا قرن بك ، وهبنّقة مستحق لاسم العقل اذا اضيف اليك ، وطويسا مأثور عن يمن الطائر اذا قيس عليك ، فوجودك عدم ، والاغتباط بك ندم ، والخيبة منك ظفر ، والجنة معك سقر .

كيف رأيت لؤمك لكرمي كِفاء ، وَضِعَتُكَ لشرفي وفاء ، واني جهلت ان الاشياء انما تنجذب الى أشكالها ، والطير إنما تقع على الافها ، وهلا علمت ان الشرق والغرب لا يجتمعان ، و شعرت ان المؤمن والكافر لا يتقاربان ، وقلت : الخبيث والطيب لا يستويان ، وتمثلت :

ايها المنكح الثريا سهيلا ** عمرك الله كيف يلتقيان

وذكتَ اني عِلقٌ لا يباع فيمن زاد ، وطائرٌ لا يصيده من اراد ، وغرض لا يصيبه الا من اجاد ، ما احسبك الا كنت قد تهيأت للتهنئة ، وترشحت للترفئة ، ولولا ان جرح العجماء جبار ، للقيت من الكواعب ما لاقى يسار،فما هم الا بدون ما هممت به ، ولا تعرض الا لايسر ما تعرضت .
اين ادعاؤكك رواية الاشعار ، وتعاطيك حفظ السير والاخبار ، اما ثاب لك قول الشاعر :
بنو دارم اكفاؤهم ال مسمع وتنكح في اكفائها الحبطاتُ وهلا عشّيت ولم تغتر! وما اشك انك تكون وافد البراجم ، أو ترجع بصحبة المتلمس ، او افعل بك ما فعله عقيل بن علفة بالجهني حين اتاه خاطبا ، فدهن استه بزيت ، وأدناه من قرية النمل .ومتى كثر تلاقينا ، واتصل ترائينا ، فدعوني اليك ما دعا ابنة الخس الى عبدها من طول السواد ، وقرب الوساد !
وهل فقَدتُ الاراقم فانكح في جنبٍ ، او عَضَلَني همام بن مرة فاقول : زوج من عود ، خير من قعود !
ولعمري لو بلغت هذا المبلغ ، لارتفعت ، عن هذه الحِطة ، ولا رضيت بهذه الخطة ، فالنار ولا العار ،
والمنية ولا الدنية ، والحرة تجوع ولا تاكل بثدييها فكيف وفي ابناء قومي منكح وفتيان هِزّان الطوال الغرانقة ما كنت لاتخطى المسك الى الرماد ، ولا امتطي الثور بعد الجواد ، فانما يتيمم من لم يجد ماء ، ويرعى الهشيمَ ، من عدِمَ الجميم ، ويركب الصعب من لا ذلول له ، ولعلك انما غرك من علمت صبوتي اليه ،
وشَهِدت مساعفتي له ، من أقمار العصر ، وريحان المصر ، اللذين همُ الكواكب عُلُوّ هممٍ ، والرياضُ طيب شيم من تلقى منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري فحن قدح ليس منها ، ما انت وهم ؟ واين تقع منهم ؟ وهل انت الا واو عمرو فيهم ، وكالوشيظة في العظم بينهم !
وان كنت إنما بلغت قعر تابوتك ، وتجافيت عن بعض قوتك ، وعطرت اردانك ، وجررت هميانك ، واختلت في مشيتك ، وحذفت فضول لحيتك ، واصلحت شاربك ، ومططت حاجبك ، ورفعت خط عذارك ، واستانفت عقد ازارك ، رجاء الاكتنان فيهم ، وطمعا في الاعتداد منهم ، فظننت عجزا ، واخطات استك الحفرة .
والله لو كساك محرق البردين ، وحلّتك مارية بالقرطين ، وقلدك عمرو الصمصامة ، وحملك الحارث على النعامة ، ما شككت فيك ، ولا سترت اباك ، ولا كنتَ الا ذاك .
وهبك ساميتهم في ذروة المجد والحسب ، وجاريتهم في غاية الظرف والادب ، اليس تأوي الى بيت قعيدته لكاع ، اذا كلهم عزب خالي الذراع !
واين من انفرد به ممن لا اغلب الا على الاقل الاخس منه ! وكم بين من يعتمدني بالقوة الظاهرة ، والشهوة الوافرة ، والنفس المصروفة الي ، واللذة الموقوفة علي ، وبين اخر قد نضب غديره ، ونزحت بيره ، وذهب نشاطه ، ولم يبقى الا ضراطه !
وهل يجتمع لي فيك الا الحشف وسوء الكيلة ، ويقترن علي فيك بك الا الغدة والموت في بيت سلولية !
تعالى الله يا سلم بن عمرو أذل الحرص اعناق الرجال ما كان اخلفك بان تقدر بذراعك ، وتربع علي ضلعك ، ولاتكن براقش الدالة على اهلها ، وعنز السوء المستثيرة لحتفها ، فما اراك الا سقط العشاء بك على سرحان ، وبك لا بظبي أعفر ، أعذرت ان اغنيت شيا ، وأسمعت لو ناديت حيا

إن العصا قرعت لذي الحلم ** والشيئ تحقره وقد ينمي
وإن بادرت بالندامة ، ورجعت على نفسك بالملامة ، كنت قد اشتريت العافية لك بالعافية منك ، وان قلت :
(( جعجعة بلا طحن ))، و ((رب صلف تحت الراعدة ))، وانشدت :

لا يؤيسنك من مخدرة ** قول تغلظه وان جرحا فعدت لما نهيت عنه ، وراجعت ما استعفيت منه ، بعث من يزعجك الى الخضراء دفعا ، ويستحثك نحوها وكزا وصفعا .
فاذا صرت اليها عبث أكاروها بك ، وتسلط نواطيرها عليك ، فمن قرعة معوجة تقوم في قفاك ،
ومن فجلة منتنة يرمى بها تحت خصاك ، ذلك بما قدمت يداك ، لتذوق وبال امرك ، وترى ميزان قدرك
فمن جهلت نفسه قدره ** راى غيره منه ما لا يرى.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.