دة:إلهام الصنابي
” قد أسْمعت لو ناديت حيًّا أيتها المصابيح”
إن الحديث عن قضية الآثار هو حديث عن الذاكرة المجتمعية، وترمومتر ماضي المجتمعات وحاضرها ومستقبلها، خصوصا في ظل المتغيرات التي تسعى إلى طمس الهويات وهدم الحضارات وسرقة الذاكرة والتاريخ، فماذا سيتبقى للإنسان إن سرق ماضيه، وتعفن حاضره؟ وتعرض للردم تحت رفات الهوية الضائعة؟ أي مصير للإنسانية في بعدها الثقافي في عهد الآبل والهواتف الذكية التي تلتقط اللحظة ببصمة واحدة، وسرعان ما تمحى اللحظة نفسها ببصمة أخرى؟
من هنا شكلت قضية التراث والحفاظ عليه قطب الرحى عند عدد من المثقفين الغيورين عليه، ومن بينهم الروائي المغربي “حسن إمامي” الذي يسعى في كل إنتاجاته الإبداعية السردية إلى بسط قضية الهوية والذاكرة الإنسانية باعتبارها قضايا الوجود الإنساني، لِم لا وهو ابن مدينة مكناسة الزيتون وبوح التاريخ، مكناسة مولاي إدريس زرهون ووليلي، إنها عوامل ساهمت كلها في جعل هذا الإنسان المبدع قلما منافحا عن قضية التراث الثقافي في المغرب عموما، ووليلي على وجه التحديد، فجاءت رواية “صرخة المصابيح” لتكشف بأسلوب سردي موضوع سرقة الآثار الرومانية في ليلة كان من المفترض أن تكون ليلة الاحتفاء بالثقافة والتاريخ، ليجد السارد نفسه أمام سراديب ومتاهات، متسائلا ومستغربا ومستنكرا مجموعة من الحالات الاجتماعية، وليجد نفسه من حيث بدأ لا هو وصل إلى الحل ولا هو استطاع الإجابة عن الأسئلة، لتبقى القضية مفتوحة على المجهول.
1- متاهات الحكي وسراديب السرد: تتبع صوت الصرخة…
تدور أحداث هذه الرواية حول مصابيح ترجع إلى العهد الروماني الذي أرخ وجوده في المغرب في القرن الثالث قبل الميلاد، متخذا مدينة وليلي عاصمة له ومركزا لحضارته في شمال إفريقيا، هذه المصابيح التي تم نقلها من موقعها الأثري بوليلي إلى مدينة مكناس حيث سيقام حفل ثقافي باذخ، وقد كلفت مندوبية مديرية الثقافة وكذا محافظ الموقع علي بن محمد بمهمة نقلها باعتباره موظفا في إدارة الموقع، إلا أن القناديل ستلاقي مصيرا مجهولا وستختفي ليلتين بعد ذلك، ليكون السؤال العريض: أين هي؟ وتتناسل بعدها الأسئلة: من سرقها؟ ولماذا؟ وما مصيرها؟ وهل من سبيل لاسترجاعها؟ وكيف؟..
وضمن هذا الحدث الأكبر تدور أحداث أخرى أدخل السارد المتلقي غمارها رغما عنه، وهي أحداث بينها رابط موضوعي يتجلى أساسا في تيمة “البحث عن الضائع” الذي اختلف في الظاهر واتفق في الجوهر، البحث عن القاتل، عن السارق..، إنها متاهات البحث في سراديب عميقة عل هذا المجهود يفضي للهدف المنشود وهو إيجاد المصابيح، ومعها إيجاد منافذ لكل السراديب، وسنقف في هذا المقام عند بعض المتاهات التي كانت مهيمنة على السرد.
