عبدالله المتقي
تعرية المكشوف واللامكشوف
“نقد العقل المتحجر” هو اسم المجموعة القصصية الأولى للقاص المغربي يوسف كرماح، صدرت عن فضاءات للنشر والتوزيع الأردنية، تقع في 185 صفحة، وتتضمن خمسة عشرة قصة قصيرة أغلبيتها بنفس طويل ومؤهل للرواية.
والمقبل على غلاف هذه المجموعة الفاتحة للقاص يوسف كرماح لا يمكن أن يلج عوالمها دون أن يثيره انتباهه عنوانها وذلك لأن العنوان ليس عبارة لغوية منقطعة أو إشارة مكتفية بذاتها بل هو دائماً مفتاح تأويلي أساسي لفك مغاليق النص.
وعليه، يعلق القاص في سقف غلاف قصصه عنوانا وسمه ب “نقد العقل المتحجر”، والأكثر منه، كلمة نقد المكتوبة بخط مضغوط لافت، تحتها بخط العناوين العادية “العقل المتحجر”، وإذا كانت لفظة نقد تعني في قواميس اللغة تمييز الجيد من الرديء، كما تعني إظهار العيب، كما أن نقد الشيء نقدا وقع فيه الفساد “، فإن لفظة التحجر تعني الذي القسوة والتشدد والبرودة واللامبالاة.
بيد أن احتكاك القارئ بالنصوص، ريثما يكتشف أن اختيار القاص لهذا العنوان ليس عملاً شكلياً أو إجرائيا معزولا عن نصوصه، إنما هو دلالة منتزعة من صميمه، إذ أن كل القصص تشتغل على نقد وتجريح رداءة وعيوب وفساد مجتمع سادي وقاسي القلب يتلذذ بتعذيب كائناته، كما يفضح ويعري كل فكري متصلب جامد ومتشدد في رأيه وقناعاته وانغلاقه داخل أطروحات مصاغة سابقا، حتى أنه لا يقبل الحوار وحتى والتحول من وضع يكرس الثابت الضامن لاستمرارية للعقول التحجر سياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا.
وعليه، نرى أن العنوان تطابق كثيرا مع دلالات القصص الحافلة بالنقود لكل خشونة وانغلاق حد تقشير ه ولدغه، وموفقاً ومحققاً لأهدافه في كشف وإنارة دلالات النص الأصلية. مع احتفاظه بإيحائية التي هي سر جاذبيته.
في القصة الأولى “فحولة تحت الطلب”، يتحدث السارد الذي تمرغ ما يكفي في البطالة، الحصول على عمل بمساعدة صديقه زغلول نقرأ في ص:
” ثم أردف بعدما مج من سيجارته:
وجدت لك عملا
قلت له حائرا والدهشة تجتاحني:
حقا، ولكن لا أملك ثيابا أنيقة
لا يهم مر علي في الغد باكرا وسأعطيك بذلة أنيقة ” ص14
لكن، العمل الذي سيؤديه السارد ممارسة العهارة من أجل الحصول على أجرة كما لو أنه أجير فحولة:
” نزعت ثيابها الرسمية وارتدت روبا ورديا شفافا فوق ملابسها الداخلية، وتقدمت مني يسبقها وعطرها يسبقها، أنئذ فهمت نوعية عملي، لقد سقت كعاهرة وسأتقاضى ثمن طقطقة السرير وأزيزه في الأخير” ص.
وبذلك، يفجر القاص الأطروحات الأبيسية والتقليدية التي تتغاضى عن عهر الذكور، لأن العهر في أعراف المؤسسة أنثوي، حتى أن القاص يعري سوأة هذه الأبوية التي تُبنى على الخلط بين الوظائف،ولا حديث سوى عن الفحولة الذكورية وعهر الأنثى، بيد أن القاص يوسف كرماح يقلب الآية كي يتحدث عن عهر الذكورة الذي طالما تغاضى عنه المجتمع.
