عبيد لبروزيين
يعد مفهوم الفرجة من المفاهيم الغامضة نسبيا، وذلك بسبب اختلاف تعريفاتها المعجمية والاصطلاحية، التي عجزت عن إقامة تصور عام وواضح حوله، ولتجاوز هذا القصور، جاءت الأبحاث النقدية المسرحية لتحاول رصد خصائص هذا المفهوم، ومحاولة مقاربته بغية دراسة الفرجة وفق أدوات إجرائية فعالة، لاسيما بعدما ركزت الأبحاث النقدية على التفاعل القائم بين طرفي عملية التواصل، أي بين المؤدي والمتلقي، وهذه من الخصائص القليلة التي تميز الفرجة عن غيرها، فضلا عن الغاية المشتركة بين الفرجات، والتي تتمثل في التسلية وتوطيد العلاقات الاجتماعية عبر فضاء الفرجة الذي يحظى بمكانة مميزة.
والمدخل الحقيقي لدراسة الفرجة، خيالية كانت أو غير خيالية، يرتبط بالعنصر الفرجوي الذي يشكل “نقطة تقاطع الأشكال الفرجوية والمسرح ونقطة افتراقهما في آن واحد، فهو إن شئنا التعبير بالاستعارة الاقتصادية رأسمال الحلقة، وفائض القيمة بالنسبة للمسرح”[1]، وكما يظهر في هذا الشاهد، فالفرجوي أكثر غموضا من الفرجة نفسها إذا أردنا الحديث عن جوهر الفرجة، واعتماده كمقابل للأدبية والشعرية والفلمية يضفي عليه خصائص بنيوية تشكل معالمه العامة.
إنه العنصر الذي يحدد طبيعة الفرجة والذي “يتميز (الفرجوي) ببعده التاريخي، فمحتوياته وأشكاله تتغير بتغير العصور، ذلك لأن له علاقة بالمعيش، بالسياق السياسي والاجتماعي، بتاريخ الذوق والحساسيات الأيديولوجية. الفرجوي غالبا ما يكون مرئيا لكنه قد يكون مسموعا أيضا، ويرتبط هذا التمييز بطبيعة المبادئ النظرية التي تؤطره”[2]. وبالرغم من أن الفرجوي يتخذ أشكالا عدة، وغير محدد في ذاته، إلا أنه يلعب دورا مهما في قيام الفرجة المسرحية والشعبية التي تتخذ بدورها أشكالا متعددة، حسب الأنساق السوسيوثقافية التي تحضنها، وهذا سبب تغير وتحول العنصر الفرجوي.
وبالتالي يمكننا أن نخلص إلى أنه لا تغدو الطقوس الاحتفالية والتظاهرات الجماعية فرجة إلا حين تصير مشهدا يحتوي على حيزين، حسب ماري إلياس وحنان قصاب، حيز الفرجة Aire de jeu وحيز المتفرجين، وهو ما استثمرته الأبحاث النقدية وركزت عليه في تحديد الفرجة مادام العنصر الفرجوي صعب التحديد.
وهكذا أخذت الدراسات النقدية التي تعنى بدراسة الفرجة، تبحث عن فرادتها والخصائص المميزة لها، لدراستها باعتبار العناصر المشتركة في جميع أنواع الفرجات، وهو ما منح النقاد عنصرا مهما في تحديدها أولا، والانتقال لدراستها ثانيا على ضوء المناهج النقدية الحديثة، حيث “ترتكز أغلب الدراسات التي تعنى بالفرجة على مسألتين: تتحدد المسألة الأولى في البعد التواصلي الذي تتميز به الفرجة، أما الثانية فتتعلق بالفعل أو الممارسة الفرجوية في حد ذاتها…“[3] وبالتالي، يمكن أن نخلص إلى أن دراسة الفرجة ترتكز على ثلاثة أسس:
* أولا: البعد التواصلي: العلاقة الجوهرية بين المؤدي والمتلقــي.
* ثانيا: البعد الاحتفالي: تتضمن الممارسة الفرجوية في حد ذاتها.
* ثالثا: البعد الفرجوي: يتخذ أشكالا مختلفة في الفرجـــــــــــــــة.
لقد ركزت الدراسات النقدية في تحديد الفرجة على التواصل، أو العلاقة القائمة بين أطراف العملية الفرجوية (المؤدي والمتلقي)، وانطلاقا من هذا التواصل يكون المتلقي جزء هاما في تحديد الفرجة، وهو ما أهملته التعريفات المعجمية والاصطلاحية، إضافة إلى الأداء الذي يعد جوهرها الأصيل والمتجدد.