-المتاهة الفنية:
قام السارد بإدخال المتلقي عالم متاهات حكيه منذ الصفحة الأولى عبر استحضار مجموعة من عناوين الكتب والأفلام السنيمائية التي سيستشف القارئ علاقتها المباشرة بموضوع الرواية، مما يستدعي وجود قارئ نموذجي له ثقافة فنية سينمائية وروائية وحتى سياسية، إنها تجربة روائية مبنية على الرواية المؤطِّرة والروايات المؤطَّرة، ويمكن تصنيف هذه المتاهات الفنية إلى أنواع متعددة، من بينها:
-المتاهة السينمائية:
أول ما يطالعنا به السارد فيلم سينمائي عنوانه “مذكرة البجع” يحكي قصة ” درابي شو (جوليا روبرتس)” الطالبة الجامعية في كلية الحقوق العاشقة للبحث والمساءلة، و” دراي غرانتام (دينزيل واشنطن)” الشاب العاشق للاستفهام والتنقيب في الأسرار والخبايا، وهو فيلم يتحدث عن هوس الطبقات الإمبريالية بمضاعفة أموالها وزيادة نفوذها وسلطتها، في مقابل تدمير الحياة البيئية الطبيعية العادية[1].
أما الفيلم الثاني فهو الشريط السينمائي حول المفكرين “نيتشيه وفرويد” وقد استحضر سعيد الحاكي هذا الفيلم بعد مشاهدته للوحة فنية على جدار حانة ولجها بحثا عن الحقيقة الكامنة وراء اختفاء المصابيح الرومانية، وهي لوحة مزجت بين الجنس والفكر، وقد انتبه إلى الجملة المكتوبة أسفل اللوحة “ماذا يوجد في عقل هذا الرجل؟”
-المتاهة الروائية: “الميتاسرد”
قام السارد باستحضار الفن الروائي بشكل لافت في هذا العمل، بما يمكن عده ميتاسرد حقيقي، وذلك انطلاقا من مجموعة من الأعمال الروائية سواء منها المغربية أو الأجنبية، فأما الأعمال الروائية المغربية فنقف عند رواية “القوس والفراشة” للروائي المغربي محمد الأشعري الفائزة بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية عام 2011، والتي تعرض لقضية الآثار أيضا، مركزة الحديث على تمثال “باكوس” في رحلته السرابية بين الظهور والاختفاء، كما استحضر في السياق نفسه رواية محمد امنصور المعنونة صراحة باسم التمثال “باكوس”، “دموع باخوس”، التي تسير في السياق نفسه، سرقة الآثار الرومانية من مدينة وليلي[2].
أما النصوص الروائية الأجنبية فقد أحالت عليها بالخصوص شخصية “لبنى” صديقة سعيد الحاكي المهووسة بقراءة الروايات البوليسية وعلى رأسها كتابات “أكاتا كريستي”، مما جعلها تتمتع بفكر ومخيال واسعين، يقول سعيد الحاكي واصفا هذه الروايات “وإن كانت لغتها (أي لبنى) المفضلة هي الفرنسية، ورواياتها المنتقاة للقراءة تتصف بالطابع البوليسي في بحث القضايا وفك الجرائم وتحليل الشخصيات”[3]، وكما في قوله أيضا “وجدها غارقة في نصف تأمل للساحة ونصف قراءة لصفحات السلسلة البوليسية اليابانية المترجمة بين يديها”[4].
إن نقط الالتقاء التي يمكن الوقوف عندها من خلال هذه المتاهات الفنية هي الآتي:
من حيث الأدباء: الأشعري وحسن إمامي ومحمد أمنصور هي شخصيات أدبية روائية تنتمي إلى مدينة مكناس، وإمامي والأشعري ينتميان إلى منطقة مولاي إدريس زرهون المطلة على مدينة وليلى الأثرية مما يجعلهم متشبعين بروح التاريخ وشغوفين بالآثار، ومنافحين عن الذاكرة والحفاظ على الهوية.
على مستوى القضايا: تتقاطع كل المتون السينمائية والروائية حول قضية واحدة وهي قضية الذاكرة والهوية والتراث والطبيعة، فالبيئة في فيلم البجع هي تراث إنساني كما الآثار في باقي المتون.
–المتاهات النصية:
يقوم سعيد الحاكي في نصه هذا بسرد قصة المصابيح المسروقة وهي القضية البؤرة المؤطِّرة التي قامت عليها هذه الرواية، إلا أنه وهو يخوض غمار البحث والتنقيب عن سر اختفائها، يدخل غمار حكايات أخرى، ويُدخل المتلقي في متاهات سردية يفقد خيوطها في أحيان كثيرة، لتتبدى له في الأخير أن المنفذ والهدف واحد، فنقف عند حدود الالتقاء والاتفاق.
