محمد سعيد
“لكل امرئ شيطانه،حتى أنا،غير أن الله أعانني عليه فأسلم..”، بهذا الحديث في مسند البخاري بدء يوسف زيدان تقديم روايته – فماذا يريد أن يقول الكاتب لقراء هذه الرواية ؟ يريد أن يقول لهم بطريقة ما،أن الشيطان يكون حيث يكون الكهنوت و حيث يكون الرهبان،و حيث تكون الكنائس،فهذا ما نستشفه و نحن نقرأ و نحلل الصفحات الروائية التي تبلغ 460 صفحة من الحجم الصغير 1،وضع الكاتب يوسف زيدان شخصية الراهب هيبا بطل الرواية،موضع خاص جداً كمحرك للرواية و الشخصية المحورية الذي تدور من حوله الأحداث و يدير الحوارات،و يتكلم في نفس الوقت بلسان و فكر يوسف زيدان،و يعبر عما يريد أن يقوله،و الذي قال من خلاله كل ما يريد للإساءة به للمسيحية،كما عبر به عن الصورة التي أراد أن يغرسها في ذهن القاريء و هي صورة لمسيحية متعصبة لا وجود لها إلا في خياله،و وضع على لسانه ما أراد أن يشوه به رجال الكنيسة الذين أراد أن يصورهم كقساة متجبرين لا يعرفون للرحمة أو الشفقة معنى،فلم يرحموا لا اليهود و لا الوثنيين حسب الرواية. فقد صور يوسف زيدان راهبهُ كمولود لأب وثني،طيب و مُسالم و رحيم،يمثل الخير و الحب و الجمال،يقوم بصيد السمك لتقديمه لكهنة معبد “خنوم” الذي يقع عند الطرف الجنوبي لجزيرة الفنتين (فيلة) الذين انظموا للمسيحية،بل و المحاصرين من المسيحيين الذين يصورهم بالقتلة و الوحوش و سافكي الدماء،و أم مسيحية تتآمر بصورة غير أخلاقية مع أهلها المسيحيين لقتل زوجها،و قد وضعها المؤلف في صورة الشريرة القاسية التي لا تعرف للحب و للرحمة و للعشرة الزوجية معنى،في مشهد يصور القتلة المتوحشين الذين يقتلون بلا رحمة و لا شفقة و هم يهللون بالترنيمة الشهيرة “المجد ليسوع المسيح،و الموت لأعداء الرب”،هذا المشهد الذي علق بذهن هيبا طوال حياته. يقول يوسف زيدان بلسان هيبا في حوار متخيل مع نسطور :”لم يكن البوح يوما من صفاتي و لا الإطمئنان لأحد،غير أني رحت ليلتها أحكي لنسطور عن معبد الإله خنوم الذي يستقبل جريان النيل،عند الطرف الجنوبي من جزيرة الفتنين الواقعة جنوب مصر بالقرب من أسوان،حكيت له عن المهابة المعتقة و القدسية المبثوثة في أرجاء المعبد و أسواره منذ قرون،و حكيت عن أبي الذي كان يحمل السمك كل يومين للكهنة الحزانى المتحصنين في المعبد منذ سنين،الكهنة المحصورين المتحسرين على اندثار ديانتهم مع انتشار عقيدة المسيح،كان أبي يصطحبني في قاربه كلما زار المعبد ليقدم للكهنة نصف ما علق في شباكه من سمك،خلال اليومين كنا نذهب للمعبد خفية،وقت الفجر،لم أستطع منع ما انفلت من دموعي حين وصفت له فزعي المهول في ذاك الفجر المروع،يوم كنت في التاسعة من عمري،فقد تربص بنا عوام المسيحيين عند المرسى الجنوبي القريب من بوابة المعبد،كانوا يختبئون خلف الصخور من قبل رسوً القارب،ثم هرولوا نحونا كأشباح فرت من قعر الجحيم،قبل أن نفيق من هول منظرهم،كانوا قد وصلوا إلينا من مكمنهم القريب..سحبوا أبي من قاربه و جروه على الصخور ليقتلوه طعنا بالسكاكين الصدئة التي كانوا يخبئنها تحت ملابسهم الرثة،كنت أزومُ متحصنا بانكماشي في زاوية القارب،و كان أبي غير متحصن بشيء يصرخ تحت طعناتهم مستغيثا بالإله الذي كان يؤمن به،كهنة خنوم أفزعتهم الأصوات التي شقت السكون،فاصطفوا بأعلى سور المعبد ينظرون إلى ما يجري تحتهم بوجل و اضطراب..كانوا يرفعون أيديهم مبتهلين لألهتهم مستصرخين،ما كانوا يدركون أن الآلهة التي يعبدونها ماتت منذ زمن بعيد،و أن دعاءهم الفزع،لن يسمعه أحد..و لن يجير أبي من أولئك السفاحين أحدً..و لن يدرك عمق عذاباتي من بعد ذاك الفجر أحدً – “يا مسكين،و هل اقترب الجهال يومها منك ؟” ليتهم قتلوني لأستريح للأبد..