مع عبد اللطيف اللعبي *
حاوره: عبد السلام الشدادي
ترجمة : سعيد بوخليط
س-”لم يحدث مطلقا أن كتبت بشيء آخر غير حياتي ؟”يختزل هذا الإقرار جدا منبع إلهامك الأساسي باعتبارك شاعرا،روائيا وكاتبا.أعتقد، بأن الحياة تفهم في الآن ذاته،كمادة وحافز على الكتابة.هل يمتزج الأدب بالحياة؟ألا يوجد دائما وبالضرورة تباعد،وأيضا الإعداد الفكري والفني انطلاقا من التجربة المعاشة؟من جهة ثانية،لايمكننا القول،في حالتك الخاصة ككاتب،ثم فيما يتعلق بكل إنسان من ناحية أخرى،أن الحياة كتابة؟
ج-أن نكون في إطار تخيل يقال عنه خالصا أو سجلات أخرى للكتابة،أكثر حميمية،مثل السيرة الذاتية أو القصيدة،فالصلة ذاتها مع المادة الحية للأدب.ماهي هذه المادة؟أولا، تاريخ شخصي، تصنعه مقومات تسمح خلال لحظة معطاة بيقظة الضمير فينا،وخصوصيتنا ككائنات بشرية.انطلاقا من هذا فالصلة مع الآخرين،بالتالي العالم الذي نعيش فيه،يصير تقريبا إشكاليا. من هنا مجهود الفهم،الأسئلة،التمرد أو الاضطراب باعتبارها محركات أولى للكتابة وكل إبداع فني.أن تكتب يعود إذن إلى تحقيق الوصل بين مادتنا الحية الحميمية ثم التي تعود للآخرين،طبعا المجتمع الأكثر قربا إذا أردت، ثم اتساعا المجتمع الإنساني في عموميته. إبقاء المسافة الذي تكلمتَ عنه ليس ميسورا في البداية.بل يكتسب حسب تعمق الوعي الذي استحضرتُه،وتوسع معارفنا،وتهيئ فكرنا الخاص،ثم التمكن التدريجي من الآليات اللسانية والجمالية.تقول،كل حياة هي كتابة؟بالتأكيد،لكن كم من موزارتMozarts تعرض للاغتيال،لاسيما في بلداننا حيث حظ إمكانية أن تكتب تلزمه معجزة.
س-أنت ”مولود مفترض”،شخص ازداد قبل انطلاق نظام الحالة المدنية في المغرب.كنا زميلين في ثانوية مولاي إدريس في فاس، وانتمينا على نحو مماثل للحقبة الفاصلة بين بداية الحالة المدنية وكذا تدشينها.لقد ترعرعتَ إذن بالضبط خلال لحظة بدأت الحركة من أجل الاستقلال في التمدد :لازلت وقتها صغيرا جدا من أجل المساهمة فعليا في هذه الحركة،لكنك كبيرا كفاية حينما شرعت في تمثل ذلك أو على الأقل،الإحساس بقفزاتها الفجائية .الفترة الكولونيالية،التي تطرقت إليها في عملك :قاع الخابية ومؤلفات أخرى،تعتبر اليوم منسية تقريبا. هل تعتقد بأننا سددنا حسابنا معها،أو لازلنا حقا نعيش بشكل لاواعي صدمة الإنكار وضياع ذواتنا خلال هذه الحقبة المظلمة من تاريخنا؟بمعنى ثان،الصعوبات التي كان علينا مواجهتها بخصوص بناء هويتنا وثقافتنا دون أن يتجذرا في هذا الجرح الذي لم نتجاوزه،لأن الحقبة لم يتم تحليلها وفهمها أو روايتها بما يكفي؟
