محمد سعيد
في سنة 2009 نشر الدكتور يوسف زيدان روايته “عزازيل” محاولاً أن يبرز من خلالها الهفوات والإختلالات اللاهوتية للمسيحية وعدم صدقية وأخلاقية كهنتها وقساوستها من خلال النموذج الإسكندري الذي يرجع إلى أواخر القرن الرابع وبداية القرن الخامس (385 – 444 م)،و ذلك في عهد البطريرك الثالث والعشرون ثاوفلوس والبابا كيرلس الملقب بعمود الدين الرابع والعشرون،و قد أتارث هذه الرواية ضجة في الأوساط المسيحية بمصر ولا تزال،فقد جعل موضوعها هو نقد الكنيسة السكندرانية القديمة، وقد سبق ورد على شبهات هذه الرواية القمص عبد المسيح بسيط بالموقع الإلكتروني القبطي “تكلا هيمانوت”. لقد صور يوسف زيدان كنيسة الإسكندرية ب”الكنيسة التي أظلمت العالم” ووصف بطريركها البابا كيرلس ب”القاسي المتجبر غليظ القلب..عجلت الألهة بنهاية أيامه السوداء،لقد جعل المدينة كئيبة كالخراب منذ تولي أمرهم”،ويقول أيضاً في روايته واصفا أصوات كهنة ورهبان كنيسة الإسكندرية من خلال أحدهم ب”فحيح الأفاعي..”،و بأن الكهنة يتكاثرون كالجراد، يملأون البلاد مثل لعنة حلت بالعالم،و بالقساة النهمين الذين يكاد اللحم أن ينفرز من أبدانهم الضخمة النهمة،و أن الدين لا يكون بالنسبة لهم دينا إلا إذا كان يناقض العقل والمنطق، وأن البابا حرض على قتل الفيلسوفة “هيباتيا” إنتقاما منها،و أنه إضطهد اليهود وطردهم من الأسكندرية تجبرا. وجعل الدكتور زيدان الخلاص بالنسبة لبطل روايته الراهب في اللهو وممارسة الجنس مع بائعات الهوى وإلقاء الصليب أرضاً والتخلص من زي الرهبنة ! وأن العودة إلى الجنة المفقودة التي فقدها بعد أن انفتحت عينيه وعرف الشهوة الجنسية تتحقق فقط في العودة لممارسة الجنس الذي يحقق له السعادة والخلود. وزعم أيضاً صاحب رواية “عزازيل” أن الهراطقة هم الذين كانوا على صواب وأن أتباع كنيسة الإسكندرية والمنتسبين لها هم الهراطقة ! كما صور هؤلاء المظهدين حسب زعمه كأبطال،و الذين كانوا يمثلون الخير والحب والجمال،في حين صور كنيسة الإسكندرية ورجالها بالأشرار وممثلو الشر في العالم،و نادى بنظرية غريبة لم يقلها أحد من الباحثين من قبله،و هي نظرية اللاهوت العربي،و التي تقول أن الهراطقة من أمثال “أريوس” و”نسطور” و”بولس السموساطي” كانوا عرباً،و أن لاهوتهم كان أقرب للاهوت الإسلامي،و جعلهم كمسلمين قبل الإسلام ومتحدثين بالقرأن قبل القرأن ! بل وقال بأن علم الكلام هو تطور طبيعي لعلم اللاهوت المسيحي العربي. وبالرغم من زعمه أن ما كتبه هو مجرد رواية وإبداع فني وليس بحث أكاديمي،إلا أنه في كل أحاديثه وحواراته الصحفية ولقاءاته التلفزية أو في منبر ما،يقول أن ما جاء في الرواية هو حقيقي،سواء الأحداث أو الوقائع أو الشخصيات باستثناء شخصية هيبا بطل الرواية التي رسمها من مخياله،و في مرات أخرى يقول أنها حقيقية. يرى الدكتور يوسف زيدان أيضاً بأن “عزازيل هو الشيطان وأن الإنسان هو الذي إخترعه..” ليبرر به الشرور والخطايا التي يفعلها ! وأن الله هو نقيض عزازيل وأن الإنسان الذي خلق شخصية عزازيل خلق شخصية الله،الذي وصفه بالمألوه،ليبرر به وجوده والخير الذي فيه. والسؤال الأن هو – هل إدعاء يوسف زيدان صحيح ؟ وهل ما كتبه في روايته يدل على معرفة كافية بالتاريخ ؟ أم يدل على جهل بالتاريخ ؟ أو يدل على أنه يزور التاريخ ؟ إن رواية “عزازيل” تبدأ بخدعة من الكاتب يزعم فيها أنه إكتشف مخطوطات سريانية كتبها راهب مصري عاش في دير سرياني في القرن الخامس الميلادي،و أنه قام بترجمتها ونشرها إلى العربية (ص 9)،علما بأنه لا يعرف اللغة السريانية إلا شكلاً،فهو ليس من المتخصصين حتى يترجم منها حسب ما قاله القمص المصري عبد المسيح بسيط في رده على هذه الرواية ومثقفين وباحثين عديدين من مصر،ففي مقدمة المترجم (ص 9 – 13) يقدم المؤلف “هيبا الكاهن” كراهبُ مصري دون سيرة عجيبة وتاريخ غير مقصود لوقائع حياته القلقة،لكن المؤلف لا يعطينا مصدرا لهذه التدوينات،سوى إشارة للأب الجليلي “وليم كازاري” الذي إدعى أنه تكلم عن ما دونه “هيبا” قبل وفاته في ماي (1997)،و يسترسل في هذه المقدمة أن هناك راهُب نسطوري عربي كتب حواشي حول هذه المخطوطات والرقائق المنسوبة ل”هيبا” الراهبُ،دون أن يشير لإسم هذا الراهب النسطوري،مدعيا أنه لم يشأ أن يصرح بإسمه على هاته الحواشي. ويدور محور الرواية كما سنرى على ثلاثة محاور رئيسية هي : – كنيسة الإسكندرية. – الراهب هيبا – الفيلسوفة هيباتيا. لقد كتب يوسف زيدان أصلاً هاته الرواية لتشويه صورة الكنيسة الأسكندرانية بمصر القديمة،و وصفها بالقسوة والتخلف والظلامية،إذ قال الكاتب أنها “الكنيسة التي أظلمت العالم” كما قلنا في بداية هذه الدراسة،و على رأسها ثاوفيلوس البطريرك الثالث والعشرون (385 – 412 م) والبابا كيرلس المقب بعمود الدين البطريرك الرابع والعشرون (412 – 444 م)،من سلسلة بطاركة الإسكندرية،و الذي وصفهما ب”ثاوفيلوس المهووس وخليفته الأشد هوسا كيرلس”،كما صور رهبانها ورجال الدين فيها ب”الجراد يأكلون كل ما هو يانع في المدينة،و يملئون الحياة كأبة..”. لقد وصف زيدان عدة مرات الأناجيل الأبوكريفية ب”الأناجيل المحرمة” والتي زعم أنها كانت مع نسطور وراهبه المزعوم (هيبا)،و أن نسطور كان يتفاخر بوجودها معه،في حين أن نسطور لم يستخدمها ولم يشر إليها مطلقا لأنها كتب منحولة. يقول يوسف زيدان في حديثه عن المخطوطات بمقدمة روايته “و قد إجتهدتُ في التعرًُف إلى أية معلومات عن المؤًَلف الأصلي،الراهب هيبا المصري،إضافةْ لما رواه هو عن نفسه في روايته،فلم أجد له أيً خبر في المصادر التاريخية القديمة،و من ثم،فقد خَلَت المراجع الحديثة من أيً ذكر له،فكأنه لم يوجد أصلاً،أو هو موجودُ فقط في هذه (السيرة) التي بين أيدينا،مع أنني تأكًَدتُ بعد بحوث مطوًَلة من صحة كُلًَ الشخصيات الكنسية،و دقًَة كل الوقائع التاريخية التي أوردها في مخطوطاته البديعة هذه،التي كتبها بخطًه الأنيق المنمًَق من دون إسراف في زخرفة الكلمات،و هو ما تُغري به الكتابة السريانية القديمة (الأسطرنجيلية) الزخرفية بطبعها. وقد مكًَنني وضوحُ الخطًَ في معظم المواضع من قراءة النص بيسر،و بالتالي ترجمته إلى العربية دون قلق الأصل واضطرابه،مثلما هو الحال في معظم الكتابات التي وصلتنا من هذه الفترة المبكرة…و لا يفوتني هنا أن أشكرَ العلاًَمة الجليل،كبير الرهبان بدير السريان بقبرص،لما أبداه من ملاحظات مهمة على ترجمتي،و تصويبات لبعض التعبيرات الكنسية القديمة التي لم تكن لي ألفة بها. ولست واثقاً من أن ترجمتي هذه إلى العربية،قد نجحتْ في مماثلة لغة النص السرياني بهاءً ورونقاً،فبالإضافة إلى أن السريانية كانت تمتاز منذ هذا الوقت المبكر بوفرة أدابها وتطور أساليب الكتابة بها،فإن لغة الراهب هيبا وتعبيراته،تعدًُ أية من أيات البيان والبلاغة،و لطالما أمضيتُ الليالي الطوال في التأمًُل في تعبيراته الرهيفة،البليغة،و اتلصورالإبداعية التي تتوالى في عباراته،مؤكًَدةًَ شاعريته وحساسيته اللغوية،و إحاطته بأسرار اللغة السريانية التي كتب بها”. ويختم مقدمته الطويلة هذه بكلمة “المترجم – الإسكندرية في 4 أبريل 2004” ! ليزيد يوسف زيدان في خذاع القاريء ويجعله يظن أنه بالفعل أمام مخطوطات حقيقية ! وللأسف فقد كاد المؤلف أن ينجح في ذلك،إلا أن القمص عبد المسيح يرد عليه في كتاب متين مفنذا هذه الإدعاءات التي أتى بها في روايته “عزازيل” ورد عليه كذلك في برنامج تلفزيوني بعنوان “العاشرة مساءا” بقناة دريم وفي كتابات عديدة بالمجلات والجرائد المصرية خصوصاً روز اليوسف،و هناك العديد من المقالات والدراسات لباحثين تفنذ أطروحة يوسف زيدان في روايته مثلاً حول :اللاهوت العربي” موجودة بالنت
عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية