في اليوم الموالي لوفاة أمه ( وقد توفيت في 25 أكتوبر 1977) بدأ بارت بكتابة يوميات الحداد وكان يكتبها على قصاصات صغيرة من الورق
يكتبها وكأنه يقول لنفسه: تذكر جيدا أن هذه المرأة كانت هنا وقد سجلت مرورها في هذا العالم
يوميات الحداد إذن هو هذا الأثر التاريخي الذي يخلد به بارت أمه، يخلد به صوتها، ورقتها، وجانبها الخاص والمطلق، يكتبها أيضا و كأنه يقول لنفسه: تذكر جيدا كل ذلك لأن دورك سوف يأتي لا محالة وستموت أنت أيضا
بهذه اليوميات، يحفظ بارت آثار الأم حتى لا يصبح موته كـ»ابن» موتا ثانيا لها،
وهذه ترجمة بسيطة لي لبعض المقاطع من هذه اليوميات التي نشرت بعد وفاته في 2009
29 أكتوبر 1977
تنتابني فكرة مرعبة (ولكنها ليست مؤسفة) بأن أمي لم تكن كل شيء بالنسبة لي وإلا لما كنت قد كتبت كل ما كتبته إلى حد الآن، فقد لاحظت أنه ومنذ أن بدأت أعالجها وأهتم بها في مرضها أي منذ حوالي الستة أشهر أنها أصبحت كل شيء في حياتي ونسيت معها حتى مسألة أنني كنت كاتبا يوما ما. خلال هذه الأشهر.لم أكن أي شيء خارجها، كنت كلي وبشغف لها وحدها وقد لاحظت أيضا أن أمي قبل الآن، قبل مرضها كانت تتعمد أن تكون مخلوقا شفافا لا يكاد يرى حتى أتمكن أنا من الكتابة
29 أكتوبر
أمر غريب هذا الذي انتابني فجأة فلم أعد أسمع لا صوتها الذي أعرفه جيدا – الصوت الذي نقول عنه عادة أنه بذرة التذكر- ولا «نبرتها الغالية». أصبح هذا الصوت مثل صمم محلي
29 أكتوبر
في الجملة التي يرددها لي الجميع: «هذا أريح لها فهي الآن لم تعد تتألم» إلى ماذا تشير هذه ال «هي»، إلى من؟ و ماذا يعني هذا الزمن الحاضر هنا هذا «المضارع»؟
6 نوفمبر
بالأمس فهمت أشياء كثيرة ومن خلال بعض الأمور غير المهمة، التي تتعلق بما لا يزال يحركني ( مثل الاستقرار، والشقة المريحة، وثرثرة مع أصدقاء أو ضحك معهم بعض الأحيان، وبعض المشاريع أيضا… الخ)، فهمت أن حدادي هو حداد علاقة الحب ولا يخص بتاتا أي نظام حياتي، حداد يأتيني من كلمات الحب التي تنبثق وتدور في رأسي.
15 نوفمبر 1977
هناك وقت يكون فيه الموت حدثا، يكون شيئا طارئا، ولهذا فهو في هذه الفترة يستفز، يثير الاهتمام ويحرك ويرعب أيضا ثم يأتي يوم يكف فيه هذا الموت عن أن يكون حدثا فيصبح وقتا آخر، وقتا غير مهم، وقتا مضغوطا وغير قابل للسرد، وقتا كئيبا وبدون أية جاذبية وهذا هو الحداد الحقيقي الذي يجهل كل ديالكتية سردية
12 أبريل 1977
الكتابة من أجل التذكر؟لا، أنا لا أكتب لأتذكر ولكنني أكتب لأصارع النسيان الذي يعلن عن نفسه ويأتي دائما بصفة مطلقة
أكتب لأصارع مسبقا الجملة التي ستأتي وتقول «لم يبق منها أي أثر في أي مكان» من هذا الصراع أدرك جيدا ضرورة تشييد الآثار التاريخية.