ج-تتذكر،أتمنى ذلك ،أني منذ سنوات الستينات،كنت ضمن الذين تصدوا إلى هذه الصدمة وباشرت مهمة إزالة الاستعمار من العقول وإعادة بناء هويتنا الثقافية.فيما يخصني،اتركني أخبرك،لاأشعر في نفسي بأدنى أثر لصدمة كهذه. وأذهب أبعد من ذلك حينما أدعو إلى إعادة قراءة موضوعية للصدمة الاستعمارية.تعرف حقا كما الشأن معي كيف خدمت حجة الاضطهاد والاستغلال الاستعمارين ولازالت تخدم بهدف إخفاء ما أسميه :((الاستعمار الداخلي)).سيشكل محك نظرية المؤامرة المتأتية من الخارج مصدرا لكل شرورنا.الذين يوظفون هذه الحجة لهم كل المصلحة في ترسيخ الصدمة النفسية التي نتكلم عنها. بالتالي، إلى متى سنبقى رهينة لذلك؟سنستفيد حقا كي نلتفت نحو العالم الذي نعيش فيه اليوم،ونسعى لفهم وظيفتنا ثم مواجهة التحديات التي يطرحها أمامنا. رغم ذلك،لست في عداد القلقين بخصوص الهوية.أليس بالضبط دورنا كمثقفين مساعدة مواطنينا كي يقتحموا دون خوف هذا السؤال بالبرهنة على أن الهوية تستفيد من بقائها منفتحة،وبأنها سيرورة دائمة للتقويض– وإعادة البناء،وبقدر كونها متعددة تتبنى كما هي،بقدر ما تسمح للشعب الذي هو صانعها كي يحذر النزوات القاتلة التي يمكن أن تحتويها،ثم تتوجه نحو الإنسانية؟
س-كنا ضمن الطليعة في الثانوية،وقد زرتك لأول مرة.فأدهشتني خزانتك :عشرات بل ربما مئات الكتب،لاأتذكر على وجه التحديد،روايات،ومجموعات شعرية،ومؤلفات فلسفية لم أسمع عنها حينئذ قط.هل صممت أصلا وقتها أن تسلك سبيلا يجعل منك كاتبا؟ماهي قراءاتك خلال تلك الحقبة؟
ج-نعم،بدأت لحظتها يسكنني هاجس”خربشات الكتابة”.صحيح أنه خلال تلك الحقبة ارتبط ذلك بالقراءة.لقد شكلت بالنسبة إلي الخزانة البلدية المتواجدة بساحة البطحاء بفاس مغارة علي بابا.لن أبالغ أبدا إذا قلت أني قرأت،في إطار فوضى مطلقة،ثلثي الكتب التي تضمها :دراسات حول المغرب،الآداب الفرنسية والروسية والأمريكية والعربية (نعم !) ،وفيما بعد الكتاب المغاربيين باللغة الفرنسية(الشرايبي، محمد ديب، مولود فرعون، كاتب ياسين،ألبير ميمي).كنت أيضا أتردد على الكتبي الشهير السي سعيد،الكائن بسويقة بن سافي في المدينة، وكذا العديد من الكتبيين في الملاح.يضاف إلى ذلك حصلت على كتب في شكل جوائز خلال نهاية السنة في كوليج مولاي ادريس،وقد حدث معي،أعترف بذلك،أني بعت بعضها إلى السي سعيد عندما كنت في حاجة إلى النقود. !لقد قادتني قراءاتي طبيعيا تقريبا صوب الكتابة.آه أشياء صغيرة خلال تلك السنوات :يوميات ،قصائد حب…لا، بصدق، لم تكن لدي أدنى فكرة عن مستقبل ما في هذا المجال،دون التكلم عن “مسار”،الكلمة التي أمقتها،اعذرني على قول ذلك.