ومن هذه المتاهات النصية نجد متاهات الشخوص حيث يقوم السارد بتفصيل الحديث عن شخوص روايته وعلى رأسهم علي بن محمد، الذي يعد الخيط الأول لمعرفة حقائق سرقة المصابيح الرومانية، وقد قدمه السارد على اعتبار السند الشخصي والوظيفي باعتماد تقنيات الوصف المتقطع، إذ لم يفصل القول في شأن تفاصيل حياته في الوهلة الأولى أو في فصل واحد، بل ألفيناه ينشر أخباره في فصول كثيرة من الرواية، ثم نراه يغيب كليا في كثير من الفصول إلى أن يعود للظهور مرة أخرى باقتضاب وبتخف، وإذ نحن في انسجام معه، يدخلنا السارد متاهة لبنى، تلك الشخصية التي كان لها الدور الكبير في تحريك خيوط القضية وتفاصيلها، تعرف إليها سعيد في العالم الافتراضي تحت مسمى “نوال” ويبدو أنه لم يستسغ هذا التخفي وراء اسم مستعار، لذلك يستغله في كثير من الأحيان مبررا لقطع علاقته بها، يقول: “ولقد سبق للبنى أن تصرفت بغير اللائق، حين إخفاء اسمها الحقيقي… لبنى متاهة الغموض بالنسبة لسعيد”[5]، وقد استعان بها الحاكي لترافقه في رحلته الدونكشوطية للبحث عن المصابيح الرومانية المسروقة، نظرا ليقينه في ذكائها البوليسي المستمد من طبيعتها الأنثوية أولا، ومن قراءاتها للأدب البوليسي ثانيا، وهي بذلك قادرة على تتبع خيوط القضية رغم تشابك متاهاتها، دون إغفال للعلاقة العاطفية التي تربطهما، والتي كانت تنقطع بالأشهر لتتجدد أياما قلائل.
أما متاهة سي سفيان كما يحب أن يناديه سعيد فيعد بحق غابة أدغال أمازونية، إذ استدرج سعيد منذ البداية وغاص معه وبه في متاهات البازارات المكناسية والزرهونية، كما رمى به في سراديب الفكر الجرائمي بعد مماته، بعدما كان يعتقد سعيد أن سي سفيان هو الخيط الرفيع للبحث عن المصابيح وكشف أسرار اختفائها، تربطه علاقات مصلحة مع العديد من أصحاب البازارات في مدينة مكناس وغيرها كمراكش مع الحاج عبد الحميد، سيدخل سي سفيان مع سعيد الحاكي، ليبحث في الممنوع عن الممنوع، في عالم الحانات، قال عنه سي علال وهو أيضا أحد دهاليز الرواية “سفيان هذا، مجرم خطير، إذا أردت حتى ورقة توت سيدنا آدم موجودة عنده، ههه”[6]، وربما كلام “سي علال” يبرر لنا لماذا تعرض سي سفيان لمحاولة قتل أولى لكنه لم ينج من الثانية، مما جعل تفاصيل كثيرة من موضوع الآثارات تبقى غامضة، كما بقيت أسباب قتله أيضا غامضة في أبحاث الشرطة القضائية وعند سعيد نفسه، إلا أنها لا تخرج عن كونها إما بسبب علاقاته المتعددة مع نساء متزوجات، أو علاقاته المشبوهة مع شبكة غريبة من الناس تتعامل معه في كل أصناف التجارة الخاصة بالمنتوجات القديمة، وأيضا إغراقه لبعض دليلي السياحة في القروض والفوائد وعجز الكثير منهم عن تسديدها[7].
