الرئيسية | سرديات | نهاية حب: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي – فرنسا

نهاية حب: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي – فرنسا

حنان الدرقاوي – فرنسا

 

كانت حورية تعيش حياة هادئة: بيت بحديقة في ضواحي باريس, زوج طيب وطفلتان هما أغلى ما لديها في حياتها. كانت تعمل مترجمة أعمال أدبية ووثائق إدارية. تشتغل في مكتبها بالمنزل. وضبت في أقصى الحديقة غرفة أنيقة بواجهة زجاجية كبيرة, وظبتها كمكتب لها. تستيقظ على الساعة السادسة صباحا, تهيء بناتها للمدرسة, تشرف على الفطور ونظافة الصغيرات. ترافقهما إلى باب البيت, تتمنى لهما يوما سعيدا. تنظر إليهما وهما تعبران الطريق. تظل واقفة إلى أن تختفيا. تعود إلى البيت. توقظ زوجها باتريك الذي يعمل غرافيست في شركة إشهار بباريس. تشرف على فطوره, يتناولان قهوتهما الصباحية. يقبلها وينصرف إلى العمل. تذهب بعدها إلى مكتبها في الحديقة. تلقي نظرة على مواقع الجرائد المغربية وتطلع على أهم الأحداث على أرض الوطن الذي صار بعيدا. بعدها تلقي نظرة على صفحتها بالفايسبوك. تجيب على الرسائل التي يبعثها أصدقاؤها. تشرب قهوة ثانية, تدخن سيجارة واحدة وتفتح الكتاب أو الوثيقة التي تترجمها. تعمل من الساعة الثامنة والنصف حتى الرابعة بعد الزوال. على الساعة الواحدة تتوقف لتناول غذاء خفيف وهي تشاهد مسلسلا عربيا على اليوتوب. ليس لديها اشتراك تلفيون لأنها تخاف على إبنتيها من تأثيراته. تتوقف على الساعة الرابعة لتستقبلهما. تهيء لهما حلوى وعصيرا. تشرف على واجباتهما المدرسية وتشاهد معهما أفلاما أجنبية. بعدها تذهب البنتان إلى الدوش وتهيء حورية طعام العشاء. بصمت تنصت لراديو كلاسيك وهي تقشر الخضر وتحمر اللحم أو تقلي البيض. تفرغ آلة غسيل الصحون وآلة غسيل الملابس وتعيد ملأهما بما اتسخ من ملابس وأواني. يعود باتريك على الساعة السابعة والنصف. تهيء المائدة فيما يغير زوجها ملابسه. تجتمع أسرتها على مائدة الطعام العامرة. تحكي البنات يومهما ويحكي باتريك ما وقع له في العمل. تكتفي حورية بالتعليق. لا أحد يسألها عن يومها. تشتغل بالبيت ولا أحد يفكر في أن يسألها عن يومها ومافعلته. هي لا تلتقي أحدا خلال اليوم. تنصت لابنتها وزوجها بحب وتفكر كم هي محظوظة أن حياتها مرتبة وممتلئة بالنجاح والأمل. ينتهي الطعام وينظف باتريك المائدة. يملأ آلة غسيل الصحون ويهيء لنفسه وحورية شايا بالعسل. يشربان الشاي فيما موسيقى شوبان تملأ البيت النظيف. ينصرف باتريك بعدها إلى حاسوبه وتنصرف هي إلى مكتبها. تشتغل ساعة أو ساعتين, تتصفح صفحتها على الفايس وتحادث صديقاتها إلى حدود الساعة العاشرة مساء. تغلق الحاسوب وتذهب للنوم. تجد باتريك نائما. تمشي بحذر كي لا توقظه إذ أن نومه خفيف. تندس قربه في الفراش وتحس بجسده المزغب دافئا. تتجنب أن تلمسه كي لا يستيقظ. تظل تفكر للحظات قبل أن تستسلم للنوم وهي تفكر في واجبات الغد. كانت حياة حورية هادئة ومرتبة, يعتريها في بعض الأحيان بعض الملل والتكرار لكنها لا تشتكي فحياتها أحسن من حياة الكثيرات. قدمت منذ خمسة عشر عاما إلى فرنسا من أجل الدراسة في شعبة الترجمة بباريس 7. أنهت دراستها وواجهت صعوبات من أجل