س-منذ ذلك الوقت،أصبحنا صديقان.سنتان بعد ذهابي إلى الخارج لمتابعة دراساتي في الفلسفة،زرتك في شقتك بالرباط.كان ذلك،فيما أذكر خريف سنة 1964 .وأنت حديث الزواج ب جوسلين،التي أذهلتني بصوتها الرخيم ورقتها.قرأت علي أولى قصائدك ونصوص أخرى.ولجت الأدب سلفا !مبكر جدا،وفي غاية السرعة،بينما لم أكن أعرف شيئا عن ما أود أن أصيره.ماذا يعني خلال تلك الحقبة الانخراط في مسار أدبي باللغة الفرنسية،بالنسبة لبلد كانت تبلغ فيه نسبة الأمية 90% ،مع أدب حديث بالكاد في محاولاته الأولى؟
ج-بخصوص جوسلين،هيا،قل بصراحة أنك ببساطة انبهرت بجمالها.لست أنا من ينازعك بهذا الخصوص !ثم، بما أنك على حق باستحضارك للصوت،وبقدر صحة أن الحب،بل الصداقة،تبلورا لدي تحديدا عبر هذا الجانب. ألم يتكلم الشاعر عن :((الأذن التي تعشق قبل العين؟)). لنكن لنعد إلى مقاربة جدية لسؤالك.ونترك جانبا هذه الفكرة المتعلقة بالمهنة .لنتكلم،تحديدا عن نداء، ارتبط، دون مبالغة بمعجزة. بالنسبة إلي، كان أصلا أمر معجزا أن قادني أبي إلى المدرسة،مثل كل إخوتي وأخواتي (بالمناسبة كنا ثمانية).ولم يكن الوضع كذلك، حسب القاعدة السائدة خلال تلك الفترة،على الأقل بين الأوساط المعتدلة.للمرة الألف،وددت القول :شكرا أبي !إذن،فيما بعد،صرت كاتبا،أي تحد هذا !كانت مغامرة الكتابة من الوهلة الأولى أكثر مغامرة قياسا لوضع كاتب غربي والذي بالنسبة إليه أن يكتب يعتبر مسألة بديهية مادام مجتمعه يطلب منه ذلك منذ قرون، ولايمكنه تخيل نفسه دون هذه الإضافة الوجودية الذي أسند إليه.فيما يخصني،وأفترض هذا بالنسبة لكتاب آخرين من جيلي،اقتضى السياق منا الارتماء في الماء،حتى ولو لم نعرف السباحة،ثم نقود نشاطا لم يكن المجتمع في حاجة إليه على وجه السرعة.في الواقع،اشتغلنا بدون هوادة وخلقنا رهانا مجازفا حول المستقبل.لكن،ياإلهي،كم كانت حماسية ،هذه المهمة لمستكشفين مجانين !لاشيء في العالم قد يدفعني إلى تغيير ذلك مقابل وضع نظرائنا في البلدان الثرية.
س-فترة من الزمان بعد ذلك،جاءت أحداث الدار البيضاء سنة 1965 ،و قتل العديد من آلاف الشباب المتظاهرين. واقعة سياسية أساسية :انهارت أوهام مغرب ديمقراطي،وشعبي،حلم جيل الاستقلال.كيف نبني مغربا جديدا،اجتماعيا، سياسيا،ذهنيا؟ستكون هذه الإشكالية في صلب نواة اهتمامات مجلة أنفاس،الصادرة سنة1966 بالفرنسية ثم بالعربية فيما بعد،حيث امتزج الفن بالأدب والحياة.من هم رموز تلك للحركة الذين التفوا كي تظهر وتتطور هذه المجلة؟وماذا كانت هواجسهم الأولى؟
ج-أجبت غير مامرة عن هذه الأسئلة مما يسمح لي أن أحيل ببساطة عن ماكتبته حول هذا الموضوع في نصوص :حرقة الأسئلة، قارة إنسانية،الكتاب غير المتوقع ،ثم أعمال أخرى.أنتهز الفرصة كي أستحضر أشخاصا لعبوا دورا خاصا بالنسبة لهذه المغامرة.أصحاب المبادرة هم :مصطفى نيسابوري،محمد خير الدين،محمد شبعة، محمد المليحي،وفيما بعد الطاهر بن جلون.لكن يوجد آخرون صاحبوها وجاءت مساهماتهم حاسمة خلال لحظة أو أخرى من حياة المجلة.البعض منهم رحلوا للأسف مثل : عبد الكبير الخطيبي، أبراهام السرفاتي، السيناريست ادريس كريم،ثم الفنانين التشكيليين الجيلالي الغرباوي ومحمد بناني والشاعر عبد العزيز المنصوري ثم الكاتب وقائد حركة التحرير الأنغولية ماريو دو أندراد ،ثم الشاعر الفرنسي أندريه لود. آخرون، لحسن الحظ ،لازالوا على قيد الحياة،ولاينبغي نسيانهم.أفكر، في الشاعر حميد الهوادري، السيناريست والكاتب أحمد البوعناني، الروائي محمد برادة، طوني ماريني ناقدة الفن وزوجة المليحي، بيرت فلينت الشغوف بالفنون الشعبية،الشاعر الفرنسي بيرنار جاكوبياك،المفكر الجزائري مصطفى الأشرف ومواطنيه الشعراء مالك علولة،إسماعيل عبدون،ثم التونسيين سمير عيادي،محمد عزيزة وعزالدين مدني،ودانييل بوكمان كاتب ومناضل من المارتنيك.أكتفي بهذه الأسماء،وأعتذر للذين لم أذكرهم.ما أريد الإشارة إليه،أن التأثير الذي مارسته أنفاس خلال تلك الحقبة تجاوز على نحو واسع المغرب بل البلدان المغاربية.