إنها أسس تحتضن عوالم الفرجة العديدة، وبذلك فإنها شكل من الأشكال الفنية التي تحتوي الطقسي والجمالي، وذلك بلغة شعرية وحركات تعبيرية دالة، تجعل من العادات والتقاليد قانونا أخلاقيا منظما لها، وفق ذاكرة جماعية تحيل على الماضي، لأنها تشير إلى نوع من استحضار للحظات تاريخية أصيلة، وهو ما يجعل الفرجة تحتضن أحيانا مفهوم المقدس والمدنس معا، كما هو الشأن في مهرجان “إيمعشارن” بتزنيت (المغرب). إنها أكثر من تمثيل أو فضاء للتواصل، إنها – في جوهرها – طريقة يتعرف بها الناس على ذواتهم وثقافتهم ونمط عيشهم، في إطار يسمح لهم بالحفاظ على هويتهم أفرادا وجماعات، لأنها فعل تواصل مع الحاضر والماضي رغم اختلاف الطرق والوسائل. وتلتف حول الفرجة كل الذوات بصيغة رمزية معبرة، مؤد أو متلق، فلاحدود بينهما، لأن أغلب الفرجات الشعبية أو حتى الاتجاهات المسرحية الحديثة، تستدعي جمهورها للمشاركة بدل التلقي وحسب، إذ يصبح الجمهور متفرجا وصانعا للفرجة في الآن نفسه.
إن هذا المخزون الثقافي والدلالي للفرجة، يجعلها قابلة لاحتواء قضايا متعددة وشائكة من قبيل “السلطة، التاريخ، الأصالة، التناص، الذاكرة، المقدس، الوجدان”[4] التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالتاريخ والحياة اليومية للإنسان، لكن السياق الثقافي الفني العالمي شهد حركة ديناميكية فاعلة، صاغت الذوق الفني ووجهته، مما يجعل الفرجة شاهدة على تغير قيم المجتمع وفق تناغم مطرد مع حركية التاريخ.
وفي علاقتها بالتاريخ، تمتد الفرجة في الزمن إلى قرون طويلة، مشكلة إبداعا فكريا فرديا وجماعيا نادرا، وهي تعكس هوية المجتمع وحياة الشعب المادية والفكرية والروحية، لأنها تتسم بالاتساع والشمولية، إنها تنتمي إلى كل الجماهير بمختلف أشكالها، وذلك راجع إلى أنها “تعتمد على اللغة اليومية المتداولة وتتوسل بالأداء الشفوي الحركي، النغم والإيقاع، وتتفرع إلى أنماط متعددة تجمع بين الآثار الفنية القديمة والحديثة، الشفوية والمكتوبة، المرئية والمسموعة...”[5]. وكذلك تجمع الفرجة بين اللغتين، الشعرية والتداولية، التي يحضر فيها الإرث غير الأصلي لصانعيها من خلال فعل المثاقفة.
إن الفرجة أيقونة اجتماعية، تعبر عن لحظات دفقة شعورية موحية ودالة عن الثقافة، لها أهميتها في التعبير أو تشكيل معالم الصراع الاجتماعي بشتى تجلياته في الحياة اليومية، والذي ينعكس موضوعا فنيا في الفرجة، لذلك يمكن “اعتبارها شكلا فنيا مصوغا ولعل ما يميزها عن باقي متاهات الحياة اليومية هي تلك الخصائص الطقوسية والجمالية، فقد تتضمن الفرجة لغة شعرية أو حركات تعبيرية رفيعة المستوى، أو عناصر فنية أخرى، كما أنها تعرض أمام جمهور يتكون من أغلبية لها ذاكرة مشتركة مع صانعي الفرجة، وفي هذا الإطار فإن انفصال الفرجة عن الحياة اليومية لا يصل إلى حد القطيعة ولكنه يجعلها تجربة مكثفة وموسومة”[6].
ومنه، يمكن اعتبار الفرجة طريقة يعي بها الناس هويتهم وثقافتهم، وفي نفس الوقت ـ ونظرا لتأثيرها الكبير في الفرد ـ يمكن اعتبارها مدرسة شعبية، فهي نبع الثقافة، حضور التاريخ، والسلطة، والأصالة، والذاكرة، والمقدس، والمدنس، والوجدان، والمتفرج/المتلقي ليس سلبيا، بل يظل داخل العملية الإبداعية، تستدعيه الفرجة للمشاركة في صناعتها وصياغتها، وهذا يعني أن جمهور الفرجة يتحول إلى صانعها وجزء من مكوناتها، مما يمنحها بعدا سوسيولوجيا في جمع الناس رغم اختلاف انتماءاتهم وطرح مصائرهم أمام أعينهم في قالب فني جمالي.
لقد أسهمت هذه الدراسات مع دعوات فكرية أخرى في ظهور الرغبة للعودة إلى الاغتراف من معين الفرجة الشعبية بعد وعي أهميتها، لكن الأسباب مختلفة ومتنوعة ومحكومة بسياقات متعالقة مع بعضها البعض، ونسوق هنا بعضا منها:
-
اجتماعيــــــــة: الحفاظ على الهوية الجماعية والفردية بما تختزنه الفرجات من عادات وتقاليد تحفظ وحدة الهوية.
