د. بليغ حمدي إسماعيل
مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية
قسم المناهج وطرق التدريس ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا
يظل التصوف الإسلامي أبرز مظاهر التاريخ الإسلامي بعد ظاهرة تحول الخلافة الإسلامية الراشدية إلى ملك عضوض ، وهذه الظاهرة التاريخية لا يمكن إنكارها أو بالأحرى تجاهلها لاسيما في ظل ثورة النصوص والسير التي وردت عن هؤلاء الصوفية أو أقطاب التصوف وما تزامن معها من أحداث سياسية مضطرمة . ليس فقط بل إن ثراء النصوص الصوفية نفسها هو ما أكسبها مزيتين مهمتين ؛ الأولى الانتشار التاريخي لسير أصحاب هذه النصوص وذيوع أخبارهم ، والثانية مزية البقاء وشيوعية التداول لها بحيث صارت متداولة على ألسنة العامة قبل المتخصصين والمريدين والأقطاب أيضا .
وما من مؤرخ أو مستشرق يقترب من تاريخ الإسلام إلا ويجد نفسه مضطرا لتناول ظاهرة التصوف الإسلامي بوصفها الظاهرة الأكثر انتشارا وبقاء من ناحية ، وبأنها الملمح الإسلامي الذي لم يندثر بخلاف ظاهرتي الخلافة والملك اللتين وجدتا عقب وفاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وبقيتا بصورة لا تتناسب مع أعداد الأقطار الإسلامية والعربية .
التَّصَوُّفُ ظَاهِرَةٌ عَالَمِيَّةٌ :
وربما تأتي ظاهرة التصوف سابقة على ظاهرة العولمة التي راجت وشاعت في نهايات القرن العشرين بقرون بعيدة بسبب قدرة التصوف الإسلامي على الانفتاح على شتى التيارات الفكرية والروحية والفلسفية والإفادة منها والتأثير فيها ، فضلا عن أن التصوف الإسلامي انفرد عن بقية الظواهر الإنسانية المرتبطة بالدين أنه تمكن من تحقيق فكرة الحوار الديني بامتياز ، ولاشك أن التصوف الإسلامي استطاع أن يحقق هذه الفضيلة الاجتماعية بحكم الإسلام وثوابته المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة .
واتخذ التصوف الإسلامي ملامح جديدة ومغايرة للقرون السابقة ، فأصبح للتصوف بُعدٌ نظري واضح وعميق عما كان عليه من قبل ، وفي هذا يشير مؤرخو التصوف أنه انفتح ـ التصوف الإسلامي ـ على تجارب ثقافية ومعرفية متميزة ومتباينة أيضاً ، فتأثر بكثير من التيارات الفكرية والدينية المنتشرة في ذلك الزمان ، ولقد تأثر التصوف الإسلامي جد التأثر في هذا القرن بالتيارات الإيرانية الدينية لاسيما التي عرفت بحكمة الإشراق . ولا شك أن هذه التيارات المختلفة استطاعت أن تكسب التجربة الصوفية المعرفية أنماطاً معرفية جديدة وعمقاً وسعة وشمولية في التفكير لم يعرفها من قبل على حد توصيف المستشرقين بذلك . وفي هذا القرن وجدنا التصوف الإسلامي يطلق العنان لتجاربه والتي تجسدت في ميادين أخرى غير التأليف النثري وبيان الأحوال والمقامات.
ولذلك يؤكد المستشرق المتميز جوزيبي سكاتولين أن التصوف الإسلامي لا يأتي يتيما في تاريخ البشر ، إنما يأتي في انسجام واسع وتناغم عجيب مع التيارات الروحية الدينية الأخرى . ولعل ما جعل التصوف الإسلامي ظاهرة متفردة أنه جاء مقترنا بالتساؤل وثقافة الأسئلة ، كون السؤال بوابة رئيسة للمعرفة وأن أسرار الكون لا يمكن سبرها إلا عن طريق سؤال واعٍ يحتاج إلى إجابات متعددة تقبل التأويل .