س-اثنان وعشرون عددا باللغة الفرنسية،وثمانية بالعربية. من الناحية الكمية قليلا جدا ،لكن الإنتاج الفكري الذي تضمنته أنفاس،في ميادين الأدب،والفنون التشكيلية،والسينما،والتأمل حول قضايا المجتمع والاقتصاد،وسم نهاية الستينات وبداية السبعينات،إلى غاية حظر المجلة.ولازالت بعد تشكل معلمة مهمة بالنسبة للذاكرة المغربية الحديثة.ماذا يلزمنا إذن الاحتفاظ من ذاك التدفق الذي استمر بالكاد ست سنوات؟ماهي امتداداته الممكنة إلى غاية اليوم؟
ج- أعتذر هنا أيضا،وأعتقد مجال هذا الأمر الأطروحات الجامعية.فليس بالوضع المريح تماما،أن أكون في نفس الآن قاضيا وطَرَفا.مع ذلك،تطرقت إلى هذا الموضوع غير ما مرة.حاليا،أشعر بالضجر قليلا،وأحب بالأحرى أن أسمع توضيحا حول هذه الموضوعات من لدن مؤرخي أدبنا وكذا ملاحظين آخرين متنبهين لما يجري في الحقل الثقافي ،دون التكلم عن الأجيال الجديدة من الكتاب والمثقفين،الذين يهمهم الأمر في المقام الأول.
س–بالموازاة،كتبت عملان مهمان :المجموعة الشعرية”عهد البربرية”، ونصا نثريا ”العين والليل”لايصنف بما يكفي،وقد صرحت بأنه ”أحدث انقلابا في الحقل الأدبي خلال تلك الفترة”.هذه لحظة كي نتوقف للحظة حول دلالة كل حركة أنفاس،وكذا كتاباتك الخاصة خلال تلك الحقبة سعيا لتأسيس أدب مغربي شاب وحديث.
ج–بما أنك تلح،أقول بأن الرهان الأول لتلك الحركة التي تنضوي بين طياتها أولى أعمالي،استند على هذا المبدأ الشكسبيري :أن تكون أو لا تكون أبدا !لم تكن الصفحة البيضاء سعيا هلاميا،بل هدفا واعيا،موضوعا نصب الأعين. وقد ترجم هذا برفض عميق لكل نموذج.الغربي أولا،حيث كنا غاية ذلك الوقت ممتثلتين له بإعجاب ورضوخ تلاميذ جيدين.أما عن النموذج الأدبي العربي،خاصة في المغرب،فقد كان كلاسيكيا كثيرا، بالتالي لم يكن بإمكانه أن يشكل لنا دافعا، على الرغم من بعض اهتزازاته المتجهة وفق مسلك التحديث.من هنا هذه القفزة صوب المجهول التي فرضت علينا ووضعتنا ضمن سياق ابتكار نموذجنا الخاص.لذلك يمكننا القول بكل ثقة أن هذه الحركة انطوت على أدب مستجد.برزت لغة جديدة فيما يتعلق بالفرنسية وبعدها العربية ، ثم انبثقت بين طيات هذه المغامرة أشكال أدبية، نثرا وشعرا، دون التفاتها إلى مقدمات سابقة تستحق الذكر.كان ذلك إذن فعلا تحرريا تأسيسيا وصلنا من خلاله إلى السيادة الفكرية.وعلى أنقاض النهب الكولونيالي،كنا جديرين أن نتخيل بالنسبة للمغرب هوية ثقافية متجددة، تعمل على تعبئة تعددية ثراء بقي لفترة طويلة محتقرا، مستبعدا وإضفاء الطابع الفولكلوري عليه.ما يثيرني كذلك مع تجربة كتلك،هو تجردها الكلي عن العُقد والحسابات. حقا اتصفنا بجرأة كي نتطاول على أدب الأساتذة القدامى وعدم مراعاة جانبا لأي طابوهات،أكانت سياسية واجتماعية وأخلاقية،الخانقة لحرية التعبير في واقعنا.
