الرئيسية | سرديات | مثل بنت صغيرة | سناء عون

مثل بنت صغيرة | سناء عون

سناء عون (سوريا ):

 

أعرف جوعَك من غصّتي في اللقمة الأولى. أجلس على ربع الكرسي، تاركة لك حرية لفّ ساق على الأخرى. أقنّن الابتسام موفّرة شفاهي لك. أقلل استهلاكي للأيام مخبئة الفائض لحياة أختصرها معك. أمارس كل هذا وأنت هناك.

هذا النص بلا دهشة، ولا حكاية، ولا طموح أدبي واضح. الرومانسية التي أنتقدها عند الآخرين، ها أنا أسبح في ملكوتها للمرة الألف.

كنت سأتابع هذه النص الكلاسيكي، لولا الحدث الذي غيّر “الرومانس” إلى واقع سحري، بدّد الملل بمتعة كتابة نص واقعي عنك أنت حتى ولو جاء متأخّراً كعادتك.

الحدث باختصار أن الناس بدأوا يرونك بوجهي. كيف؟ لماذا؟ أين أنا؟ أين أنت مني؟ أسئلة تبقى مفتوحة حتى النهاية.

بعد نطقي لأول حروف اسمك، في ذلك اليوم البعيد، انهالت عليّ لعنات الصدف. تلك الصديقة تنظر بوجهي فتراك، ليأتي حضورك الاسمي بعدها كآية نزلت في آوانها. كيف تنظر بوجهي وتراك!؟ مبدلة كل تقاسيمي بتقاسيمك. كيف يشاهدون وجهاً ليس بوجهي يُرْسَم بمحيّاي..

فرحي الأولي بذلك الحدث، ومتعتي بالإضافة التي يقترحها خيالي الصبياني، برسم ابتسامة خرقاء مشبّهة نفسي بعبسي صديق عدنان، أو هاك صديق توم سوير، أو التحديق بغضب ممثلةً دور جان فالجان، أو حتى زوجة ذلك الأحمق بزيادة لطخات المكياج. مراقبة كيف تضيع ملامحك من على وجهي، وتفتقدك أعين المحيطين بي، لأمحو ما يعتقد الناس أنهم يرونه فيّ، انتهى هذا اليوم..

حتى ألعابي هذه، خسرت هذا الصباح، وأنا ألاحق متوالية الاستيقاظ الثقيل.

أستيقظ مثقلة بنوم لم يكتمل. أركض في سباق المارثون الصباحي.. تواليت، تنظيف الأسنان، غسيل الوجه، ارتداء الثياب بسرعة قياسية، علّي أنهي كل ذلك بوصولي إلى العمل قبل الثامنة.

لكن.. صورتك شلّت عزيمتي وخفّفت من وتيرتي المتسارعة. صورتك تحتل وجهي في المرآة. صورتي تتلاشى أمامك. وجهك، تقاسيمك، تحتل ملامحي. ما العمل؟؟

نظرت جيداً، أدرت رأسي، أمعنت النظر. الرأس ليس رأسي. الفم فمك، الأسنان أسنانك، العينان عيناك، والأنف أيضاً، باختصار وجهك يظهر بمرآتي.

وجهك مرآتي. نفضت رأسي، طردت شبح النوم، أرجفني الماء البارد وأنا أضع رأسي تحته. أمعنت النظر ثانية، إنه أنت. المرآة الأخرى، إنه أنت. ثمّ الأخرى، إنه أنت. ما العمل الآن؟؟؟

بسم الله الرحمن الرحيم.. أسمي وأنظر في المرآة، لكن لا شيء تغيّر. رحت أستدرج صورتي. أتذكر انعكاسها في المرآة. تذكرت عينيّ، شعري، أنفي، وأذني، لكن عبثاً. بقيت صورتك ملتصقة بمرآتي، تستغرب استغرابي من وجه رآه الجميع بوجهي إلايّ. وها هو يرغمني على رؤيته. لن ينقذ الموقفَ الآن إلا لعبة جديدة. قرّرت سريعاً، سأكونك اليوم.

الذقن طالت، لابد من تمرير آلة الحلاقة سريعاً على الرغم من التأخر. الوسامة مطلوبة، ربما تأنّث مسائي، والمساءات قاحلة بدون تأنيث.

مرّرت يدي على الذقن لأخمن مدى خشونتها. تباً.. اللمس اختل عندي أيضاً. الخد ناعم..! لا بأس، المرآة لا تكذب، هي يدي من تغش.

آلة حلاقة أخي تفي بالغرض. قليلاً من الكولونيا، وحرقة الجروح مع الكحول وينتهي الأمر. تنظيف الأسنان سريعاً وإلى ارتداء الملابس.

مشكلة أخرى..

