*عبد الكريم واكريم
لم تكن الأفلام ولا المسلسلات الدرامية التلفزيونية المقتبسة عن روايات لنجيب محفوظ مخلصة دائما لروح هاته الروايات ولا وفية لقيمتها الفكرية، فباستثناء بعض النماذج القليلة مثل أفلام “بداية ونهاية” و”القاهرة 30 ” لصلاح أبو سيف و”ثرثرة فوق النيل” لحسين كمالو”قلب الليل” لعاطف الطيب ، ومسلسل “الثلاثية” ، أتت المحاولات الأخرى متراوحة بين الاقتراب من روح أعمال نجيب محفوظ دون موازاتها أو أبعد عن قيمتها تماما رغم كون بعضها نال الإعجاب الجماهيري وحظوة الانتشار.
ومع الزمن، وخصوصا بعد أن نال نجيب محفوظ جائزة نوبل، أصبح إسمه كفيلا بإنجاح أي عمل مأخوذ عن رواياته مهما كان مستواه، بل إن الرواية المقتبسة تستعيد ألقها ويتم الإقبال على قراءتها من جديد بعد إنجاز عمل مأخوذ عنها، وهذا ماحدث مع رواية “أفراح القبة” التي حُوِّلت لمسلسل بنفس الإسم من إخراج المخرج المصري محمد ياسين، وتمثيل كوكبة من نجوم التمثيل في مصر وسوريا والأردن. فهل استطاع صانعوا هذا المسلسل الحفاظ على روح الرواية أم أنهم أنجزوا عملا أقل منها؟ هذا ماسنحاول مقاربته في الأسطر التالية.
ويبدو أن على عشاق الأعمال المنقولة عن روايات للكاتب العالمي أن ينتظروا كثيرا حتى يتمتعوا بفيلم أو مسلسل جديد مقتبس عن عمل له. وقد جاء رمضان المنصرم بمفاجأة سارة في هذا السياق والتي تتمثل في مسلسل “أفراح القبة” المأخوذ من رواية بنفس الإسم لنجيب محفوظ والتي لم يسبق أن حولت لالمسلسل تلفزيوني ولا لفيلم سينمائي بعكس العديد من رواياته الأخرى.
بين الرواية والمسلسل
هناك لحظات في المسلسل يتداخل فيها “الواقعي” بالمسرحي فتنتج التباسا فنيا جميلا ومشاهد تُغني المسلسل وتجعله مختلفا عما درجنا على مشاهدته في الدراما التلفزيونية المصرية على الخصوص والعربية عموما… مثال من مشهد في الحلقة (20) التي كانت قوية والذي تندمج فيه شخصية طارق رمضان – التي أداها الممثل الأردني إياد نصار باقدار- في الدور الذي يجسد فيه شخصيته الحقيقية في الواقع ويقتحم الخشبة ليرتجل حوارا لم يكن مكتوبا في النص المسرحي ليتنفض المؤلف بعد ذلك قائلا من بين كراسي المتفرجين داخل القاعة : “أنا المؤلف ولازم أن تلتزم بالنص الذي كتبتُه” ، فيجيبه الممثل : “وأنا الممثل هنا على الخشبة ، النص ملك لك لكن العرض ملك لي ” وحينما يقول عباس يونس أن ما أضافه طارق رمضان كذب يوافقه هذا الأخير قائلا “نعم كذب فكل المسرحيات كذب ونحن نمثل أن هذه هي الحقيقة” ثم ينزل من خشبة المسرح وهو يسأل عباس لماذا أخذ منه حبيبته…هذا المشهد بالنسبة لي من أهم المشاهد في الدراما العربية خصوصا أن المخرج لم يعرضه بشكل مسترسل وكلي بل كان يقطعه عن طريق المونطاج المتوازي بأحداث الولادة والجنازة بحيث كان يعطينا فكرتين مهمتين وكبيرتين في نفس الوقت.
وبقدر ما تم توظيف المسرح بشكل جيد فإن المخرج قد التزم بالسرد الفيلمي واللغة السينمائية ولم يسقط في مسرحة الأحداث كما يقع لبعض المخرجين في السينما والتلفزيون حينما يريدون توظيف المسرح فيبتعدون عن لغة الصورة التي هي ركيزة السينما والدراما التلفزية.