س-بين سنوات 1972–1980 كانت فترة السجن،الحقبة السوداء التي امتحنت فيها حريتك،وشكلت بالنسبة إليك مناسبة كي تتمثل بشكل أفضل المعرفة الحميمية بذاتك،جسدا وروحا.معطى أفرز أعمالا كثيرة،لاسيما :قصائد تحت الكمامة(1981)،طريق المحاكمات(1982)،تجاعيد الأسد(1989).ثم استحضرت ثانية هذه الفترة من خلال كتابات أخرى.كيف تقيم حاليا تلك الحقبة من حياتك وكذا المغرب؟إذا كانت حاسمة بالنسبة إليك باعتبارك كاتبا،وماهي دلالتها بالنسبة للمغرب؟هل لديك الانطباع أن المجتمع المغربي قد استخلص العبرة من ذلك على الوجه الأكمل؟
ج-وإن أضحى كل ذلك بعيدا،لكنه بشكل مفارق لازال دائما حاضرا.لقد قلت باستمرار بأن ”اعتقالاتي”الجسدية قدمت خدمة معينة،لكونها أجازت لي،كي أكتشف في ذاتي أولا،تلك الاعتقالات غير المادية أو الأسوار الداخلية التي يحملها كل واحد داخله،الناتجة عن أحكامنا الجاهزة،وعقائدياتنا،واهتماماتنا الأنانية الصغيرة وحقاراتنا التافهة،وعدم لامبالاتنا البشعة نحو محن الآخر،الفجوة التي لاتطاق بين أفكارنا المعلن عنها ثم ممارساتنا الفعلية،إلخ.أتمنى أن أكون قد تقاسمت حاليا هذا الاكتشاف مع قرائي الذين قرأوا لي واهتدوا عبر ذلك نحو استخراج فائدة أخرى من سجني مثل الذي أوجدته البصبصة نتيجة المعاناة(نعم،هي حقا قائمة !) ،أو المعركة النبيلة من أجل حرية وحقوق الإنسان.لقد صرخت باستمرار أن السياسة مثلت بالنسبة إلي وكذا رفاقي “ضريبة كرامة”هل التقط المجتمع المغربي تحديدا هذه الدلالة التي منحتُها لتجربتنا؟سأتعجل كثيرا إذا أقررت إيجابا.لنقل أنه بعد إدراكه للوضع،لم يعد يعتبر قط،مثلما ساد الاعتقاد إلى غاية عشر أو خمسة عشر سنة قبل الآن،أن الفظاعة التي يعانيها الأشخاص الذين يقولون لا للنظام،مصدرها سعيهم لذلك بأنفسهم!بهذا الخصوص تطور مجتمعنا كثيرا،فقد تراجع الخوف ،وحُلّت عقد الألسن،وشرع التبليغ علانية على أنواع الظلم.ثم وجدت فكرة المواطنة سبيلها على نحو تام وكامل.إذن، نعم، فالضريبة التي دُفعت كي تنتصر الكرامة أدت حقا خدمة بشكل من الأشكال.