-
اقتصاديـــــــة: استعمال الفرجة في جلب الاستثمارات السياحية وتقديمها كمنتج تجاري.
-
سياسيـــــــــة: استعمال الفرجة كوسيلة للحفاظ على الأنا من الآخر/المستعمر، واستعمالها من طرف المستعمر للسيطرة على المستَعمر (الأبحاث الأنتروبولوجية السياسية).
-
علميــــــــــة: يبتغى منها دراسة التراث الإنساني وحفظه من الاندثار.
لقد أدت هذه الأسباب إلى انتعاش دراسة الفرجة رغم ما كان يحكمها من نظرة دونية من طرف الطبقة “العالمة” في مرحلة من تاريخ الإنسانية، وكنتيجة لذلك، انتعشت بعض الأشكال الفرجوية إلا أن النظرة التسييحية جعلت من بعض “الأشكال الفرجوية متعلقة بمنطقة أو مدينة أو قبيلة. والحال أن هذه ليست سوى تسميات لا تعكس بنية اللون أو بعض خصائصه الجوهرية، بقدر ما تشير إلى مجموعة من المؤدين الذين تحولوا بفعل متطلبات السوق إلى محترفين لهذا النوع من العمل، أما تطابق ما يقومون به مع “أصوله” المفترضة فمن الصعب التأكد منه”[7] لأن الفرجة قد تحولت إلى منتج سياحي، وأصبحت تنفصل بالتدريج عن جس نبض الجماعة التي تنتمي إليها.
ونجمل هذه الإشكالية فيما عبر عنه الدكتور عز الدين بونيت بقوله: “لقد تحول المغربي في ضوء هذا الخطاب (الخطاب التسييحي) من شخص يعيش ثقافته الشعبية إلى شخصية يتفرج عليها بعيون أجنبية”[8]، وهنا أصبحت العلاقة بين المؤدي والمتلقي مضطربة، وفقدت الفرجة صانعها الحقيقي، وتقلصت نسبة مضاعفتها للواقع، وتكفل النسق الثقافي الهجين بتوجيه مسارها.
وخلاصة القول، لقد ظهر الاهتمام بالفرجة الشعبية في المغرب منذ سبعينيات القرن الماضي مع حسن المنيعي، الذي أشاد بدورها وأهميتها في قيام أسس المسرح المغربي، إلا أنه لم يفصل في كيفية تناول الفرجة، فظهرت دراسات تقسمها إلى:
-
“النمط الاستعراضي: ويعتمد التواصل مع المتفرج وعلى جماليات الحركة والاستعراض الجسدي وبلاغة “البصر”.
-
النمط الاحتفـــــــــالي: وهو الذي يستلزم مشاركة المتلقي في الإنتاج ومساهمته في الفعل وبناء العرض.
-
النمط الحلقــــــــــــي: وهو كل ما ينتمي إلى الحلقة في شكلها وشكل تواصله مع المتلقي.”[9]
ويعتمد هذا التقسيم على الأداء (النمط الاستعراضي)، والتفاعل بين المؤدي والمتلقي (النمط الاحتفالي) ثم الشكل (النمط الحلقي)، وكل هذه الأنماط تسهم في تصنيف الفرجة الشعبية ليسهل على الباحث دراستها، وهي تقسيمات تستند إلى بنية الفرجة وعلاقتها بمتلقيها، وهو ما ركزت عليه الأبحاث التي تعنى بدراستها.
[1]- حسن يوسفي، الفرجوي بين الحلقة والمسرح، مقال ضمن كتاب جماعي ”الفرجة بين المسرح والأنتروبولوجيا”، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان، سلسلة أعمال الندوات 6 2002، ص: 66.
[3] – نفسه، ص: 25.
[5] – نوال بنبراهيم، الفرجة المغربية من الإبداع إلى التلقي، ضمن كتاب “الفرجة والتنوع الثقافي”، منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة ط 2008، ص: 57.
[6] – خالد أمين، الفن المسرحي وأسطورة الأصل ( مساحات الصمت)، منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة، ط2 ، 2007، ص: 9.
[7]– نوال بنبراهيم، الفرجة المغربية من الإبداع إلى التلقي، ضمن كتاب “الفرجة والتنوع الثقافي”، منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة، ط2008، ص: 54.
[8]– عز الدين بونيت، الفرجة والدولة في المغرب عوائق في وجه التنوع الثقافي من خلال نموذج الخطاب السياحي للدولة المغربية، ضمن كتاب الفرجة والتنوع الثقافي، المركز الدولي لدراسة الفرجة، ط2008، ص: 49.
[9]– فؤاد أزروال، التلقي في الفرجة الشعبية بالمغرب، دراسة في الأنماط والأسس، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه 2004/2005، جامعة محمد الأول وجدة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، شعبة اللغة العربية وآدابها.