ولعل أسرع طريقة لتحقيق غاية العلم وهي المعرفة طرح الأسئلة المباغتة التي تظل قابعة في الذهن بغير حراك لكن المرء على غوايته القديمة يأبى طوعاً تارة وكرهاً تارة أخرى في الدفع بها إلى الشهود والحضور ، لذا فمن الأحرى مباغتتك أنت بأسئلة الدهشة . ماذا ستسطر في صفحتك الشخصية بكتاب التاريخ عن واقعك الإنساني الذي عاصرته ؟ وكيف ستوصِّف ملامح الجيل الزمني الذي تنتمي إليه ؟ وأخيراً هل أتاك حديث الحكمة ؟ .
وبكثرة الأسئلة تستطيع أن تصل إلى يقين المعرفة ، فحينما سئل عبد الله بن عباس : بأنى أصبت هذا العلم ؟ قال : ” بلسان سئول وقلب عقول ” ، وقد لا يعي كثيرون أن هناك ما يسمى بمقام اليقين ، وهو مقام العابد الذي يفكر بعقل سديد مستنير خالٍ من هوس فتنة الدنيا ، وبطش شواغلها الفانية ، وهذا اليقين هو المقام الذي ينتقل بك سريعاً من حال الشك المتولد من طرق الأسئلة إلى برهان المعرفة الذي يتحقق عن طريق الثقة في الله وبالله التي لا يعتريها شك أو ظن سلبي ، ثقة مفادها اطمئنان القلب مع الله ، وهكذا كان حال الأنبياء والرسل مع الله تبارك وتعالى .
وأكاد أجزم أنه لم تتح فرصة لأية نظرية فلسفية أو طرح ديني روحي للانتشار والتداول والتناول الشعبي بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقدر ما أتيحت لنصوص الصوفية وأخبارهم وأقوالهم وطروحاتهم المتعلقة بالله والإنسان والطبيعة .
وجدير بالذكر الإشارة إلى ملمح استثنائي في تجربة التصوف الإسلامي ، هذا الملمح هو التوازي الفريد بين الفكرة والوجدان ، وقلما نجد حركات دينية تجمع بين الأمرين دون أن يطغى جانب على آخر ، إلا أننا نجد التصوف يستطيع أن يقيم علاقة مستقرة بين حالات الوجدان التي غالباً لا تتسم بالاستقرار وبين الفكرة التي عادة ما تتحول إلى رؤى وأيديولوجية ، ولعل هذا التوافق يتحقق جلياً حينما ينبذ المرء الجدل ولا يقرع أبوابه مكتفياً فقط بباب العمل والاجتهاد والتدبر ، والصوفي العراقي معروف الكرخي أشار إلى هذا بقوله : ” إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عليه باب العمل ، وأغلق عنه باب الجدل ، وإذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل ، وفتح عليه باب الجدل ” . وهذا القول يمثل بلا شك رفض الصوفية لنزعات الكلام واللغو واللغط و فوضى الجدال.
التَّصَوُّفُ الإسْلامِيُّ .. كُنْهُ الحَقِيْقَةِ :
والتصوف في مجمله تجربة ذاتية استثنائية لا تتكرر أو تتشابه ، وهذه التجربة تعتمد على القلب والبصيرة النافذة أو الحدس باختصار ، وها هو أبو حامد الغزالي حجة الإسلام يعطي للقلب والحدس أهمية كبيرة في تحقيق المعرفة الصوفية ، وشبه الغزالي المعرفة الصوفية بالحوض ، وهذا الحوض يمكن أن يأتيه الماء من على سطحه بواسطة الأنهار والأمطار وفي هذه الحالة لا يكون نقيا ، وقد نسعى إلى حفر أعماق هذا الحوض ( البئر ) حتى نصل إلى الماء الصافي الموجود في عمق هذا البئر ، عندئذ يكون الماء صافياً نقياً .
وحديث الحال والمقام يطول ، فالحال باختصار شديد هو معنى يرد على القلب من غير تعمد من الصوفية ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم ، من طرب وحزن أو قبض أو شوق أو انزعاج ، فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب ، والأحوال كما يشير فيصل عون تأتي من عين الوجود ، والمقامات تحصل ببذل المجهود ، وصاحب المقام ممكن في مقامه وصاحب الحال مترق عن حاله . والقاشاني يقول عن الأحوال : ” إن الأحوال هي المواهب الفائضة على العبد من ربه ، إما واردة عليه ميراثاً للعمل الصالح المزكي للنفس ، المصفى للقلب ، وإما نازلة من الحق امتناناً محضاً ، وإنما سميت أحوالاً لتحول العبد بها من الرسوم الخلقية ودركات البعد إلى الصفات الحقِّيَّةِ ودرجات القرب .