استخراج أوراق الإقامة. التقت بباتريك في سهرة طلابية بالحي اللاتيني. ارتبطا بعلاقة عاطفية لأشهر قبل أن يطلب منها الزواج. وافقت ووجدت في ذلك نهاية لمشكلة أوراق الإقامة. بعد سنة من الزواج أنجبت إبنتها ياسمين وبعد سنتين أنجبت زاهية. لم تكن تشتكي من شيء في حياتها المرتبة. تسكن البيت الذي كانت تحلم به, بيت بحديقة وسياج أبيض. تملك سيارة وعملها كمترجمة يدر عليها مدخولا لا بأس به تساهم بمجمله في تسديد دين شراء البيت وبعض المصاريف الأخرى. باتريك رجل كريم ويفعل كل ما بوسعه لكي يسعدها ويسعد البنتين. رجل كتوم لا يتكلم كثيرا ولا يستعرض عواطفه باستمرار ولكنها تعرف أنه يحبها. في بداية حبهما كان أكثر استعراضا لمشاعره ولم يكن يتعب من ممارسة الحب. بعد ميلاد ياسمين هدأت الرغبات وصارت مواعيد الحب بينهما متباعدة. في البداية كان ذلك بسبب اكتئاب ما بعد الحمل الذي عانت منه حورية. كانت بعد الوضع تدخل في حالات من البكاء والحزن الشديد وغياب الرغبة في كل الأشياء التي كانت تحبها من قبل حتى الموسيقى الكلاسيكية تشعرها بالحزن وتدخلها في نوبات من البكاء الشديد. لم تكن تستطيع العناية ببناتها فشغل باتريك مربية من أجل مساعدتها في العناية بابنتيها. في تلك الفترات لم تكن ترغب في أي لقاء جسدي مع باتريك, كانت رائحته ” رغم نظافته الشديدة” تشعرها بالغثيان لهذا كانت تضع لحافا في غرفة المكتب وتنام عليه. لم يشتك باتريك من شيء. كان ينتظر عودة الرغبة والحياة إلى حورية. مرت تلك الحالات وعادت حياتهما إلى سيرها الطبيعي لكن الجنس صار أقل حضورا في حياتهما. كانت بينهما مشاعر هادئة من الود والثقة المتبادلة والعطف المشترك على ابنتيهما. كانت تفكر بباتريك كما تفكر بصديق. كانت تعي أن هناك ما ينقص حياتها كاشتعال الحواس وجنون الرغبة وعنفها. لم تبحث يوما عن هاته الأشياء لرغبتها في حياة مستقرة. مرت قبل الزواج بلحظة قصيرة عاشت فيها حبا مجنونا مع طالب عراقي في السوربون. كانت لا تنام إلى أن تراه. تظل مستيقظة وتنتظر موعدهما. كانت لحظات لقائهما لحظات اشتعال للحواس وللروح. كتبت فيه شعرا وألف موسيقى من أجلها وسجل لها شريطا وأهداه إياها في عيد ميلادها الثاني والعشرين. انتهت فترة دراسته ولم يحل مشكلة أوراق الإقامة. رحل إلى العراق ذات صيف2000 ورحلت معه روح حورية. اقترح عليها أن تلحق به في العراق لكنها خافت من المغامرة. لم تملك الشجاعة لتقامر بحياتها في بلد غير مستقر. أقفلت قلبها عن الحب إلى أن التقت باتريك الذي أيقظ رغبتها في أسرة. رأت في باتريك رجلا يصلح للزواج وتأسيس أسرة مستقرة. كانت حياتها مرتبة وهادئة إلى أن حدث شيء لم يكن بالحسبان. كانت تتصفح صفحتها على الفايسبوك حين وصلتها رسالة على الخاص ” هل أنت حورية الطالبي من حي المحيط في الرباط؟” أجابت “نعم ” فقال المرسل” أنا مصطفى الراشدي كنت جارك في التسعينات هل تذكرينني؟” إرتعشت فهي تذكر مصطفى. كان أول حبها حين كانت في السادسة عشر من عمرها. تذكر مصطفى الوسيم الغامض الذي كانت كل البنات مغرمات به قبل أن يرحل إلى فرنسا مع أمه وأخته. وهي تنظر إلى جوابه لم تصدق كيف يعود كل هذا ولماذا الآن؟ كانت في الزمن الماضي تراقبه من سطح بيتها وهو يراجع على سطح بيته. كان يهيء امتحانات الباكالوريا. لم يكن يرفع رأسه عن كتبه ليراها وهي منشغلة به ومتلهفة إلى نظرة منه. ذات يوم رفع رأسه وكانت هي تتلصص عليه. حياها بأدب وعاد إلى أوراقه. بعدها التقت به في الزقاق, حياها ودس في يدها ورقة وردية بها رائحة عطر رجالي نفاذ. كتب على الورقة “أنت جميلة , تعجبينني, يعجبني كل شيء فيك, هل توافقين أن نلتقي؟” كانت موافقة طبعا, لم تفكر وهي تدس ورقة في يده في ناصية الزقاق” أنت أيضا تعجبني, متى نلنقي؟” التقيا عند البحر جهة غربية بحي المحيط. نظرت إلى عينيه العسليتين وأحست بدوخة.” يا الله كم عيناه جميلتان وكم أود أن أغوص فيهما حتى نهاية عمري”. فكرت أنه رجل حياتها ولن تغادره أبدا. كان يتحدث ككتاب, بأدب وثقافة كبيرين. كان إحساسه إحساس فنان. أحست بالبحر أجمل وهي في حضنه. أحست بالسماء أكثر زرقة وهو يضع يده على كتفها ويضمها إليه. استسلما لقبلة قوية, كانت القبلة الأولى في حياتها. كانت تريد أن تبقى بجانبه حتى نهاية العمر لكن قصتهما كانت قصيرة فقد أعلمها أنه سيرحل إلى فرنسا مع أمه وأخته للإلتحاق بأبيه الذي يعيش هناك. لم يترك لها عنوانا لكنه وعد بالكتابة على البريد المحفوظ ولم يكتب. تركها لحزنها وضياعها. حصلت على الباكالوريا وتسجلت في شعبة الترجمة بالسوربون. في بداية حياتها بباريس كانت تذرع الشوارع بحثا عنه. هاجرت من أجله ومن أجل حلم غير معقول أن تلتقيه بدون موعد ودون معرفة عنوانه. ها هو حلمها القديم يتحقق في شوارع النت. أجابته ” أجل أنا حورية من حي المحيط كيف حالك؟ أجابها “بخير بخير الآن وقد وجدتك. ماذا يعني بهذا؟ هل لا زال يحبها؟ هي أيضا لا زالت تحبه. بماذا تجيب؟ لا تريد أن تعرض حياتها المرتبة لخطر حب قديم يعود. ماذا يعني أن يعود هذا الآن وقد رتبت حياتها, طوت صفحة المشاعر بعناية. خافت أن تجيب وأن تصمت وكانت تائهة بين حبها العاصف لمصطفى واطمئنانها لحياتها مع باتريك. أشعلت سيجارة وخرجت إلى الحديقة وهي تفكر فيما يحدث لها من اضطراب. ألحت على نفسها أن تتشبت بحياتها الزوجية المرتبة رغم الملل لكن نداء بعيدا في دمها يقودها لذكرى الحب مع مصطفى, إلى قلق المشاعر واضطراب القلب الذي شعرت به معه. فكرت بكل العواطف التي كانت تشدها إليه, لطعم القبلة المسروقة قبالة البحر, لوعد الحب الأبدي والأمواج شاهدة. آه لو تملك أن تختار لاختارت نداء دمها المتوثب لكنها تخاف على أسرتها. عادت إلى المكتب وكتبت ” أنا أيضا سعيدة لأنني وجدتك” أرسلت الإجابة وانتظرت. جاءها الرد سريعا ” لم أحب بعدك امرأة أخرى كنت ولا تزالين حب عمري وكل يوم أفكر فيك”. فكرت” يا إلهي ما الذي سأفعله بهذا الإعتراف؟ سأخرب بيتي وزواجي وحياتي كأم , بماذا أجيب هذا العائد من البعيد؟ ما زال طعم المغامرة قويا في دمي. ما زلت بحاجة إلى حب يرج كياني ويزلزلني. وليكن سأعترف له وسيظل هذا الإعتراف سجين هاته الكوة الإفتراضية. ” كتبت دون أن تفكر ” وأنا أيضا أفكر بك كل يوم أتيت إلى باريس لألتقيك” أجابها بسرعة ” هل أنت في باريس؟ ” أجابت ” في الضاحية 91″ أجاب ” أنا في باريس الدائرة 12 رويي ديدرو, هل نلتقي؟ ” داخت حين رأت الإجابة. انهارت شجاعتها. حين اعترفت بحبها اعتقدت أن هذا الإعتراف سيبقى افتراضيا, فايسبوكيا لكن مصطفى يريد تحويله إلى واقع. خافت من قطع المسافة بين الإفتراضي والواقعي. ماذا لو شعرت معه بالخيبة؟ ماذا لو تغير حبيبها القديم؟ هل تغامر بحياتها كسيدة متزوجة وأم من أجل حب قديم؟ من أجل رغبة في استعادة الزمن الماضي؟ فكرت في أن تغلق الحاسوب وتندس في فراشها قرب باتريك, أن تحس بجسده قربها. أن تلمسه ربما يستيقظ ويقضيان الليلة في الحب والكلام. فكرت في أن تهرب من مكتبها, أن تدخل إلى البيت, ترتب الصالون وتفرغ غسالة الصحون. أن تهرب من تلك الكوة التي فتحتها على نفسها. ماذا دهاها لتجيب مصطفى. لقد أدخلت النار إلى جنتها اليومية. أحست أنها بحاجة إلى الحب الشهواني, إلى فرح الحواس فحياتها مع باتريك مملة وخالية من التوهج. هذا من حقها والعتاب على باتريك الذي يضن عليها بحبه وعواطفه. كل اهتمامه موجه لياسمين وزاهية وتأمين المال للعيش الكريم. هل تخون باتريك الذي صانها وصان غربتها وحافظ عليها خمسة عشر سنة ولم يؤذها في شيء؟ باتريك الذي مكنها من الجنسية الفرنسية ومن حياة تحسد عليها؟ هل يكفي المال والأمان في الحياة أم أن الإنسان يعيش أيضا بالحب والإشتعال؟ فكرت في أن تقوم لركعة استغفار , أن تستغفر الله على مشاعرها الحرام لكنها تذكرت أنها لم تصل منذ سنين ولم تعد مؤمنة بفعالية الصلوات. لن تعرض حياتها للخطر لكن ماذا تفعل بكل الحب الحبيس بداخلها؟ عشرون سنة ولم تنس مصطفى إلى أن يئست من إمكانية لقائه فرتبت حياتها بشكل آخر. كانت رسالته أمامها حيث يطلب اللقاء. ماذا بعد اللقاء؟ اشتعال ورغبات متوثبة. كذب وخيانة وحياة مزدوجة. كان الصراع على أشده بداخلها لكنها أجابت – لم لانلتقي, أين؟ – غدا عند جسر الفنون في الغد كانت على الجسر تنتظر. أتى حبيب الزمن الخالي. تعانقا. نظرت بعمق إلى عينيه. كان لا يزال بنفس وسامة الزمن الماضي كأن الوقت لم يمر من جسده. فارع الطول, شعره الأملس يسقط على جبهته العريضة وابتسامته ما زالت بنفس الإشتعال والصدق. جلسا على كرسي خشبي وتجاذبا أطراف الذكريات. حدثها عن هجرته وعن دراسته للفنون الجميلة وفشله في الحب والزواج. حدثته عن حياتها الجميلة في الضاحية, عن عملها كمترجمة وفرحها بالأمومة قال – كنت أريدك أما لأطفالي – وكنت أريدك رجلا لما تبقى من عمري نظر إليها معاتبا – ولماذا لم تقولي؟ – وأنت لماذا لم تقل؟ صمتا طويلا وصاحت – بيننا ما لم يقل, أخطأنا موعدنا مع الحب والحياة لأننا عجزنا عن القول. سأحبك طيلة حياتي لكن لي حياة علي أن أحافظ عليها – تعالي نعيش الزمن المستعاد نهضت من فوق الكرسي, نظرت إليه نظرة أخيرة وصاحت في وجهه – لا أومن بالزمن المستعاد, لا أومن بالعودة الى الماضي. الحياة تقدم نحو المستقبل واليوم حياتي هي أسرتي وباتريك – تعالي نعيش الزمن الحاضر, أنت حاضري ومستقبلي كانت تتابع السير في اتجاه الميترو وتقاوم الدمع المتدفق من عينيها وروحها تتمزق وهي تردد لنفسها – لن أسمح لحب قديم أن يعصف بحياة أسستها لنفسي, بيني وبينه ما لم يقل بيني وبينه ما لم يقل في حينه.

تعليق واحد

  1. نجاة الكَاضي

    متألقة أنت أيتها الساردة المتمكنة / دام إبداعك .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.