محمدالعياشي
يمثل الشعر في الأطلس المتوسط متنفسا كبيرا عند الأمازيغ بالمغرب، كان إلى عهد قريب مقترنا بكل شيء في حياتهم، ما من عمل يقومون به إلا وكان الشعر مِعوانا لهم فيه .
فتنوع الشعر لذلك فهناك “أهلّلْ” يؤدى في الطحن بالأرحاء. وهناك “ثماويث” التي ارتبطت مؤخرا بالأغنية. وهناك “أفراذي” أي أبيات منفردة يلقيها الشاعر في “احيدوس” عادة ما يغلب عليها الهجاء والفخر. وشعر الأغنية الذي ينظم ليغنى وأشعار تؤدي في الحصاد والدرس… وأخيرا شعر القصيد. وهكذا فالإنسان هاهنا كان مرتبطا بالشعر. ارتباطا وثيقا. ويتميز الشعر عندهم بالتغني على مستوى الإلقاء. لهذه الضروب الشعرية التي ذكرت خصوصيات على مستوى الأغراض والفنيات سوف أتطرق لها متي سنحت الفرصة.
والمشكل الذي يعانيه الشعر هنا هو أنه شفوي جدا كما كان عند العرب قديما قبل الكتابة والأشعار التي لم تسجل في الأشرطة مهددة بالضياع خاصة مع تراجع الأمازيغية الفصيحة وموت الرواة. مع أنه مر شعراء لهم قدرات شعرية فائقة قوة عارضة وشدة شكيمة.
وهناك شعراء اليوم على الطريقة القديمة إلا أن الشعر تراجع عموما مع تراجع اللغة الأمازيغية عما كانت عليه من قبل. والسبب الثاني أن الشاعر يعتبر الشعر مهنة ولأنها لم تعد تدر أموالا كما في السابق يتخلى عنه رويدا رويدا.
هذه بعض اللمحات الموجزة عن الشعر عموما في منطقة “مريرت-خنيفرة” أتمنى أن أوفق في نقل المهتم إلى بعض أجزائها.
الغناء والشعر
يسمي الأمازيغ هنا الأغنية ب”إزلي” وحين نفحص اشتقاقها نجد أنه من الضلال والهيام وما إلى ذلك لأنا نقول إزْلايي بمعنى ضللني وتوّهني إلى غير ذلك لنعرف مدى تأثير الأغنية في نفوسهم.
يتميز الشعر المغنى بقلة الأبيات غالبا قد لا تتجاوز 8 أبيات أو أقل وباعتماد لازمة موحدة ويكون النص الشعري المعد للغناء عبارة عن شذرات متنوعة وتغلب عليها ثيمة الحب وتتميز بعمقها الفتّاك الذي يأخذ بالألباب خاصة عند القدامى كما هو معروف عند أساطين الأغنية المتوسطية كالعميد “حمو اليزيد” و”بناصر أوخويا” و”محمد مغني”… إلى غيرهم.
والشعر المغنى عندهم أي الذي غناه المغنون وانتشر غالبا ليس ملك أحد وليس لأحد أن يدعيه وإنما هو ملك أمة يتوارثه جيل عن جيل. وهذا النوع من الشعر حظه أفضل من غيره لأنه محفوظ في الأشرطة ومحفوظ عند الناس و يردد دائما.
أحيدوس والشعر
لرقصة أحيدوس عند أمازيغ الأطلس المتوسط مكانة خاصة فهي إلى كونها تسلية وترفيها … فهي أدب وفن بامتياز. تمارس رقصة أحيدوس في أغلب الأحيان في الأعراس ولها طقوسها الداعية إليها وليس هذا مقام التحدث في ذلك إنما أحاول أن أتحدث عن الجانب الشعري في هذه الرقصة .
عندما يقبل الليل يجتمع شباب القبيلة من كل صوب وحدب فكلهم مدعوون حتى وإن لم يبلغهم الرسول، تبدأ الرقصة بشكل دائري على إيقاعات سريعة صاخبة لا كما يصورها الإعلام الرسمي ولا تنجح إلا بوجود العنصر النسوي فحين ذاك تكتمل الصورة الخلابة بحيث ترى الأجساد تمر أمامك بشكل منظم لافت على نقرات الدفوف المؤثرة جدا، فيصبح هناك ما يشبه مهرجانا حين يجتمع الناس وتكثر الحشود من كل طبقات المجتمع إذ ذاك يباغتك “الميسترو” بتوقيف الراقصين ويأمر شاعرين لينشدا بيتا ويتفضلا في مكانهما وينشدان فيستأنف الراقصون رقصهم بمجرد الانتهاء وبعد قليل أو كثير من الوقت يتطوع اثنان آخران للرد عليهما وهكذا دواليك إلى مطلع الفجر وتتنوع الأغراض من غزل وزهد وفخر وهجاء أحيانا ويسمر الناس ويحتفلون إلى الليلة الموالية. وتتخلل هذه الليلة كل ما يخطر على البال من مرح من تلاق العشاق من ثرثارين وأبناء العائلة الواحدة الذين لم يتلاقوا منذ زمن… هناك من يقطع المسافات الطويلة لأجل الحضور إلى أحيدوس ولا يرقص ولا يعترض عشيقة إنما ليجلس في زاوية بحيث يراقب أحيدوس ويدخن على إيقاعها أحسن السجاير وذلك حسبه…
حين احتدم الهجاء بين الشعراء أنشد أحدهمْ:
مَنِ أونّتنزل أذسحظر أّذايكا ث
غاس إيحْقّا كيرسْنْسْ أولقّيمْ لاتتحراص.