18 فبراير 1978
الحداد؟: تعلمت أنه ثابت وعرضي وأنه لا يتقادم أو يستهلك، لأنه متصل
فإن كانت التقطعات أو القفزات النزقة نحو أشياء أخرى تأتي نتيجة رغبات اجتماعية أو نتيجة بعض الفرص المتاحة فإن الكآبة تزداد دائما وإذا كانت هذه التغيرات ( التي تنتج العرضي) تميل نحو الصمت ونحو دواخلنا فإن جرح الحداد يسعى إلى أفكار أرقى: نستطيع القول هنا أن ابتذال الاضطراب المجنون يقابله نبل الوحدة
18 غشت 1978
المكان في الغرفة، الذي كانت تنام فيه أمي أثناء مرضها هو نفسه المكان الذي ماتت فيه، ونفسه الذي أسكن فيه الآن، أما الجدار الذي قرب رأس السرير حيث كانت تسند رأسها فقد علقت عليه إيقونة – وهذا طبعا ليس بدافع أي إيمان ديني- ثم إنني أضع دائما زهورا طرية على طاولة قريبة ولهذا السبب لم أعد أحب السفر، لا أسافر حتى أتمكن من استبدال الزهور دائما ولا أتركها تذبل
25 أكتوبر 1978
أفكر مرة أخرى في قصة « الأب سيرج» لتولستوي (رأيت القصة مؤخرا فيلما وكان رديئا)
في الفصل الأخير: نجد أن البطل وصل إلى الطمأنينة أخيرا ( أي إلى المعنى أو الإعفاء من المعنى) عندما التقى بمارفا من جديد، مارفا الطفلة الصغيرة في طفولته وقد أصبحت جدة تهتم بكل بساطة وحب وصمت بأهلها دون أن تتوخى من وراء ذلك مكسبا ظاهرا كالقداسة أو تنتظر اعترافا ما من كنيسة مثلا، أفكر في هذه المرأة وأقول في نفسي إنها أمي
فأنا لا أجد أبدا عند أمي أي ميتا- لغة (أي خطابات مرافقة للغتها) أو أية رغبة في تقمص دور ما أو توخي إعطاء صورة جميلة عنها وهذه هي القداسة الحقيقية
ويا للمفارقة العجيبة فأنا المثقف جدا، أو على الأقل هكذا يتهمني الجميع أو يصفونني، أنا المنسوج جدا وبشكل دائم بالميتا-لغة الذي أدافع عنه كثيرا، تأتي أمي بكل جلالها لتقول لي كل ما هو ليس بلغة ( أو خطاب)
31 أكتوبر 1978
.. أرغب في شيء واحد فقط هو أن أسكن حزني
—————————
مقاطع من «يوميات الحداد» | رولان بارت
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (١٥٢) صفحة (٣٣) بتاريخ (٠٤-٠٥-٢٠١٢)
د.ثريا وقاص | رولان بارت
———————————–
رولان بارت (بالفرنسية: Roland Barthes) فيلسوف فرنسي، ناقد أدبي، دلالي، ومنظر اجتماعي.وُلد في 12 نوفمبر 1915 وتُوفي في 25 مارس 1980، واتسعت أعماله لتشمل حقولاً فكرية عديدة. أثر في تطور مدارس عدة كالبنيوية والماركسية وما بعد البنيوية والوجودية، بالإضافة إلى تأثيره في تطور علم الدلالة.
تتوزّع أعمال رولان بارت بين البنيوية وما بعد البنيوية، فلقد انصرف عن الأولى إلى الثانية أسوة بالعديد من فلاسفة عصره ومدرسته. كما أنه يعتبر من الأعلام الكبار – إلى جانب كل من ميشيل فوكو وجاك دريدا وغيرهم – في التيار الفكري المسمّى ما بعد الحداثة.