الرئيسية | بالواضح | الألم نبيّ مربّي | علي أوعبيشة

الألم نبيّ مربّي | علي أوعبيشة

علي أوعبيشة

لم أقترب كثيرا، وقفت على بعد أقنعة منه، لكن نظراته القاسية كانت تشعرني بضيق المسافة وكأن وجهه أمام عينيّ. لم أستطع أن أبادر بإعلان التحية، خشية ألاّ يتذكّرني أو ألاّ يبالي بي فأحصد إحراجا، كان يبدو لي في تلك اللحظة مثل نبيّ صادقـٍ  خاب ظنّه في الرب والسماوات، أعتزل الوحي وأنظم إلى الناس، نزل  الأرض حاملا بشرى أراد أن يسكبها من أعماقه، أن ينطق بها مختزلا  كل ندمه على ليال الزهــد والحــيرة وكله حلم وأمل أن يقول للناس: “أبشروا لا إله في السماء، الإله الوحيد في هذا الكون يسكن الأرض”، كم تمنى أن يسمعوا صرخته هاته ليرتاحوا من حمل وهم ثقيل، وأن يستوعبوا أنّ لا أحد يستحق احترام  الإنسان غير الإنسان نفسه،  اليوم يجول الأرض المحمّلة بثقل خطيئة لم يرتكبها وألم عميق يكبر بين جوانحه يوما بعد يوم. في الأرض، مأوى المواجع والفواجع والأحزان، زاد يقينه بحدس كارثي (لِجنديّ خسر  في الحرب توا) من كون الرب ضعيف جدا لدرجة عدم امتلاكه لحق الفيتو ومن أنّ العالم لا حدود له بشكل لا يترك متسعا لوجود السماء والمثل العليا والجنة…، خاب ضنّه في الإنسان، فعاد إلى الجبل، لكن ليس ليعبد الإله، بل ليتصوّف بدونه، ليبتعد كثيرا، لينسى السمــاء والأرض، ليبكي بــسخرية لاذعــة يـــقينه الــمــزلزل: “لا إلــه فــي السماء، لا إله في الأرض”.

كان متأكدا منذ البداية بأن الألم نبي أيضا، نبيّ مربي، يًعلمه كيف ينصت لأعماق ذاته، وأن الحزن دمعة إله أعمى انسلّت إلى العالم لترقص بعذابات البشر، شرب هو الآخر من الحزن ما يكفي لإغراق العالم أجمع ومع ذلك نذر نفسه بهلوانا لإسعاد كافة البشر، يسير وحده مكتئبا حتى أضحت صحبة العصافير عزائه الوحيد. الآن وقد ابيضّ شعر القدر الماني وشاخت أحلام النبوة الزراديشتية، يجلس بجانب بسطاء الأرض متأملا تجاعيد الوجوه القديمة، يقرأ حينا ويكتب حينا آخر وفي كل الأحيان لا يفارقه الوجع، يحمل في أحشائه إلها بوذيا يقاوم فلاشباكات الزمن بلعناته اللولبية، غير مبال بطقوس الولاء يمضي إلى مقصلة القدر الإنساني اللعين بإصرار، مثل أنباذوقليس ذلك الحكيم الذي خلع حذاءه أمام فوهة بركان أورين قبل أن يرمي جثته الحية ليترك أثرا عبثيا جميلا لغروبه المأساوي.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.