(أين ألذي استفزّها حتى هاجت إلى اللسع
ما إن تأكد من لسانها حتى فر بعيدا)
يقصد أنه هيج عليه شاعرا كبيرا حين رآه فر بعيدا…
وقال شاعر آخر:
ألكلاّن الرّْمى أيتون إكاذر عاري
أو ثكا إشنساعت لنسن ناك نسوفا
(حين كثُر القناصون غادرت الطيور الكبيرة الغابة
لقد مر زمان كانت تبيت في أعلى الأشجار.)
هذان نموذجان من أفراذي وهي تلقى على أوزان ناغمة بأصوات شجية مما يزيد من تأثيرها على المتفرجين والعجائز جالسات ينصتن ويتفاءلن أو يتشاءمن بتآويل تلك الأبيات…
القصيد:
كما ذكرنا. هناك أنواع شعرية عند الأمازيع كما هو الشأن عند العرب القدامى مع فرق كبير مثلا هناك: القصيد، الرجز، الموشح…
القصيد هو “ثملغزذ” أو “ثيفارث” ونلاحظ في التسمية الأولى أنها مشتقة من الرجل والرجولة والثانية مشتقة من الأقفال والقيود ومن هنا نعرف مغزى أو خلفية القصيدة عندهم فهي من الرجولة ومقيدة أي موزونه. وتعتمد عندهم على الغناء أداءً. ولهم ما يمكن أن نسميه بحورا فيها وهي محدودة أي يمكن إحصاؤها ولكنها تختلف في الأداء على مستوى الغناء حسب اللحن المؤدى به. هناك البحور السريعة الراقصة التي يناسبها من الأغراض اللعب والمزاح وهناك البحور المتوسطة التي تصلح للجد وغيره وهناك البحور التي لا تصلح إلا للجد. والشاعر عند الأمازيغ لابد أن يمتلك ملكات صوتية تساعده على ضبط البحر غناء كما هو المقام الموسيقي .
ونلاحظ إنها: القصيدة عندهم تأثرت بالدين أكثر ما تأثر العرب أنفسهم إلى درجة أن الشاعر لابد أن يبدأ بالحمدلة والبسملة بطريقة أو بأخرى وإلا فهو شاعر ساقط والشعراء الذين تمردوا على هذا المطلع قليلون جدا. المقدمة الدينية عند الأمازيغ في الأطلس كالمقدمة الطللية عند العرب القدامى.
والشاعر الأمازيغي عندنا بلغ في القصيد الديني وأنا متتبع للشعر العربي جيدا منذ الجاهلية ما لم يبلغه الشاعر العربي في وصف الموت والقدرة الإلهية والحشر وما إلى ذلك مما أثر في الإنسان الأمازيغي فأصبح متدينا جدا.وإن لم يظهر ذلك على بعضهم أحيانا ولديهم هنا شعراء كبار عاشوا للشعر بمعنى الكلمة
وكانوا يكونون فرقا للتكسب بالشعر تكون من ثلاثة أفراد أو أربعة ويتجولون بين القبائل ويقصدون الأعيان هذا إلى عهد قريب جدا كان منتشرا .
وواكبوا الشأن الوطني والعربي أكثر من الشاعر العربي في المغرب. فمثلا الحرب التي خاضها المغرب في الجنوب في سبعينيات ق الماضي وثمانيناته لا أعتقد أنها أسالت حبرا من شاعر عربي كما تناولها الأمازيغ بشكل كبير لأنهم كانوا جنودا وقاسوا من لظاها وكانوا آباءً فقدوا فلذات أكبادهم هناك…
وهناك قصائد رائعة قيلت إبان هذه الحرب قالها جنود ووصفوا المعارك والمعاناة الإنسانية …
فالشاعر الأمازيغي أكثر ارتباطا بمحيطه في قصائده .. .وهذا رأيناه يتناقص كما ذكرت آنفا بسبب تراجع الأمازيغية وتمدن الناس لأن هذا الشعر مرتبط كثيرا بتلك الحياة القديمة بصفاء النفوس ونقائها وإتقان اللغة ونوعية الحياة والآن نرى زحف الشعر الحديث كما قلت مع تراجع اللغة وتلاشي تلك التقاليد الفنية.