كاتبا السيناريو والمخرج لم يلتزموا بالنقل الحرفي لرواية نجيب محفوظ، بل أضافوا أحداثا لم تشكل ثقلا على النص الأصلي خصوصا تلك التي تجري داخل قاعة المسرح، مع بعض النقص الذي لم يصل لدرجة التشوش على العمل في الأحداث المتعلقة بأسرة “تحية”.
أما قصة “فتنة”، والتي أتت في الحلقات الأخيرة من المسلسل، فرغم كونها أضيفت ولم تكن في الرواية إلا انها أتت غير مقحومة وفي سياق الأحداث، رغم أن المسلسل كان سيأتي بصورة أفضل لولا إضافة هذين المسارين والذي على مايبدو أملتهما ضرورة إكمال الثلاثين حلقة أكثر من كونها ضرورة درامية.
ورغم كل هذا يظل المسلسل من بين نقط الضوء الجميلة في الدراما التلفزيونية العربية، واستطاع صانعوه الحفاظ على روح نص نجيب محفوظ رغم ذلك.
نجد بالمسلسل وباستمرار إحالات على أعمال روايات نجيب محفوظ ، بحيث أن كل المسرحيات التي تقدمها فرقة سرحان الهلالي تحمل عناوين روايات محفوظ، بل إننا نجد أنفسنا في إحدى الحلقات أمام مشهد من رواية “زقاق المدق” فوق خشبة مسرح الهلالي. إضافة لملصقات مسرحيات لعبتها الفرقة مأخوذة عن روايات محفوظ ك”اللص والكلاب” و”رادوبيس”.
شخوص عاهرة
الشخوص في المسلسل ليسوا بنفس العهر الذي هم عليه في الرواية، ففي هذه الأخيرة نجدهم – رغم إنسانيتهم العابقة ورغم أننا كقراء نتفهم بواعث ودوافع حياتهم العاهرة إلى أقصى حدود- عبارة عن شخصيات وجودية لا تعبأ بالأخلاق المتعارف عليها في مجتمع شرقي ومحافظ بل تعيش حياتها بالطول وبالعرض وبدون أي سقف أخلاقي ونجد هنا بعضا من التشابه بينها وبين شخوص رواية أخرى لمحفوظ هي “ثرثرة فوق النيل” مع فروق واضحة أخرى أيضا. لكن في المسلسل اضطر صانعوه لتلطيف هاته الشخوص وجعلها أكثر التزاما بقيود المجتمع وقواعده وتوافقاته، فحليمة الكبش هنا ليست تلك المرأة المستهترة التي لاتعترض على حياة العهر والليل داخل بيتها بقدر ماهي مضطرة للتعايش مع ذلك بحكم أن زوجها يغصبها على ذلك، وحتى خيانتها المفترضة لزوجها ليست واضحة ولا أكيدة كما هي عليه في الرواية، وتحية في المسلسل ليست تلك المرأة اللعوب التي تنتقل من رجل لآخر دون سبب منطقي ولا داع تجبر عليه، فحتى حينما قررت أن تترك طارق رمضان وتتزوج عباس فلأنها كانت مضطرة لذلك كون طارق أعلنها واضحة أنه لاينوي الزواج بها. ويبدو أن متطلبات التلفزيون قد فرضت على صانعي المسلسل أن يلطفو من الأحداث ويجملوا الشخصيات أكثر توافقا مع المجتمع.
تقنية الاسترجاع والذهاب والإياب في الزمن موجودة في الرواية ، وهي قد كتبت في وقت كان فيه نجيب محفوظ قد تمرس كثيرا في الكتابة السينمائية، كونه كتب سيناريوهات أصلية للعديد من الأفلام واقتبس سيناريوهات أخرى من روايات لمؤلفين آخرين. وفي رواية “أفراح القبة” كما في روايات أخرى له ك”تحت المظلة” كانت قد أصبحت التقنيات السينمائية ظاهرة في أعماله حتى أن رواية ك”تحت المظلة” هي عبارة عن رواية مكتوبة على شكل سيناريو سينمائي.
