يوسف عدنان
أستاذ الفلسفة وباحث في التحليل النفسي والفلسفة
عندما نعود إلى تاريخ صناعة الدمى والتماثيل المتحرّكة كما عرفته ومارسته مجموعة من الشعوب والحضارات كالبابليين والبيزنطيين والإغريق واليابانيين وهلم جرّا، وإذا ما ألقينا نظرة عجولة عن فن الدّمى، فسنجدها قد استخدمت في غالب الأحيان من أجل أغراض فنيّة ووظيفية و حتى دينية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بإحراج، وعلى نحو جدّ مربك: لماذا يبقى الإنسان في حاجة إلى اختلاق دمى تخالطه عالمه المقرف، والمتنصّل من بعده الإنساني؟ وما نوعية الدمى التي تحتاجها هذه الذوات المطموسة والهشة لكي تحقق إشباعها ورغباتها المكبوتة ؟
إنّ الدّمى كما لا يخفى على الجميع هي تشكيلات ذات طبيعة صنمية، أي هي عبارة عن هيكل مرصّع بدون روح أو طاقة تلقائية الانبعاث منه. لذا فإن اقبال العامة من الناس على الدمى الجنسية الفيتيشية أو السياسية منها – حيث لا يوجد بالمناسبة فرق كبير بينهما في مجتمعنا – يعكس نوعا من الفراغ والخواء وحضور الهياكل والقوالب الجوفاء بدون أرواح ناضبة تعمّرها، وهو ميل إذا شأنا القول مدفوع بسعي لاشعوري لاستبدال الوهم بالواقع في سبيل تحقيق ارتياح آني وظرفي تتبعه هزّات وتشقّقات راسبة تعمق الفجوات وتوسع من مساحتها أكثر مما تعمل على ردمها وسدّها.
تلك هي مأساة الكائن المغربي المقهور عندما يتعذّر عليه التّعرف على نفسه، إذ تراه يسلّم أمره لدمى هي نفسها انطوى عليها نفس السّحر، بأن ظنّت أنها أصبحت تنعم بروح، كما لو أن الوهم قررّ أخيرا أن يصدّق نفسه. ففي مجتمع كرنفالي، طقوسي، تقليداني وشعبوي لا غرابة في أن تسود الدمى وتتمسرح الأقنعة وتختفي الوجوه الحقيقية وراء وهم الدمى وانخداع العقل. حيث لا شيء يتحرك من تلقاء نفسه، بل يحرّك من وراء ستار محجوب كما هو الحال في مسرح الكراكيز.
تجمع الجنس بالسياسية ارتباطات قوية قد يستسهلها غير الدّاري بهذه الأمور، ونقتصر على ذكر جانبا منها، وهو المتعلق بالكبت السياسي ذي الأصول الجنسية إلى جانب الجوع الجنسي ذي المنابع السياسية (من حيث التنشئة الاجتماعية العطوبة). فالأنظمة الديكتاتورية المغلوفة في ثوب الديمقراطية تشّل حركة الليبيدو وتبعثر اقتصاديته النرجسية وذلك باشتغالها على هوامات المشهد السياسي لتخّط الحدود الفاصلة بين المقدس والمدنس و بين المسموح والممنوع، حتى يمكن للسياسي أن يحدّد الجنساني. ويستحسن العودة في هذا الصدد لكتابات وليام رايش، الذي اجتهد مبكرا في فكّ شفرة الثورة الجنسية التي عرفها المجتمع الغربي وقتها، مع تعليق الحكم حول إمكانية اسقاط هذا المصطلح على ما يشهد المجتمع المغربي من تحولات قيمية على المستوى الجنساني خصوصا.
إن السياسة هي المجال الأنسب لبروز الدمى، ويمكن أن نشهد في قادم الزمن في بلاد العجائب طبعا دمى سياسية تطال بروفيلات رؤساء الأحزاب الذين أصبحوا مثل تلك البضاعة التي ينشط بها السوق في كل موسم وتختفي بعده سنة بأكملها. كما أن نفس الأدوار التي تلعبها الدمى الجنسية تستطيع أن تقوم بها الدمى السياسية بدون شك، فهي قادرة كذلك على الاستمالة، الاستثارة، التهييج والإغراء، تحقيق اللّذة المصطنعة بل المرضية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فقط ينقص الدمى الجنسية خاصية البكاء ودرف الدموع، وهو ما تجيده الدمى السياسية.
لقد اكتشف المغربي حقيقته المرّة والمخزية ولو على نحو متأخر، وهي كونه هو نفسه مجرّد دمية ليس إلاّ، فإما أن يكون دمية زوجته، أو رئيسه، أو شيخه، أو حاكمه أو غرائزه، وهي قد تأتي في آخر اللائحة. فكم من دمية تأتي وتذهب، منها من بثرت أعضاءها ومنها من احتفظ بها كديكور في إطار زجاجي ملّه الناظرين. ولعلّ الدمى السياسية اليوم ستبحث عن مسرح أكثر فرجوّية لكي تستزيد من منسوب الاعتقاد في فعالية الدمى ووهمها المرغوب فيه.
لقد حذرنا الفكر الفلسفي اليقظ مرارا من الثقة الزائدة في إرادة الشعب العمياء التي تتوق دوما الى صناعة التاريخ، بينما تنسى أنها مكبلة بحبال الوعي الجماهيري المنمّق والزائف المقيم في العقل الجمعي القطيعي. فالديمقراطية هي لعنة الآلهة على الشعوب المتخلفة، مادامت تحتكم الى كلمة الأغلبية ولو كانت مجرد دمى كما أسلفنا الذكر.
إنّ عقارب الزمن السياسي تدق عائدة إلى الوراء في واقعنا الحاضر وجميع المؤشرات تتضافر لتأكيد ذلك. وما إن نبتغي فهم ما يحدث، حتى نفهم بأننا لا ينبغي أن نفهم. ومن يدّعي أنّه فهم حقّا ما يحدث فهو لا يعدو أن يكون دمية أخرى تمكّن منها الوهم الذي أصبح مختلطا بالأشياء كحركة الهواء.