س-جاء منفى فرنسا،دون أن تفقد حقا ارتباطاتك بالمغرب ثم انكببت كليا على حياتك ككاتب.إن استمرت القصيدة مهيمنة على كتاباتك،فقد توجهت إلى الرواية،كما اشتغلت على التأليف المسرحي ،والمقالة الصحفية،وأدب الأطفال،ثم أنجزت ترجمات كثيرة من العربية إلى الفرنسية.فما هي الإشكالات التي شكلت بالنسبة إليك هاجسا على امتداد هذه المرحلة؟
ج-أولا تلك التي أتيتُ على ذكرها.لأنه، مثلما أشرتَ في مقدمة حوارنا وقد استعدتَ سؤالي :((هل كتبت قط شيئا آخر سوى حياتي؟))،أقترح ضمه إلى سؤال ثان :هل كتبتُ قط شيئا لايتصل مباشرة أو غير مباشرة، مع المغرب؟ لقد مرت الآن مايزيد على ربع قرن حين غادرت البلد،ولا أعيش حقا في البلدة الفرنسية” entre-deux”سوى منذ خمسة عشر سنة.مع ذلك،فهذا المغرب ! ولأستعيد هنا عبارة الفقيد خير الدين،التمسته بألف طريقة عبر ماكتبته منذ ذهابي. هناك إذن استمرارية في علاقتي بالوطن،ثم انقلاب للمنظور ألزمه التوسع الهائل لآفاقي الجغرافية،والفكرية والثقافية والإنسانية. حتى ولو لازمني شعور أن أواصل في المقام الأول مخاطبة جمهوري المغربي القريب بالنظر إلى كونه الجمهور الذي يقرأني أكثر، يفرض علي الكوني نفسه باقتضاءاته التي هي ذات طبيعة أخرى.لذلك،تغيرت بدورها رهانات الكتابة،فلا يمكنني تجاهل السجالات الكبرى التي أعقبت سقوط جدار برلين،وإرساء النظام- اللانظام العالمي بعد حروب الخليج،والصعود القوي للتعصب الديني،ثم تبلور فكر سياسي جديد جوابا على التهديدات الخطيرة التي تثقل كاهل توازن النظام البيئي لكوكبنا الأرضي،كل هذا تصحبه مثلا تطورات مذهلة للبحث العلمي في ميدان البيولوجيا،أو معرفة عَالَمِنا.هناك فرق بين أن نعيش القرية الكونية من خلال الأقمار الاصطناعية ووساطة لوحة،ثم أن نحيا في قلبها.هل يمكن لعملي أن يبقى بعيدا عن انقلاب كهذا؟الجواب بالنفي،وأعتقد بأنه أخذها بجدية،ثم عبر عنها بطريقته.عنصر أخير :سمح لي إبعادي عن ”البلد الحبيب”ثم حياتي في بلد الاستقبال،النظر أخيرا إلى نفسي من الداخل، باعتباري فردا،ثم أتحملها مثلما هي.لقد استدعت بقوة كتاباتي لغزي الشخصي.الدعابة الثنائية التي تجلت قليلا ضمن أعمالي السابقة،لاسيما في تجاعيد الأسد،وشغلت موضعا معتبرا،ثم منحت مجرى حرا إلى السخرية وكذا السخرية من الذات التي شكلت منذئذ علامتي التجارية .
س-سمح لك وضعك ككاتب معروف عالميا بأن تكون في اتصال لمدة ثلاثة عقود على الأقل مع أهم الآداب العربية والعالمية .ماهو تقييمك اليوم لتطور الأدب العربي الحديث؟ما الذي تستعيده من الأدب الحديث على المستوى العالمي؟
ج-أقل قل ما يمكن قوله ليس الأدب العربي في أفضل صوره.تواصل بعض الطلائع المثابرة من أجل سعادتنا،بينما رحل آخرون عنا.تبرز بعض الأصوات الجديدة،وهي تحمل شيئا من الطراوة .غير أننا بعيدين عن التجديد المتوخى أخذا بعين الاعتبار التغيرات التي عرفتها المجتمعات العربية وكذا الوضع الإنساني عامة خلال العقود الأخيرة.تكمن الأسباب في تكميم أصوات المثقفين داخل أغلب بلداننا ،ثم نفي قسم كبير منهم والصعوبات الناجمة عن ذلك،والتراجع الثقافي داخل المعتقلات العربية وتأثيراتها الكابحة للترجمة،والسجال الفكري والنشر وتداول الكتاب.نتمنى إذن أن تفتح الحركات الاجتماعية والسياسية التي انبثقت هنا أو هناك منذ شهر دجنبر الأخير،ثغرة وسط هذا الصمت وتسمح للثقافة كي تتألق من جديد ولكتابنا الانكباب بحرية على مهمتهم.فيما يخص الأدب على المستوى العالمي،أعتقد بأنه على ما يرام،بحيث اتسع مجال الإنتاج وكذا ترجمة الأعمال إلى لغات مختلفة.الكتَّاب الذين يحظون اليوم بالاعتبار لاينحدرون فقط من المركز (الدول الغربية الكبرى) ،بل أكثر فأكثر من الهوامش أو الضاحية.ما نسميه ب أدب- العالم هو بصدد قلب العطاء الأدبي على المستوى الكوني.بالتالي، بدأ يتضايق مفهوم الأدب الوطني. أما عن التيارات الكبرى، فأشير هنا بالتأكيد إلى تيار أدب-العالم الذي يشمل كتابا ينحدرون من شبه القارة الهندية، وإفريقيا،وجزر الأنتيل والبلدان المغاربية،ثم أمكنة أخرى.أضيف خاصة أصحاب الإنتاج المتجددين باستمرار المنبعثين من أمريكا اللاتنية واليابان.أقول هذا،دون التقليل بتاتا من القوة الرنانة لبعض الأصوات التي لازالت تصدر من أوروبا القديمة وأمريكا الشمالية.