في قصته الثانية والموسومة ب ” فسحة المعراج ” يورطنا السارد في معراجه إلى حياته الأزلية التي تثير الإدهاش لغرقها في مفارقاتها وعجائبيتها ومكاشفاتها، حيث يلتقي السارد في متخيل فراديسه بوجوه مسلمة ” محمد زفزاف، محمد شكري، خير الدين، ناجي العلي، غسان كنفاني ـ وغير مسلمة، نقرأ في ص 27: ” من كان يصدق أن يجد هؤلاء هنا، إنهم سكارى وزناة، بل الأكثر من هذا، أن هناك من كان لا يصوم رمضان والعياذ بالله، وهناك من كان مثليا، أيعقل أن أراهم هنا ؟”، وفي أفق تصعيد هذا النقد للانغلاق والإقصاء والاستفراد، وانتصار السارد للانفتاح وانفتاح كل أبواب الجنة السبعة لكل بروميتيوسي أنى كانت قناعاته واختياراته وعقيدته، يكفي إيمانا أنه احترق كي يضيء هذا العالم ويخدم الإنسان.
كما أن هذه الفسحة من المعراج فتحت كوة أمام السارد ليلتقي بأبيه والتي لن تكون في النهاية سوى نقدا للحرمان الطفولي:” فرحت كثيرا بلقاء أبي، لم اعش معه كثيرا، لقد رحل بدون موعد وأنا ما أزال صغيرا، لقد ارقني رحيله وهزمني فراغه ” ص26.
كما مكنت هذه العجائبية وهذا الجمال التمردي تحقيق مآرب أخرى كتمريره لمجموعة من النقود إلى المشهد الثقافي ” سألني زفزاف عن أحوال الأدب والأدباء، فأخبرته أن الأدب في تدهور، ويوشك على الانهيار مع الغزو المعلوماتي “، وحتى لا يورط قارئة في قصة عدمية لا تتغيا سوى التيئيس، عمد القاص في المقابل إلى قصصية الاعتراف وتثمين الكتابات والاشراقات الشعرية والسردية: “أخبرت زفزاف أن هناك مزجة شباب يشقون بتحد غمار الأدب، في طريق وعر وشائك،” ص.29
وقبل أن يعكر الأطفال هذا الحلم المعراجي إلى المتخيل الأزلي ” اللعنة على أطفال الحي الذين أيقظوني، اللعن على آبائهم الذين تركوهم بلا عناية ولا رقابة واهتمام ” ص 35، يصل إلى معنى القصة وعصارتها ” الجميل في الحياة الأزلية أن كل الناس تتعايش في وئام وحب، بلا حقد ولا حسد ولا ضغينة، لا عجب أن يجالس الشاب حسني المقرئ عبدا لباسط عبدا لصمد، ويحاور محمد شكري فضيلة الشيخ عبدا لحميد كيشك ” ص 34.
ولا ريب أن هذه المفارقات والمرافقات، تحمل في رحمها نقدا بالمرموز لكل العقول المحشوة بسموم التكفير بدل التفكير، والإقصاء والانغلاق بدل الحوار والانفتاح والعض بالنواجد على ” لكم دينكم ولي دين”.