ونظرا لمكانة وليلي التاريخية إذ تزخر بآثار تعود إلى عصور سحيقة في التاريخ البشري بالمنطقة، تستهوي الباحثين الأركيولوجيين وعلماء الآثار، فقد كان من دواعي السرد واكتمال الرؤية الفنية والحكائية أن تتسلل شخصيات أجنبية مهتمة بهذا الجانب التاريخي، لذلك وجدنا الحاكي يعقِّد متاهات السرد بشخصية ليز تلك الباحثة الكندية في علم الآثار، والتي تعد عضوا مهما من أعضاء البعثة الكندية التي تقوم بأبحاث علمية وحفريات أركيولوجية بمدينة وليلي بموجب شراكة مغربية كندية، هدفها تحديد المناطق الأثرية بالمغرب عموما ووليلي خصوصا وصيانتها، لليز قصة مع علي بن محمد تختلف تماما عما عهدناه في الروايات العربية التي قدمت علاقة الرجل الشرقي بالمرأة الغربية علاقة مبنية على العاطفة والجنس، بل أماط حسن إمامي اللثام عن نوع راق جدا من التواصل الإنساني الثقافي المعرفي، حيث تدخل ليز إلى بيت علي بن محمد، وتتعرف إلى زوجه وأبنائه، وتستمتع بقصعة الكسكس، وعندما تغادر يجهش الجميع بالبكاء حزنا على فراقها، هذه العلاقة مبنية على أسس التوازن العاطفي الذي يحياه علي بن محمد في بيته، إذ يقول واصفا جو الفراق “تكون تعابيرها راسمة لتعابير طفلة ستبتعد عن والديها، يكون العناق بحرارة، أكون أنا وزوجتي وأولادي نشعر بألم هذا الفراق، لكنه يزيدنا حبا لأنفسنا وتمسكا بما نملك وحفاظا على مكتسباتنا الوجدانية”[8]
متاهة ليز كانت مؤدية إلى سرداب آخر ضمن منظومة السرقات الأثرية، لكن هذه المرة ليس سرقة مادية فقط وإنما سرقة معنوية أيضا، إنها سرقة المعارف والملكية الفكرية والأمانة العلمية، تقول لعلي بن محمد حول شخصية عبد العظيم:
-إذاً لماذا يطلب مني كتابة اسمه في التقرير؟ ولماذا يوقع بدلا عنك في المكافأة التي أوصيتُ المعهد ببعثها لك من مونتريال؟ خلته سيفهم ويسلمك القدر المادي أمانة، لكن للأسف جعله لنفسه، أنت من قام بالمجهود الكبير في مساعدتنا ورسم ما يسهل أبحاثنا.
وتكتشف لجنة الأساتذة الباحثين سرقة عبد العظيم لمجهودات علي بن محمد المعرفية والعلمية، ونسبها إلى نفسه في بحثه لنيل شهادة الدكتوراه:
“-على الاقل آ سي عبد العظيم، كان عليك الاعتراف بمجهود الآخرين وذكرهم بدل نكران أي مساعدة، نعلم نوعية دراسات سي علي، وتأكد لنا أنه هو صاحبها، إننا نلومك أولا على الأمانة العلمية الغائبة ثم على الخيانة العلمية، “[9].
وبسبب تطوافه الكثير والمتشعب بين ثنايا الحكايات الموازية والمتشابكة في قصة المصابيح المسروقة، كان سعيد يشعر في كل لحظة بابتعاده عن بؤرة السرد وعن الخيط المؤدي إلى المصابيح، فنراه يعود أدراج الحكي، تاركا الفجوات المعرفية والسردية إلى فرص أخرى قد يحين وقتها في متواليات هذه الرواية، أو قد تكون موضوعا لعمل روائي آخر، أو قصدا منه ليكون المتلقي متلقيا يقظا ومفكرا وباحثا، ويعبر لنفسه وللمتلقي صراحة عن هذا التشعب وعن هذا الاستدراك، يقول السارد “يدرك سعيد الحاكي بحدسه أن التجوال في هذه المحطات قد يبعده عما يبحث عنه، يريد أن يصل إلى القناديل”[10] ويقول في مقام آخر غير بعيد هو يستنطق الطالب الباحث عبد العظيم وليز الكندية “..