ياهو يقول: درجة الحرارة عندك اثنان تحت الصفر، وفي دمشق 14 درجة، الفرق 16 درجة بيننا. لكلّ مشكلة حل.. شال صوفي سميك، وهذا المعطف المبطن بالفرو الأنيق، وتلك الكنزة الصوفية الزرقاء الجميلة التي أهدتني إياها صديقتي الفرنسية. (في الواقع هي أكثر من صديقة) صوف تلك الكنزة مناسب لدرجة حرارة متدنية كالتي في هذا اليوم. ما أجمل النساء نتدفّأ بهن دائماً. لن يستغرب أحد من ملابسي الثلجية الثقيلة. وداعاً للبرد، وداعاً لاثنين تحت الصفر. وداعاً لذلك الجو الدمشقي المشمس.

لا أذكر كيف امتدّ جسدي ليصبح بطول قامتك تماما. حتى قدماي طالتا لكن الحذاء الجديد ناسبهما تماماً. قليلاً من العطر المثير للنساء، تسريحة سريعة للشعر، قبعة جميلة دافئة.. وإلى العمل.

نسمة، سيارتي الحبيبة، تنتظرني أمام المنزل. ودعتها سريعاً فهي لن ترافقني هذا اليوم. إلى القطار. لكن، ثمّة مشكلة أخرى.. لا قطار في دمشق، ولا مترو أيضاً. إلى الباص..

ما كل هذا الازدحام.! تعاركت مع الركاب عند وصول السرفيس، صعدت أخيراً، لأجد نفسي بجانب فتاة جميلة، تبدو متأخرة مثلي. رمقتها بنظرة عابرة، وتظاهرت بالاهتمام بقراءة كتاب للشعر الأميركي، لكن هذا لم يمنع، أن أرسل نظرة إعجاب ماكرة بين الحين والآخر. سألتني فجأة عن عنوان الكتاب، دون أن أفتح فمي أدرت لها الغلاف. ونظرتُ مباشرة في عينيها. كانت ترتدي بلوزة تكاد تكون صيفية تبرز نهدين فتيين، يتدلى عليهما شال يلتف حول العنق ليظهرها شهية للغاية. أحسست بانتفاخ سروالي. يا للفضيحة! استر علينا، ليس وقتك الآن. سارعت للحديث معها، وأنا أضع الكتاب على السروال محاولاً تغطية هذا الانتصاب الذي جاء في غير أوانه. لأجد يدي تقع في حفرة عميقة، لا انتصاب، لا انتفاخ، لا شيء مما أحسست به، رفعت الكتاب ونظرت، لا شيء، لكني أحس به ينتفخ. يدي تكذب ثانية. يشتعل وجهي بالغضب، وأشيح بوجهي عنها. وقبل أن أفكر بإعادة الحديث إليها، والاعتذار بطريقة غير مباشرة عمّا بدر مني، توقف السرفيس.

“هل وصلنا إلى المحطة التالية؟” غمغمتُ أمامها، لتجيب بابتسامة ماكرة:

“إنه حاجز التفتيش.. وعليك أن تخرج هويتك قبل أن تسمع ما لا يعجبك أو تنال مالا يرضيك”

عندها فقط رحت أتساءل.. هل أدّيتُ الخدمة العسكرية (خدمة العلم).. دفتر الخدمة!؟ هل كتبتُ شيئا على الفيس بوك ليلة أمس؟ هل اسمي يدعو للشبهة!؟ هل هناك شيء بهويتي فيه تهمة!؟ سأسحب من قفاي من على هذا الحاجز بكل تأكيد. راح اللون من وجهي، تسارعت دقات قلبي، وبدأت باللهاث.. فتح باب السرفيس.. صرخ صوت بالخارج: “الهويات”.. كانت الهويات مجتمعة بيد أحد الشباب، هويتي بيدي، كنت بالقرب من الشباك، عندما مررت الهوية بابتسامة خجولة إلى العسكري الواقف كلوح أمامي وهمست بصوت لا يكاد يسمع.. صباح الخير.. لأسمع الرد الذي لم أتوقعه..

“صباح الورد لأحلى وردة”..

خذلتني أيها العسكري أمام هذه الفتاة. كنت أنوي أن لا أخرج من هذا السرفيس إلا ورقمها معي.. لكن لا يهمّ.. ألف خذلان من هذا النوع ولا عسكري يسألني عن دفتر خدمة العلم، أو الهوية، أو مكان الولادة. ليجبرني بصوت واحد على النزول من السرفيس لأكيل له التوسلات عله يتركني حراً بقية هذا اليوم.

جلست أتصفح كتاب الشعر الأمريكي والغضب يسيل من وجهي، فصباح الورد.. وردة.. كانت لي أنا وليس لغيري.

الركاب ينزلون لقطع المسافة سيراً. لن أنزل ولو بقيت الأخير في هذا الباص المتخلف. ها هي الفتاة تتركني متابعة طريقها على الأقدام، سألتها قبل أن تغادر: “هل السير أسرع؟” أجابت: “طبعاً.. فهذا حاجز الأربع ساعات.. ومن هنا، من عند هذه الدبابة إلى أخر الخط عشر دقائق سيراً على الأقدام. لكن سير سريع وليس مثل سيرك حسب ما أتوقّع”.

كدت أشتمها، وندمت على الساعة التي جلست بقربها..

قررت عدم النزول ولو تأخرت على العمل لساعتين إضافيتين، لكن قراري باء بالفشل هو الآخر، عندما التفت سائق الباص وصاح: “آخر موقف..” ثم التفّ وعاد إلى حيث أقلني..