في قصة “ساسة آخر زمان “، تشريح ساخر وكاشف للعقل السياسي المغربي الذي تتحكم في خيوطه كائنات يمثلها في القصة البرلماني ” علال “الحافي من أي ثقافة سياسية شعبية، والعاري حتى من أبجديات القراءة والكتابة:” بعد بضعة شهور لما يدا يتعلم أبجديات القراءة والكتابة، أعجبه الأمر وأحس بنشوة، لأنه بدا يفك شفرات العلامات الطرقية والرسائل وأسماء المقاهي والمطاعم”
وفي سياق تصعيد تقد فساد العقلية السياسية وعهارتها نقرأ: “يعشق العري حد الجنون…. أليس عري عشيقته من هو الذي جعله يدفع لها أجر التعلم وأجر تأشيرة مغادرة الوطن ؟ ” ص 47، ونقرأ أيضا بخصوص هذه المكاشفات المهينة لكرامة الآخر والعالقة بالعقول الخائبة والجامدة:” ودوما يربط ذلك بالبطن، ويؤكد أن الناس من أجل بطونهم يبيعون له أصواتهم في الانتخابات ” ص48
هذه العهارة السياسية المتآمرة والمغرية للضمائر الخائبة،ستفتح شهية السارد كي ينخرط في ألاعيبها وحرامها، ويصبح بدوره رئيس جماعة قروية:” مع الأيام بدأت اشعر اني طفقت اقتحم عالم السياسة من بابها الواسع، واني مسئول عن جماعة قروية وعن آفاق حزبية دون أدري ” ص 49
عنوان قصة ” الحب في زمن العجب ” فيكشف عن نيتها وبواطنها حيث سيتداخل الحب كقيمة سامية بكثير من العجب العجاب:” والقاعدة علمتنا، عندما يتخلف الحب يسود نقيضه، الأخ ينهش أخاه بلا رحمة ولا شفقة”، وقد يصل هذا العجب العجاب درجة تكريه المواطن
أما قصة ” تعرية المكشوف “، تحكي عن كاتب كابد الكثير من اجل إخراج رواية لسوق القراءة لكنه يفاجا بجشع الناشر ومتطلبات السوق:” ثم استرسل في جشع مائع، معبرا عن متطلبات سوق الكتاب، الذي أمسى في حاجة إلى ثلاثة أصناف من الكتب تعنى بالمحظور، الجنس – الدين – السلطة ” ص 64
هذا الشاهد بقدر ما هو شهادة عن واقع حال المقروئية، هو تعرية لعقلية انتهازية تسعى بكل ما أوتيت من أجهزة إلى تعليب الكاتب وتسليعه، ومن ثمة كبح حريته التي تعتبر ملح كتاباته.
وتحكي قصة ” انتظار.. وطابور لا ينتهي “، عن بهجات شاب يتلقى خبر هجرته إلى بوردو عند عمه الذي يشتغل في ضيعة لدى فرنسي مسن، لكن يتدخل سكين الانتظار الذي يكاد يهيمن على الكثير من أحداث القصة، وحتى أنه أوشك أن يخرب هذا الحلم بالهجرة.
انتظار في الوكالة البنكية ” وحده صوت السكرتيرة في الوكالة البنكية يهدئ الأعصاب ” يمكنك أن تعود في المساء، ان المدير خرج وربما سيتغدى ويعود بعد الثانية زوالا ” فلوسك وخدمك وعليك أن تنتظرهم ” ص88
انتظار أمام القنصلية وفي وضعية مهينة ” بالأمس قضى نصف يوم في طابور طويل، تحت أمطار غزيرة، أمام بوابة القنصلية ليسلم ملفه ” ص 89، وانتظار للحصول على شهادة الولادة بداخل طابور طويل، ثم بالمستشفى:” وقبل أمس الأمس لكي يحصل على فحص الصدر الذي يؤدي عليه جباية محترمة، تطلب منه الأمر الصباح بأكمله ليحصل على دوره ” ص90
وتتوالى الانتظارات التي تثقل كاهل القصة، وتساوقا معها يتوالد النقد والسخرية السوداء من كل المؤسسات التي تديرها عقليات ثابتة وغير مسايرة للتحول، بل ومتفننة في صناعة الانتظار بغاية تعذيب المواطن وسلخه رمزيا واغتيال مواطنته وتحويله إلى سيزيف مغربي.