تلك روايات ستغير مجرى الأحداث؟ سيكتفي داخلها بهاته، لكي يبحث عن صرخة المصابيح ومصيرها المجهول”.[11] كما أن لبنى كانت تشير عليه بترصد هدفه وعدم الاستسلام لتشابك الأحداث والانصياع في متاهاتها تقول “اترك كل هذا وأبعده من ذهنك، اكتفي بترصد طريق القناديل لكي تجد ضوءها”[12]
2-غواية الأسئلة: أين الحقيقة الضائعة؟
ما معنى أن تصنف مدينة وليلي ضمن لائحة التراث العالمي عام 1997م؟ ماهي –إذاً-مميزات هذه المدينة التي تقف شامخة بأسوارها وقبابها وأقواسها وزخارفها في وجه الزمن، منذ تأسيسها؟
“صرخة المصابيح” هي رواية الأسئلة الوجودية والإنسانية بامتياز، أسئلة يطرحها السارد على نفسه أولا، وعلى محاوريه داخل الرواية ضمن مسيرة البحث، وعلى المتلقي الذي يصاب بدهشة التلقي ودهشة السؤال ودهشة الواقع الذي جعل من سعيد الحاكي يخوض في مساءلة الذات ومساءلة المعيش اليومي، الاقتصادي منه والثقافي والقيمي، عبر عرض المتناقضات، فمتى تكون الخمرة المسكرة الحاجبة للوعي والفكر سببا في ظهور الحقيقة وإدراك الواقع، “فهل تستطيع الخمرة أن تجعل القاع يطفو فوق السطح؟ حتى نرى حقيقة الغرق في خفايا الحياة والواقع؟”[13] وكأننا بسعيد الحاكي يتدرج في مدارج الفكر الصوفي ونظرته للخمر التي تقوم بفصل الإنسان عن عالم الماديات والارتقاء به إلى عالم الروحانيات حيث الحقيقة المطلقة، وليس الهدف من وراء ذلك سوى الوصول إلى حقيقة القناديل، وإسماع صراخها للعالم كله، فهل من مستجيب؟
-أسئلة المصابيح وضياع الأجوبة:
من سرق المصابيح؟ ولماذا أصر “سي سفيان” قبل موته عدم الإفصاح عن سر الاعتداء عليه؟ فمن قتله؟ ولماذا؟ ولماذا امتنع “الحاج حميد” عن البوح بأسرار تجارة البازارات؟ ولماذا طُلب من “سي علال” عدم الإدلاء بالشهادة الحقيقية؟ ومن هي زوجة المسؤول المتورط في القضية؟ ومن تكون المافيا المنظمة المتخصصة في سرقة الآثار؟ من المستفيد من هذه السرقة؟ لماذا يتم عقد الصفقات التجارية الخاصة بالآثار في الحانات؟ لماذا يتم إذلال دليل السياحة بالقروض والفوائد؟ ولماذا أصرت لبنى على إخفاء مذكراتها؟
ولماذا كلما حاول سعيد الحاكي البدء في محاولة إيجاد الحقيقة وكشفها دخل متاهة تبعده عن الخيط الأول، لماذا لعبة الاختفاء والظهور هي المسيطرة على الرواية؟ إلى أن أصبح سعيد “يبحث داخل الممنوع عن الممنوع، تيه داخلي يعيشه الأفراد يوميا في فقدان لبوصلة حياة روحية مستقرة”[14]، إن الأسئلة هي ديدن الكاتب نفسه وهي تبدأ بالاستطراد تباعا، انطلاقا من عنوان هذه الرواية، “صرخة المصابيح”، لماذا تصرخ المصابيح؟ ماذا جرى لها؟ وهل المصابيح تصرخ أصلا؟