س-جائزتان عن القصيدة،رسختا اللعبي شاعرا.جائزة روبير-غانزو التي حصلت عليها سنة 2007 ،ثم تتويجك أيضا بجائزة غونكور سنة 2010 .هل وفق هذا المنوال ترى نفسك ضمن أفق المابعدية شاعرا قبل كل شيء؟ما الذي يميز في نظرك القصيدة عن باقي الأجناس التي اشتغلت عليها؟هل لازلت القصيدة تتمتع بامتياز خاص؟
ج- لست ساذجا إلى درجة الظن بأن ما وضعوني في إطاره سيقطع ثانية كليا مع ما توخيت تضمينه في عملي.أيضا، لست متيقنا بأني استطعت أن أستعرض ما يحتويه عملي.أعرف جيدا بأن بعضا من أسراره تفلت مني دائما.وأقول :ذلك أفضل !فما يجذبني نحو الأدب لا يتوقف عند مغامرة الكتابة.هذا يضم مغامرة القراءة،وكذا قراءات على امتداد الزمان.وهذه الأخيرة تستبقي بانتظام أكبر المفاجآت.أما عن القصيدة،قياسا لباقي الأجناس الأخرى التي كتبت فيها،فإنها ببداهة النواة الصلبة لهويتي الأدبية،وأتموقع جيدا كي أعرف ما الذي تُكسبه لمجموع سجلات الكتابة وكذا الكلام البشري.لهذا أدافع عنها بكل ما أوتيت من قوة ضد التهميش الأبله الذي تعاني منه آنيا .أنصح دائما، بقراءتها أمام جمهور من الأطفال.
س-كيف تموقع نفسك ضمن الأدب المغربي ؟وكيف ترى مستقبل هذا الأخير؟
ج-مثل فاعل غير نموذجي،يتحرك كثيرا بلا جدوى(تقول ألسنة السوء) ، ومتمرد على الاحتجاز ضمن خانة كيفما كانت،وكذا التكيف مع معايير المردودية المادية والنجاح.عبر كل مؤلف من مؤلفاتي،أدفع ”العِلَّة”كي تحملني نحو حيث لا ينتظرني القارئ.بالنسبة إلي،لا يعتبر القارئ زبونا،بل شريكا لذلك أتمسك دائما بعدم تحقير ذكائه.فيما يخص أخيرا،مستقبل الأدب المغربي،أعتقد بأنه يلزم التوقف عن القلق بخصوص موضوعه.لنبدأ بتقييم مكتسباتنا حسب قيمتها الحقيقية على الأقل منذ نصف قرن. إنها هائلة، حينما نعرف،ويلزمنا الاعتراف بذلك على نحو شجاع،أن المغرب لم يكن قط على مر القرون فضاء مميزا للإبداع في هذا الميدان،ثم حتى ارتباطا بحركة الحداثة العربية ،فقد أبان عن تأخر جلي.ماأراه اليوم،هو أدب بصيغة الجمع(أخذ ضمنه النساء مكانهن ببسالة)،ترسخ حقا في الحداثة،ضمن توسع نضالي، رغم العوائق الضخمة التي لازالت تنتصب أمام مساره.نتمنى له ببساطة،أن تجتمع غدا الشروط حتى يقرأ حقا،من طرف جمهور واسع يحق له التطلع إلى ذلك.لكن الأمر يتعلق هنا بمعركة أخرى !
*هامش:
Abdellatif Laabi: Petites lumières. Ecrits (1982 -2016)La différence2017.pp368- 381.
http://saidboukhlet.com