نظروا نحوي بعيون ذئاب قد ارتوت،و جاءوا للقارب فخطفوا مشنة السمك،و قذفوا بها في وجه بوابة المعبد المغلقة بإحكام،ثم حملوا جثة أبي المهترئة فألقوا بها فوقها،اختلط دمه و لحمه و أسماكه بتراب الأرض التي ما عادت مقدسة،ثم تملكتهم نشوة الظفر و الإرتواء،فتصايحوا و قد رفعوا أذرعتهم الملطًخة بدم أبي و راحوا و بأيديهم السكاكين الصدئة المضرجة بالدم يلوحون في وجه الكهنة المذعورين فوق السور..مضوا من بعد ذلك متهللين مهللين بالترنيمة الشهيرة :”المجد ليسوع المسيح و الموت لأعداء الرب..المجد ليسوع المسيح و الموت لأعداء الرب..المجد ليسوع..” (ص 50 – 52) 2. و يقول أيضاً :”كيف تنمحي الذكريات..أمي..كيف ارتضت الزواج بواحد من القتلة،أبي كان رجلا طيبا لم أره ينهرها يوما،و لم يضربني قط،كان يأخذني ليلقي شباكه في النيل من فوق الصخور البيضاوية،التي يعتقد أنها بيض سماوي مقدس هبط مع ماء النيل ليحمي الواقف عليه من التماسيح،التي هي أيضاً مقدسة،كنت أفرح بالأسماك العالقة في شباكه و كان يفرح لفرحي..لماذا أمعنوا في قتله على هذا النحو ؟..يا يسوع المسيح..إنني أشعر بحرقة قلب العذراء و لوعتها عليك..أحس بعمق عذاباتها،يوم دقوا المسامير في يديك و قدميك المشبوحتين فوق الصليب،فأنا مشبوح مثلك فوق صليب الذكريات،و ملتاع مثلها بحرقة الفقدان.” ثم يأخذه عمه المسيحي فيصير مسيحياً،بل و يجعل الرواية تبدأ بمولد هذا الراهب في جنوب مصر سنة (391 م)،و هي نفس السنة التي أُعلنت فيها المسيحية ديانةً رسميةَ للإمبراطورية الرومانية،موحياً بأن تحول الإمبراطورية إلى المسيحية هو تحول إلى العنف و القسوة و الإرهاب الديني و نبذ الأخر،و هنا يتجاهل أكثر من ثلاثمائة سنة من الاضطهاد الدموي الذي قاساه المسيحيون على أيدي اليهود و الرومان بلا هوادة و الذي استشهد فيه ألاف،بل العشرات الآلاف من المسيحيين عبر هذه السنين و دمرت فيه كنائسهم و أحرق فيه الكثير من كتبهم،كما تجاهل الخلفيات التاريخية و الظروف التي أدت لأحداث العنف و لي عنق الحقيقة و حول المظلوم إلى ظالم و الظالم إلى مظلوم،كما نرى بهذه الرواية. و ينهي أحداث الرواية بمجمع أفسس المسكوني سنة (431 م)،الذي ناقش أفكار نسطور و حكم عليها بالهرطقة،و كأن هذا المجمع هو سبب انحراف المسيحية و بداية عصور الظلام. إن الذي نكتشفه من خلال حوارات الرواية أن الأنا الداخلي أو عقل الإنسان الباطن و هو موجه الرواية و محرك أحداثها و الدافع و الباعث على كتابتها،بل نكتشف أنه هو نفسه الكاتب يوسف زيدان،كاتب الرواية،أو الأنا الداخلي له أو عقله الباطن حيث يقول في إهداء الرواية كما قلنا “لكُلً امرئ شَيطَانُهُ،حتى أنَا،غير أن الله أعانني عَلَيه فَأسلَم..”(حديث شريف – رواه الإمام البخاري بلفظ قريب)،و لكن يبدو أن يوسف زيدان تمكن منه شيطانه أو عزازيله فلم يستطع أن يتغلب عليه فغلبه و صور له،بل فبرك له أحداث الرواية. لقد ابتدع يوسف زيدان شخصية هذا الراهب،و الذي تتحرك الأحداث حوله و يحركها،و هو الناطق بلسان زيدان و أفكاره،و الذي يحركه عزازيل أو شيطان زيدان طوال الرواية،فالراهب “هيبا” شخصية و همية لا وجود تاريخي لها،و قد ابتدعها زيدان ليضع على لسانه كل أفكاره التي تحط من الكنيسة المصرية (القبطية) و رجالها و تسيء لأقدس عقائدها. إن رواية “عزازيل” التي ذكرت هذه القصة رغم أن محتواها الرئيسي يتحدث عن اللاهوت و الصراع الكنسي،لم تتوفق في حبك العلاقة بين المسيحية و موت الفيلسوفة “هيبتايا”،فالصراع الكنسي كان بين هيبا الراهب و أوكتافيا،و هيباتا و مرتا،فوجود تناقض هنا يوحي بأن وصف الأحداث إما كون الراهب هيبا مزدوج الشخصية بين حبه للدين و النساء معا،أو أن الكاتب لم يوفق في احتواء المضمون و أنجرف في خيالاته. و السؤال هنا – ما الذي جعل يوسف زيدان يفعل ذلك ؟ هل هو تأثره بالفكر الغربي كما يبدوا واضحا من أقواله ؟ و ما هي هاته الأفكار التي ينسبها للمسيحية و نعترض عليه فيها ؟ و هل كون الكاتب أستاذ للفلسفة الإسلامية،هذا ما جعله يميل إلى تغليب ما يعتقده بخصوص الفلسفة ؟ هذا ما يبدوا واضحا في فكر الدكتور يوسف زيدان،أنه فعل ذلك مثلما يفعل الذين يشتغلون بمقارنة الأديان هنا عندنا رغم قلتهم ! لأنه إعتبر علم الكلام الإسلامي مجرد تطور للاهوت المسيحي في كتابه “اللاهوت العربي”. تتضح لنا شخصية الكاتب من خلال أفكاره و منهجه و ربما عقيدته من خلال حديثه عن شخصية “عزازيل”،بل و شخص الله ذاته،و تصويره بأن السعادة و الاستمتاع ليس بالتفرغ للعبادة لله أو بتخيل حياة بعد الموت يمكن أن نكافأ فيها،بل في هذه الدنيا،و أن الإنسان يمكن أن يجد ذاته في متع الحياة و خاصة في الجنس و ممارسة الشهوات الجسدية،هذا على الأقل ما وضعه على لسان بطله “هيبا الكاهن” الذي يتكلم بلسانه،فإننا لا نرى أمامنا راهباً ناسكاً بمفهوم الرهبنة كما يعرفها كل العالم المسيحي،و كما عرفها القديس جيرم صاحب الترجمة التوراتية (الفولغاتا)،بل راهباً منحلاً من كل القيود و غارقاً في الجنس و الشهوات الجنسية،و كأن الكاتب يوسف زيدان يقول لنا،أن الزهد الحقيقي و النسك الحقيقي هو الانغماس في الجنس و الشهوات الجنسية أكبر وقت ممكن،بل و جعل راهبه بلا أي مقدس يقدسه سوى اللهو و الإنطلاق لحرية دنيوية بلا قيود،و قد قال موقع العربية نيت (15 ديسمبر2008) نقلاً عن صحيفة أخبار الأدب المصرية،تعليقا على انغماس الراهب هيبا في الجنس :”المشكلة أن هذا الراهب فيه ضعف شديد أمام المرأة،و قد تعرض لتجارب نسائية مرتين،و فشل في المرتين فشلا ذريعًا،كانت تجربته الأولى في الإسكندرية أمام أوكتافيا،و هي سيدة جميلة من الوثنيين تعبد إله البحر،فراحت تذهب كل يوم للبحر لانتظاره،حتى كان اليوم الأول للراهب في الإسكندرية،و نزل إلى البحر و توغل فيه،لولا إن وجد امرأة على الشاطئ تشير إليه فانتبه و خرج من البحر ليجدها في انتظاره،و تجد فيه حبيبها المنتظر،فيقضي البطل مع أوكتافيا ثلاث ليال سويا،و خلال هذه الفترة يعرف الجنس لأول مرة في حياته،و ينسى أنه راهب في البداية،و يفكر في الخروج من الرهبانية في بعض الأحيان،و يسيء الظن بها في بعض الأحيان،و يقرر التمرد،و لكنه في كل الأحيان ينتهي بالتراجع أمامها،و لا تنتهي العلاقة بينهما إلا حين تقوم بطرده،و عندما ترك مصر و استقر ببلاد الشام،بدأ الراهب التجربة الثانية مع فتاة مسكينة إسمها مرتا أعطاها رئيس الدير غرفة خارج الدير لتسكنها مع خالتها،مقابل أن ترنم في الكنيسة يوم الآحاد،و كلف البطل باعتباره شاعرا أن يشرف على تدريبها هي و مجموعة من الأطفال،إلا أنه وقع في هواها و بادلته حبا بحب،و وقع معها في الخطيئة،و صار أسير هواها،و تطور الأمر بسرعة،فقد عرضت عليه مرتا أن يتزوجها،و أن يهجرا الدير و حياة الرهبنة و يرحلا إلى مصر معا،فيعمرا بيت أسرته القديم،و تنجب له ذرية تملأ عليهما البيت،إلا أنه في هذه اللحظة تذكر أنه جاء في إنجيل متى الرسول،مكتوب “من يتزوج مطلقة فهو يزني”..حينئذ كان لا بد أن تصفعه مرتا بقولها : نزني ؟ و ما الذي كان بيننا بالأمس في الكوخ ؟ ألم نكن نزني ؟ 3
الهوامش : 1 – تبلغ الرواية 468 صفحة إذا أدخلنا مقدمة المترجم حسب النسخة السابعة و العشرون لدار “الشروق” (2013) 2 – إعتمدت في هذه القراءة النقدية على الطبعة السابعة و العشرون،عن دار النشر “الشروق” (2013) 3 – مقالة القمص عبد المسيح بسيط بعنوان “هيبا بطل الرواية أو راهب الشيطان