المصابيح ما هي في الحقيقة إلا جزء من مكونات التاريخ الذي يزخر به المغرب عموما ومدينة وليلي بوجه أخص، وتصنيف المدينة ضمن التراث العالمي لدليل قاطع على قيمة معالمها التاريخية، وسرقة الجزء هي في الحقيقة مشروع سرقة الكل، وقطعا هذه السرقات لا يمكن أن تكون بصورة فردية عشوائية، وإنما هي سرقة ممنهجة تحت إشراف منظمات ذات شبكات متفرعة داخل المواقع الأثرية، تخطط وتبرمج وتنفذ، فالرواية إذاً تطرح سؤال تجارة الآثار بالطرق غير المشروعة، داخل قطاع غير منظم، ظاهره السياحة وباطنه سرقة التاريخ، لذا نجد حسن إمامي ابن مدينة مولاي إدريس زرهون المطلة بعنفوانها التاريخي على روح التراث في وليلي يغوص في متاهات الحكي ليجد نفسه تحت سيطرة الأسئلة، وداخل هذه الأسئلة نجد أسئلة أخرى يطرحها السارد حول شخصيات الرواية وأوضاعها، ويتعلق معظمها بالتناقضات والمفارقات في مجالات الحياة اليومية بكل أبعادها وتجلياتها، يقول مثلا وهو يتحدث عن سعيد “عيبه الوحيد الذي يعجبه كثيرا ذلك الإدمان على السجائر”[15]
تتوالد الأسئلة في مخيلة سعيد باعتباره الحاكي لأهم فصول هذه الرواية البوليفونية، كما تتوالد أيضا وتتشابك في ذهن كل شخوصه التي تناوبت على الحكي في مواطن متعددة، وهو يستعرض فيلم “مذكرة البجع” باعتباره العتبة الفنية الأولى لبلوغ مقصد الحكي، كان سعيد الحاكي منشغلا في طرح سؤال عميق حول العلاقة بين المطامع النفسية والمصالح العامة: “لماذا هذا الهوس الجديد والذي ليس بأول، ولن يكون الأخير”[16]، قطعا لن يكون الأخير ورواية “القوس والفراشة” و”دموع باخوس” وغيرها وصولا إلى صرخة المصابيح لخير دليل على استشراء هذا الوباء القاتل في المجتمع الإنساني.
رواية صرخة المصابيح هي رواية الأسئلة بامتياز فلا تكاد تخلو صفحة الحكي من وجود سؤال أو سؤالين وقد يتعداهما، يقول متسائلا عن كيفية الكتابة حول موضوع ما مادامت الكتابة “عشق مقدس”[17]، “هل مارست سلطة وصايتك على كرسي الاستوزار؟ ما الذي اطلعت عليه؟ هل هناك أسرار؟”[18]، أسئلة مشروعة جدا، حتى عند المتلقي الذي تتشعب لديه دلالات المصابيح، أُتراها المصابيح الحقيقية الرومانية ذات البعد التاريخي؟ أم تراها تلك المصابيح ذات البعد الرمزي، فإذا كانت الحقيقية تحمل نورا يجلي عتمة الظلام وتنير طريق المشاء ليلا، فهي أيضا ذلك النور الرمزي، نور العلم والمعرفة للعقول والأذهان، فتُدرك الحقائق تامة غير ناقصة، يقول وهو في حالة تفكير عميق، “تعلمين، لبنى، أظن أن المصابيح التي نبحث عنها يجب أن تكون لعقولنا كمجتمع ما زال يؤمن بمثل هذه الأفكار المظلمة التي يغيب عنها نور العقل والعلم”[19]، وهي العبارة نفسها التي ارتأى الروائي أن يجعلها على الصفحة الرابعة لغلاف روايته، باعتبارها عتبة معينة لقراءة المتن واستيعاب أبعاده السردية والرؤيوية.