والصوفية كما يرى حجة الإسلام أبو حامد الغزالي هم السالكون لطريق الله خاصة ، ويحدد أبو حامد الغزالي معالم طريق الصوفية بقوله ” أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى ، ومفتاحها استغراق القلب بالكلية بذكر الله ، وآخرها الفناء بالكلية في الله .
الدَّاراني أنْمُوذَجًا للتَّصَوُّفِ الرَّائِقِ:
اعتاد مؤرخو التصوف الإسلامي على اقتناص الحديث عن أقطاب بعينهم للتصوف الإسلامي من أمثال المحاسبي وابن الفارض ومحي الدين بن عربي والسهروردي والحلاج ، ويكاد كثيرون يغفلون سيرة ونصوص العشرات من المتصوفة الأوائل الذين استطاعوا أن يحولوا مرحلة الزهد إلى التصوف من مثل أبي الدرداء ، والفضيل بن عياض ، وشقيق البلخي ، ومعروف الكرخي ، وأخيرا أبي سليمان الداراني .
والداراني هو عبد الرحمن بن عطية من أهل داريا وهي قرية من قرى دمشق ، ومن اسمها لقب بالداراني ، كما لقب أيضا بريحان القلوب ، وسبب التسمية غاية لطفه ورقته . وأبو سليمان الداراني اجتهد في التبتل اجتهادا شاقا حتى أن معاصريه لقبوه بندار الجائعين .
والداراني من أوائل الصوفية الذين اهتموا بالمعرفة ، ذلك المبحث الصوفي الذي استقر على يد سلطان العارفين محي الدين بن عربي ، والجانب العقلي في التصوف لا يقتصر بالبدهي على عالم المحسوسات وهو الملمح الأكثر شيوعاً عند فلاسفة اليونان ورجال المنطق الأرسطي خاصة ، لكن عمل العقل لدى الصوفيين هو حراك ديدني لا يتوقف في الأمور الباطنية الروحية التي تصل بهم أو تساعدهم في الوصول إلى يقين للمعرفة ، والمعرفة عندهم هو شهود للذوق والوجدان ، وفي ظل الحديث عن العقل في التصوف الإسلامي نجد سجالاً واضحاً ومساجلات تزخر بها الكتب التي تناولت عن التصوف والتي تتحدث عن المعرفة وهي تتأرجح بين القلب والعقل ، حتى خلصوا جميعاً إلى نتيجة مفادها أن القلب اسم جامع يتضمن العقل وعمله وتدبره وأن القلب لطيفة ربانية غير مادية يدرك بها الإنسان الحقيقة الوجودية ، وميز الصوفيون وهم بصدد تناول طرائق القلب والعقل في الوصول إلى المعرفة واليقين حينما سموا إدراك العقل علماً وإدراك القلب معرفة وذوقاً وأطلقوا على صاحب الطريق الأول عالماً ، بينما أطلقوا على صاحب الطريق الآخر عارفاً.
أما أبو سليمان الداراني فالمعرفة لديه تعني نور القلب أو يعرف حديثا بعد اجتهاد المدارس والمناهج النقدية بالعرفانية . ويرى الداراني أن المعرفة درجة روحية أعلى من التصوف ذاته ، ويعد الداراني أسبق من ابن رشد الفيلسوف والقاضي الأندلسي في الربط بين الحقيقة والشريعة ، فهو يشدد على أنه لا يقبل من الأمور إلا إذا جاءت متفقة مع الكتاب والسنة .
والمشكلة المطروحة أن ما وصل إلينا من نصوص للداراني قليلة جدا ، وتعد عبارات متناثرة أوردها القطب الصوفي عبد الرحمن السلمي في كتابه الشائق ( طبقات الصوفية ) ، ومنها ما نورده في السطور الآتية :
ـ من أحسن في نهاره كوفئ في ليله ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره ، ومن صدق في ترك شهوة ذهب الله بها من قلبه ، والله أكرم من أن يعذب قلبا بشهوة تركت له .