أيها الإخوة الأعزاء، خصوصًا أولئك الذين يناضلون في الوقت الراهن لدينا في روسيا، في سبيل نظامٍ ما للدولة لا يحتاج إليه أحد. يلزمك يا أخي الحبيب، أيًّا كنت: قيصرًا أم وزيرًا أو عاملاً أم فلاحًا، شيء واحد، وهذا الشيء هو أن تعيش برهة الحياة القصيرة، قِصرًا غير محدد، بموجب مشيئة الذي أرسلك إلى هذه الحياة.
إننا لا نعلم، وقد شعرت بهذا بصورة مبهمة دائمًا، وكلما طال عمر الإنسان صار الأمر أوضح له، أما الآن، منذ اليوم، حيث أشعر بوضوح، للمرة الأولى، بأنَّ الحلول الطبيعي للموت، الذي يشبه حلول الغد، بالنسبة للإنسان الحي ليس غير مخيفٍ فحسب بل إنَّ هذا الانتقال طبيعي وخيِّر تمامًا مثل الانتقال إلى الغد. وفي الوقت الراهن، وقد شعرت بهذا، لم أعد خائفًا، والأهم هو أنَّ من الغريب التفكير في الحياة المرعبة الحقودة التي يعيشها معظم البشر الذين ولدوا لأجل المحبة والخير.
من نحن، ما نحن؟ إننا مجرَّد كائنات تافهة وضعيفة، قابلة للفناء في أية لحظة، انبثقت لبرهة من العدم إلى حياةٍ رائعة مفرحة، بسمائها وشمسها وغاباتها ومروجها وأنهارها وطيورها وحيواناتها، مع غبطة محبة الأقربين ومحبة أنفسنا، محبة الخير ومحبة كل ما هو حي…؛ ففيمَ الأمر؟
نحن، هذه الكائنات، لا نجد ما هو أفضل من تكريس لمحة الحياة القصيرة، غير المحددة، القابلة للانقطاع في أية لحظة، مشوِّهين إياها بأبنية من عشرة طوابق، بجسور ودخان وسخام، من الانهماك باستكشاف البقاع النائية، والنزول تحت الأرض والتنقيب عن الحجارة والحديد لبناء سكك الحديد التي تنقل الناس غير اللازمين لأحد، والبضائع التي لا يحتاجها أحد، عبر العالم كله. والأهم هو أننا، بدلاً من أن نعيش حياة سعيدة، حياة المحبة، نكره ونخاف ونعذِّب ونتعذَّب ونَقتل ونَسجن ونَعدم، ونتعلم القتل، ونقتل بعضنا بعضًا.
لكنَّ هذا مرعب!
الذين يفعلون هذا يقولون إنهم إنما يفعلون هذا كله لكي يَسلموا من كل ما هو سيئ، والأكثر كذبًا هو أنهم يقولون إنهم إنما يفعلون ذلك لكي ينقذوا الناس من الشرِّ، وإنهم إنما يفعلون ذلك بدافع المحبة تجاه الناس.
أيها الإخوة الأعزاء! ثوبوا إلى رشدكم، انظروا من حولكم، فكِّروا في ضعفكم، في سرعة فنائكم، في قِصر وعدم تحديد الحياة التي بين أبديتين، أو بالحري بين سرمديتين، والتي لا تعرف خيرًا أسمى من المحبة؛ فكَّروا في كيف أنَّ من الجنون ألاَّ تفعلوا ما من طبيعتكم أن تفعلوا، وأن تفعلوا ما تفعلونه الآن.
إنكم تتصوَّرون، بسبب جهلكم اللاشعوري الذي يعزِّزه الرأي العام، أنَّ كل ما تفعلونه إنما هو شرط محتوم لحياة البشر في زماننا، وأنَّ ما تقومون به إنما هو عبارة عن مشاركة في حياة البشرية العالمية، وأنكم لا تستطيعون إلاَّ أن تفعلوا ما كان يفعله، ويفعله، الآخرون، ويعتبرون أنَّ القيام به أمرٌ ضروري. ولكن، لكان حسنًا أن تفكِّروا على هذا النحو لو أنَّ ما تقومون به يوافق مطالب نفوسكم، لو أنَّ هذا يمنحكم، ويمنح الآخرين، السعادة. ولكن هذا غير صحيح؛ فحياة العالم، حياة البشرية برمَّتها، كما تجري الآن، تتطلب منكم الضغينة، والمشاركة في أعمال الكراهية تجاه بعض الإخوة لأجل بعضهم الآخر، وهذا لا يمنح السعادة، لا للآخرين ولا لكم.
«لكننا نعمل من أجل المستقبل» – يردُّون على ذلك. لكن لماذا التضحية بحياة المحبة في الحاضر، الآن، في سبيل حياة مستقبلية مجهولة لنا. أليس جليًا مدى إهلاك وغرابة هذه الخرافة؟ إنني أعلم، وأعلم دون شك، أنَّ العيش في المحبة، حسب شرعة الله ومطالب قلبي، يمنحني، ويمنح الآخرين، السعادة. وإذا بأفكارٍ ما ترغمني على رفض خيري الحقيقي اليقيني، وواجبي وشرعتي… لأجل ماذا؟ لأجل لا شيء، لأجل العادات والتقاليد.