-سلطة الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية:
إن قصة المصابيح/ النور، في مقابل قضية الظلام /العتمة، هي قضية تلقي الضوء على تناقضات المجتمع التي لم يجد لها تفسيرا، فسؤاله عن الطقوس الدينية التي تعج بها مزارات الأضرحة ومدافن الأولياء توضح المستوى الاجتماعي والفكري للإنسان المغربي والعربي عموما الذي يعيش الجهل والفقر والشعوذة، يتساءل سعيد مجيبا نفسه في استفساره حول زيارة لبنى الواعية المثقفة لبعض المزارات: “لماذا ذهبتِ إلى هناك –قد يسأل سائل- لا بد لك من التبرك بطلعتهن وقراءتهن؟”[20]، فهل أقنعت لبنى سعيدا بمبرراتها؟ وهل أقنع سعيد لبنى بأسباب رفضه لمصاحبتها له في هذه الأماكن؟[21]
وفي خضم البحث يتساءل سعيد عن بعض المظاهر الاجتماعية التي صادفها: “ما درجة استعداد المواطن البسيط في معارضة قدر السياسة الذي أصبح مسلطا على الرقاب؟ من يستطيع الدخول في التحدي؟”[22]، وقد جاء تساؤله هذا في سياق شهادة ابن الحارس الذي كان مكلفا بحراسة المكان ليلة السرقة، وقد طلب منه تغيير إفادته وعدم الزج باسم زوجة الرجل المسؤول في أقواله الخاصة بالحادث، فأي مسؤول هذا؟ وما درجة سلطته ونفوذه في التراتبية السلطوية، أليست التراتبية الاجتماعية بما فيها الفقر والتهميش هما السبب الأساس في رضوخ ابن الحارس لهذا الأمر الذي وجب أن يُطاع؟ وإذا كان الذي ينطق ويشعر هكذا فما بال وضع الذي لا يتحرك، “إذا كان هذا وضع الإنسان في البلاد، فما بالنا بوضع الآثار به؟”[23]
3-أبعاد الرواية ورهاناتها:
إن متاهات سعيد الحاكي الحكائية وتساؤلاته وتساؤلات السارد وتساؤلات الرواية عموما تطرح لا للإجابة عنها، بل طرحت لتخلخل الفكر والوجدان، وتعطي انطلاقة تشغيل العقول التي تجمدت بسبب هيمنة المصالح الذاتية، ونقص الإحساس بالمواطنة وبأهمية الذاكرة المؤسسة للفكر الجمعي، لذا يمكن القول إن رواية “صرخة المصابيح” جاءت لأهداف ورهانات محددة يمكن إجمالها في:
-البعد الاقتصادي: إن رواية “صرخة المصابيح” جاءت لتميط اللثام عن اقتصاد غير مهيكل وغير منظم يفوت على المغرب الملايير من الدراهم يوميا، فبدلا من أن تدخل إلى خزينة الدولة ويتم إعادة تصريفها في قطاعات حيوية تعود بالنفع على المستوى المعيشي للسكان، فإنها تبقى محصورة في يد مافيا دولية، يقول تاجر البازار وهو يحاور سي علال “-اسمع اسي علال، العيش في هذا البلد بمنطق أصحابه يجعلك لا ترتاح ولو ربحت الملايين يوميا، كم من جيب يحتاج إلى درهم رشوة، أنت مثلا هل عندك رخصة ثابتة للعمل كدليل سياحي، كم من إكرامية لأصحاب الحال؟ هه، أية راحة وأي أمان على الغد؟”[24]
-البعد الوطني: حيث سعى حسن إمامي إلى بث روح التربية على المواطنة وعلى الإحساس بالمكونات التاريخية والأثرية المتبقية وضرورة الحفاظ عليها، فإن كان بعضها قد تم الاستيلاء عليه بمنطق المصلحة الذاتية وفق خطط تابعة لمنظمات مجهولة، وإن سرقت في الماضي الكثير من الآثار فإن الرهان الأكبر هو كيفية الحفاظ على ما تبقى منها، ولن يتحقق هذا البعد إلا بالاحتماء بنور المصابيح التي تنير العقول والألباب كما أقر حسن إمامي نفسه “أظن أن المصابيح التي نبحث عنها يجب أن تكون لعقولنا”[25].
الهوامش:
[1] – صرخة المصابيح لحسن إمامي، مطبعة وراقة بلال، الطبعة الاولى 2016، انظر الصفحة 3-4
[1] -انظر ص: 11[1]-ص: 62 [1] -ص: 79 [1]-ص:98 [1] -ص:48 [1]-انظر الصفحة 158 [1]-ص: 36 [1]-صص:28-29 [1] -ص:- 38 [1]-ص: 40 [1] ص: 160 [1]-ص: 42 [1]-ص: 42 [1]-ص: 3 [1]-ص: 4[1]-ص:66 [1]-ص:12 [1]-ص: 133 [1]-ص: 115 [1]-ص: 129[1]-ص: 164 [1]-ص: 173 [1]-ص:45 [1]-ص: 133 [24] -ص:45 [25] -ص: 133