أما رواية “أفراح القبة” فمبنية على استرجاعات توازي تقنية “الفلاش باك” في السينما ، وقد تم الحفاظ على هذا الأسلوب السردي في المسلسل الذي نحن بصدده، بحيث لانجد به سردا خطيا مسترسلا ومتسلسلا لكن كما في الرواية هناك أحداث تروى من وجهة نظر الشخوص الرئيسيين. وإذا كانت هذه الأحداث تروى في الرواية من طرف كل من الممثل “طارق رمضان” والملقن “كرم يونس” وزوجته “حليمة الكبش” وابنهما مؤلف المسرحية “عباس كرم يونس”، التي تدور حولها أحداث الرواية والمسلسل والتي فضح فيها أهله وكل شخوص الرواية الآخرين، فإننا نجد أن شخصية ثانوية في الرواية قد أصبحت إحدى أهم الشخصيات في المسلسل وهي شخصية الممثلة “تحية” والتي تروي بدورها الأحداث من وجهة نظرها في المسلسل، وإذا كان من ضعف في المسلسل فسيكون في الجانب المتعلق بأسرتها ، رغم أن شخصية تحية تمت كتابتها بشكل جيد وأدتها الفنانة منى زكي بحرفية وإتقان.
في الرواية يظل فصل عباس كرم هو الاستثناء إذ يأتي فيه السرد بصورة كلاسيكية يذكرنا بروايات نجيب محفوظ في فترته “الواقعية”، وقد جاءت طريقة السرد عند عباس كرم يونس منسجمة مع كونه مؤلفا بحيث يبدو السارد في هذا الفصل ملما بلغته وضابطا لقواعد السرد والحكي بخلاف الفصول الثلاثة الأخرى التي يتشظى فيها السرد بين الحوار والاسترجاعات الخاطفة والتداعيات. أما في المسلسل فتتراجع شخصية عباس كرم التي يمكن اعتبارها الشخصية الرئيسية في الرواية لتعطي الفرصة لشخصية تحية لتصبح من بين أهم شخصيات المسلسل، وتصبح مرتبطة بها وبتطورها وبحكيها للأحداث.
عكس الرواية فشخصية عباس كرم في المسلسل غير محبوبة فهو الذي سرق من طارق رمضان حبيبته وهو الذي ينفر من أبيه وأمه وهو الأناني الذي لايعبأ بأي كان إلا بنفسه، أما في الرواية فهو رومانسي حالم مبدع كانت كل ظروف الحياة ضده.
ملاحظات حول مسايرن مُضافين
في المسلسل تمت إضافة مسارين لم يكونا في الرواية هما مسار وقصة أسرة “تحية” ومسار الممثلة “فتنة”. وقد طغى الجانب الميلودرامي الغريب عن كتابات نجيب محفوظ والبعيد عنها في مسار أسرة تحية، بحيث شكل نشازا في سيرورة المسلسل. أما قصة فتنة التي انطلقت من فلاش باك لتحتل مساحة ثلاث حلقات أو حلقتين فقد كانت أكثر قربا من أجواء روايات نجيب محفوظ رغم بعض النتوءات السينارستية والتي بدت واضحة في كيفية التخلص من “فتنة” بشكل سريع وإيداعها في مستشفى المجانين.
مسلسل محفوظي
بما أن نجيب محفوظ قد اشتغل كاتبا للسيناريو مع مخرجين متميزين كصلاح ابو سيف ويوسف شاهين واقتبس بدوره روايات الآخرين بجانب كتابة سيناريوهات أصلية فإنه كان يعلم صعوبة تحويل نص روائي لعمل درامي (سينمائي أو تلفزي) ولذلك لم يُبدِ أبدا تبرمه أو امتعاضه من فيلم أو مسلسل اقتبس عن رواية له مهما كان مستوى هذا الفيلم، اقتناعا منه أن عمل الروائي ينتهي بمجرد خروج روايته للأكشاك. وأتصوره لو كان على قيد الحياة فسيكون عموما راضيا على الشكل الذي أتى به مسلسل “أفراح القبة” الذي شكل لحظة مضيئة في المشهد الدرامي التلفزي العربي خلال شهر رمضان المنصرم.