نزلت مرغماً، كانت فوهة الدبابة تنظر إليّ بلا شفقة. هرولت مسرعاً، متجاوزاً الدبابة الأولى. وصلت إلى الثانية، وبعدها الحاجز، والحاجز الآخر، الذي طلب أن يفتش حقيبتي، أنزلتها عن ظهري وأعطيته إياها بكل هدوء وأنا أتمنى أن لا يطلب الهوية ويسوقني إلى الخدمة.. أعاد الحقيبة بسرعة قبل أن أتمكن من معرفة لون عينيه.

وصلت إلى العمل، الساعة تشير إلى التاسعة. قليلٌ من القهوة، مزيدٌ من القهوة، ثم القهوة. عمل.. عمل.. عمل. قررت أن أخرج قبل انتهاء الدوام الرسمي، فعليّ بعض الأعمال التي يجب إنجازها. زيارة مكتب البريد لأبعث لصديقتي في باريس بطاقة تهنئة، (أنا لا أحب ذلك، لكنها تصر على هذه الترهات) لقاء مع شاعر فرنسي يهتمّ بالأدب العربي، ويفكر بترجمة بعض الأعمال العربية. علّي أن أزوّده ببعض العناوين. ثم الذهاب إلى المسرح لحضور مسرحية دعيت إليها من قبل صديقة ألمانية (بيننا إعجاب متبادل)، علّ الفجر لا يطلع عليها إلّا وهي في سريري.

الطريق لا يقبل أن ينتهي. ليس بمزاجه، بل مكرهاً بحاجز. توقف السير لكيلو مترٍ على الأقل، استقليت قدمي وتابعت باتجاه البريد، لأجدني متأخراً على الشاعر الفرنسي. جربت الاتصال به للاعتذار. لا تغطية، الشبكة مشغولة، يجب أن أذهب سريعاً إلى المسرح، لأن الشوارع لا تنبئ بالخير.

في الطريق إلى المسرح انقطع السير ثانية. حاولت التسلل من عدة جهات، لكني فشلت. سيارة مفخخة؟؟ عبوة ناسفة؟ قذيفة هاون سقطت بالقرب من المكان. قطع الطريق بالكامل حتى على المارة.

خلعت المعطف.. انتزعت الشال الصوفي السميك.. حررت شعري من قبعة وربطة شعر كادت تخنقه.. وبكنزة زرقاء خفيفة، وحقيبة مدرسية مفتوحة، اخترقت الحاجز العسكري ضاحكة للعسكري العشريني، الذي راح ينظر إليّ مبتسماً بدوره، ناسياً للحظات تفتيش السيارات والمارة معاً.. “تفضّلي”..

تابعت طريقي سيراً على الأقدام باتجاه البيت.

كيف سأعيش هذه التفاصيل وأنا أنت!!؟؟ لا دبابة عندك، لا قذيفة هاون ولا مدفعية، لا صوت رصاصة، لا قطع طريق، لا عبوة ناسفة، لا سيارة مفخخة، لا قطع كهرباء، لا حواجز عسكرية.

لا صديقة ألمانية أو فرنسية أو حتى عربية عندي.. لا مسرح، لا معرض كتاب، لا أنطولوجيا عربية مترجمة للفرنسية أو للإنكليزية.. لا أمسية شعرية، لا أمسية موسيقية، لا مهرجان سينما، بل لا سينما..

الحواجز غير موجودة هناك، والطرق العسكرية لا تفتح للمدنيين. لم يعد باستطاعتي تخيّل طريق بلا حاجز. فقدت القدرة على رسم طرق نظيفة وهادئة، يعبرها الناس بلا توقف لثلاث أو أربع ساعات. كيف أرسم بلادي مثل بلاد هانئة..!؟

وصلت إلى البيت قبل غياب الشمس.. فتحت الكمبيوتر، ألقيت نظرة على الأصدقاء الافتراضيين. كتبت بعض عبارات التهنئة والمعايدات. تضامنت مع الثورات العربية. وقبل أن أوافق على بعض الانتقاد للثورة السورية، انقطعت الكهرباء.

أخذت دوشاً ساخناً. ألقيت آلة الحلاقة في سلة المهملات. تابعت التعامل مع جسدي ووجهي بالمزيد من الكريمات الليلية المرطبة. سرحت شعري جيداً. قليلاً من مرطب الشفاه بلون وطعم الرمان. قليلاً من طلاء الأظافر العسلي. ارتديت ثوب نوم أبيض حريري. وأمسكت بمخطوط “قطعة ناقصة من سماء دمشق” لصديقي رائد.. متهيئة لقراءته هذه الليلة..

تذكرت قوس قزح، والركض المجنون للحاق به. كنا نحاول تحقيق الأسطورة القروية بالتحوّل إلى الجنس الأخر بمجرد المرور تحت قوس قزح..

لتهنأ يا قوس قزح بين مطر خفيف وأشعة دافئة، سيخفّ لهاثك الآن، فلن تركض بنت صغيرة خلفك بعد اليوم..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.