تأتي قصة ” روتين جحيمي ” على شكل بطاقات من سيرة عائلة غارقة في فقر جارح، فالأب الكادح يدخن ويشرب، مياوم، لعب الورق تحت شجرة الكلبتوس، أحيانا ” تدوخ له الحلوفة”، وأحيانا ينخرط في تبكيت ضميره بسخرية لاذعة:” أنا الحمار الذي لم ادرس، فأقراني الآن يعيشون في هماء وسكينة “
الدجاجة السمينة زوج الأب الكادح، شكلها متداخل، رائحتها عطنة، أكولة، ماكينة للجنس، ولودة وتأكل لحم جيرانها ” تنام كثيرا وتبلع كثيرا ” ص 101، ” كما لا تعرف غير واجبات العش، والتجمعات الغائلة والتجسسية ” ص 102
الفتى الحشاش لص، حشاش، مسخوط والده الكادح، لم يكمل دراسته لأنه اكتشف عبثية هذا العصر:” لم يكمل دراسته ولم يشجعه أحد على مواصلتها، لأنهم يشاهدون مصير حاملي الشواهد في التلفاز وفي نواصي الدروب كيف يتشمسون ويتلقون الهراوات على رؤوسهم، وخيرا ما فعل ” ص104
ثم مختصرات عن فتاة العائلة المكدحة البائرة والفاشلة في دراستها لأنها دخلت في اضطرابات نفسية ” أدخلتها في عزلة مرضية خلفت اضطرابات نفسية ناسفة ” ص107
وختاما، تبوح القصة أن كل هذه الشخصيات العائلية تتشارك في القهر والبؤس والأحلام المحبطة ” يحسون كلهم بالخزي والألم واليأس” ص107
هذه البطاقات لشخصيات قصة ” روتين جحيمي “، ليست بطاقات تعريفية لأوضاع عائلة ينهشها أفرادها الفقر والخصاصة وانتهى الأمر، بل هي إزاحة اللثام عنها وتكبيرها لتصل كما هي مكشوفة وعارية دون تزويق ولا حتى مساحيق قصصية موغلة في حجب ما يحدث من بؤس اجتماعي مستفز وحارق كالجحيم.
تحفل قصص ” نقد العقل المتحجر بمجموعة من التقنيات الفنية والجمالية، حولتها إلى ما يشبه قبعات السحرة، ومن بين هذه التقنيات الجمالية:
تركيز القاص على تنويع مسار لغته القصصية بين اللغة الفصحى -المتعالية و اللغة الدارجة نقرأ:”اتركي ذلك الجمل راقدا، فلو اطلعت على حالي، ولو حدثك عن ويلاتي لانقبض قلبك” ص17 ونقرأ أيضا:” الله يرضي عليك يا ابني، انقل لي الفيلم،من الانترنت إلى الشاشة لأتابعه ” ص33، هذا التفصيح ليس مجانيا، بل من شأنه إدهاش المتلقي، وضخ روافد جديدة تسهم في تثوير وعي القارئ.
-
الجرأة في استعمال معجم متدفق بألفاظ عارية تستفز التلقي الخجول، لكته تدفق يساهم في السخرية من هذا الواقع الذي تخجل عيوبه أكثر مما تستفز اللغة.
-
انفتاح قصص المجموعة على حقول ثقافية ومعرفية ” الأدب، الفلسفة، الموسيقى…”، مما يؤكد أن قصص المجموعة تتكئ على خلفية ثقافية ومعرفية متنوعة، تتصيد القارئ بتكسيرها لرتابة التلقي المألوف.
-
احتفاء المجموعة بالسخرية السوداء التي لها رهاناتها، سخرية تتغيا النقد اللاسع الذي يتجاوز المتعة والتهكم والسخرية لأجل الفرجة.
-
سقوط بعض المشاهد النصية في أسلوب المقالة الاجتماعية أحيانا، والسياسية أحيانا أخرى، بيد أنه ليس انزلاقا ولا في متاهات الحكي، بل دخولا بالقصة إلى ورشة التجريب، نقرأ في افتتاحية المجموعة والموسومة ب” كلمة “: ” كما حاولت أيضا – القصص – أيضا امتطاء وتلجم نوعا جديدا من الكتابة التي لا يستطيع القارئ أن يفرق فيها بين القصة والمقالة،
وصفوة القول، توالت قصص ” نقد العقل المتحجر، وتوالدت معها النقود تساوقا، ليكتب يوسف كرماح قصة ساخرة من العيوب، عارية وتعري، كافرة ومتمردة، كافرة لا يعنيها سوى قناعاتها واختياراتها، كما لا يعنيها سوى أن تحلم بقصة تجريبية وحالمة بواقع متحول ومتجدد، وبطريقتها الخاصة، لتنضاف عنوانا إلى المشهد القصصي المغربي الحافل بأسماء واعدة وتكتب لتصرخ ولتحتج، وتعري المكشوف واللامكشوف.