فليضحِّ المناضل في سبيل “الحرية” أو “الاستقرار” بواحد بالمائة فقط من الجهود والتضحيات التي يبذلها في النضال في سبيل أهدافه من أجل مضاعفة المحبة في نفسه ولدى الآخرين، وسوف يرى – ليس في مجرى الصراع حيث لا تُلحظ أية نتائج، وإنما تُتوقَّع فحسب – في التوِّ واللحظة، ثمار عمله المُحبِّ، لا في ذاته فقط: في غبطة المحبة العظيمة، بل وفي الآثار التي لا بدَّ أن يُخلِّفها هذا العمل على الآخرين.
أيها الإخوة الأعزاء! استيقظوا، تحرروا من عطالة الضلالة المرعبة (ضلالة أنَّ الصراع الوحشي يمكنه أن يكون ملائمًا للإنسان، وأنه ليس مميتًا له)؛ وستعرفون فرح وخير وقدسية الحياة التي لا يمكن تعكير صفوها، لا بتهجُّمات الآخرين لأنَّ تلك التهجُّمات ستصبح سببًا لتقوية المحبة فحسب، ولا بالخوف من الموت لأنَّ الموت لا وجود له بالنسبة للمحبة.
أيها الإخوة الأعزاء! لا أجرؤ على القول: «صدِّقوا، صدِّقوني»، لا تصدِّقوني ولكن تحقَّقوا مما أقول؛ اختبروه ولو ليوم واحد. ولو ليوم واحد، إذ تمكثون في ظروف باغتكم بها هذا اليوم، ضعوا لأنفسكم مهمة الانقياد للمحبة في كل عمل من أعمال هذا اليوم. وإني أعلم أنكم، إن فعلتم ذلك، لن تعودوا إلى الضلال القديم المميت.
أطلب منكم شيئًا واحدًا، أيها الإخوة الأعزاء: شكِّكوا في أنَّ الحياة التي نعيشها هي الحياة الواجبة (هذه الحياة تشويهٌ للحياة)، وصدِّقوا أنَّ المحبة هي مغزى وجوهر وخير حياتنا، وأنها ذلك النزوع إلى الخير، الكامن في كلِّ القلوب، ذلك الانزعاج من عدم وجود ما ينبغي له أن يوجد: الخير، وأن من الواجب إشباع هذا الشعور المشروع، وهو يرضى بسهولة: فقط ألا يعتبر البشر ما هو تشويهًا للحياة حياةً، كما يفعلون الآن.
أيها الإخوة الأعزاء! من أجل خيركم، افعلوا هذا: شكِّكوا في الحياة الظاهرية التي تعيشونها، والتي تبدو لكم بالغة الأهمية، وستفهمون أنّ تلك النظم الاجتماعية كلها، التي تصورتموها لحياة ملايين وملايين البشر، ناهيكم عن المجد الشخصي والثروة وغيرها، كلها تفاهات تافهة لا قيمة لها مقارنةً بتلك الروح التي سوف تعوها في أنفسكم، في هذه البرهة الوجيزة بين الولادة والموت، والتي تُبلِّغكم بمطالبها دون توقُّف. عيشوا فقط لأجلها وبها، بتلك المحبة التي تدعوكم إليها، وكل تلك الخيرات التي يمكنكم أن تحلموا بها فحسب، وسوف تعطى لكم، ولجميع البشر، أكثر بما لا يُقاس. فقط صدِّقوا نعمة المحبة المشرَّعة، التي تدعوكم إليها.
21 آب 1908
***
كنت أظنُّ أنَّي سوف أموت يوم كتبت هذا، ولكني لم أمت، إلاَّ أنَّ قناعتي بما قلتُ هنا تبقى ذاتها، وأعلم أنها لن تتغيَّر حتى مماتي الذي، في كل الأحوال، يجب أن يحلَّ قريبًا جدًا.
ترجمة: هفال يوسف
٭ فصل من كتاب ليف تولستوي: مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية.
أيالكونت ليف نيكولايافيتش تولستوي (9 سبتمبر 1828- 20 نوفمبر 1910) من عمالقة الروائيين الروس ومن أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر والبعض يعدونه من أعظم الروائيين على الإطلاق. كان ليو تولستوي روائياً ومصلحا اجتماعيا وداعية سلام و مفكرا أخلاقيا وعضوا مؤثرا في أسرة تولستوي. أشهر أعماله روايتي (الحرب والسلام) و(أنا كارنينا) وهما يتربعان على قمة الأدب الواقعي، فهما يعطيان صورة واقعية للحياة الروسية في تلك الحقبة الزمني