الرئيسية | أدب وفن | متاهات السرد وحمق التشظي قراءة في رواية “رقصات على خاصرة الوجع” لعزيز أعميرة | علي أوعبيشة

متاهات السرد وحمق التشظي قراءة في رواية “رقصات على خاصرة الوجع” لعزيز أعميرة | علي أوعبيشة

علي أوعبيشة

 

 ستة وعشرون رقصة، على خاصرة الوجع، يقدمها إلينا الكاتب عزيز أعميرة بلغة انسيابية وشاعرية تنسج من الذاكرة والتاريخ والهامش نصوصا قاتمة ومتشائمة عنوانها الأبرز”الوجع”.

ستة وعشرون رقصة، هي مجموع نصوص” رقصات على خاصرة الوجع” هذا المولود الأدبي الأول للكاتب عزيز أعميرة، الصادر له من الأردن-عمان، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة وقد قدّم له الأستاذ سعيد سهمي.

يتألف العمل من ستة وعشرين رقصة/نصا، ومن 115 صفحة من الحجم المتوسط، مع غلاف تشكيلي بهي من تصميم نضال جمهور.

  • في مسألة التجنيس:

يعد التجنيس مدخلا أساسيا لفعل القراءة، فهو بمثابة ميثاق تعاقدي مفترض بين الكاتب والقارئ بموجبه يقف القارئ/المتلقي على نقطة ارتكاز أدبية تمكنه من تحديد أفاق التأويل والفهم، لكن الملاحظ في مؤلف “الرقصات أن ثمة توترا واضحا بخصوص مسألة التجنيس كما لو أن ثمة تسرعا في التحديد والتصنيف، وقد استشعرت هذا الأمر، منذ القراءة الأولى. إذ كان من الصدفة أن اجتمعت بين يديّ ثلاث نصوص لكتاب محليين (بالمعنى المكاني وليس بالمعنى الأدبي أو النقدي) هي:

موسم صيد الزنجور لإسماعيل غزالي

رقصات على خاصرة الوجع لعزيز أعميرة

هامش من وطني لمحمد خالص

ولأن المؤلف الثالث تجنب خندق التجنيس فإن المؤلف الثاني أصبح في مرمى المقارنة، خصوصا وأن اسماعيل غزالي في “موسم صيد الزنجور” صارم في بناء عالمه الروائي ودقيق في احترام شروط السرد الروائية المعروفة، لذلك لا أخفيكم أنني شعرت في البداية بنوع من الهشاشة في المتن الروائي “للرقصات”، لكن بعد أن تلاشت شروط المقارنة، وبفضل القراءات المتباعدة للمؤلّفين، تيقنت فعلا بأن المشكل فقط في التجنيس وأن العمل له خصوصية وفرادة. وأنني تسرعت في الحكم عليه من خلال مقارنته بأعمال روائية أخرى، أو أنني حكمت عليه من زاوية معايير السرد التقليدي.

لهذا حاولت أن أعيد قراءة العمل دون افتراض تجنيسه ضمن الرواية، وبحثت عن إمكانيات أخرى لتجنيسه، ولو أنه نص يستعصي على التصنيف الساذج، وهذا ما تأكد لي بعد أن طرحت المسألة على المؤلف شخصيا، وأجابني صراحة بأنه لم يكن مسؤولا عن ذلك وأن دار النشر لأسباب تسويقية هي التي أصرّت على اختيار التجنيس.

لهذا، فإذا عدنا إلى المؤلَّف نجد حضورا مختلفا لأجناس/ أصناف أدبية مختلفة تتراوح بين:

  • الخواطر/ اليوميات

  • الرسائل

  • السيرة الذاتية

مع حضور قوي أيضا لقصدية النثر وشعر التفعيلة، ونصوص شبه نقدية.

مجارات المعنى، متاهات السرد وحمق التشظي:

في نص يقدم نفسه كهامش للنص، أو بالأحرى اللانص، ويدعي أنه مجرد “شظايا لرغيف أعمى” (ص14)، “لأقنعة تتساقط” (ص14)، من غير الممكن أن نقرأه ونحن نبحث فيه عن حقيقة النص الأدبي أو عن المعنى الواحد والثابت والواعي والمستقيم والناظم لخيوط النصوص المتشابكة، إلا إذا تحولنا إلى قراء بوليسيين نستنطق النصوص، وكأننا أمام معنى جاهز/رسالة جاهزة ومعطاة ما علينا إلا أن نرصدها ونتتبعها.

على العكس تماما من هذا الفهم، تقف “الرقصات” عارية من كل يقين، بالرغم من أنها بؤرة خصبة للفهم والتأويل، إلى حدّ أن مُجارات المعنى فيها، أشبه بمحاولة يائسة للقبض على الحدث العابر أو اللاشيء أو المستحيل حتى.

 نص يحتفل بتشرذمه، وتشظيه، بنقصه وعيوبه، بعابريته وانسيابيته، نص يتجنب التمام والنجاز، وكأنه يقلد برج بيزا المائل، لذة النقص ومتعة اللااستقامة.

يقول الكاتب:

“ذلك النص اليتيم… الذي تجرد من اللباس الذي أكساه الكاتب/ مشروع كاتب إياه، وأصبح هو الآخر في فيافي العراة والحفاة أو بالأحرى وُجد تائها في محاولة للم الشخوص والفضاءات وكل القوى الفاعلة في نصه قيد التشريح… فوضى هستيرية، تناصّ اتساقٍ دون انسجام. المعنى يتلفظ أنفاسهُ. اللامعنى يشهد ولادة جديدة في سطور لم تولد بعد مع نص لم يولد بعد” (الرقصة 13 الصفحة 65).

نحن إذن، أمام نص يصرّح دون إضمار بموت مؤلفه وتبخره، فالرقصات الموجعة ” نسج لظفيرة صفراء لشخصيات آدمية في منتصف طريق حلم السارد غير المعنون/ المتبخر” (الرقصة 13، الصفحة 66)

نص، ينسلخ بمكر أدبي(عن وعي أو دونه) من نصّيته، ليقدم بنفسه النسخة الأولى لتفكيك معناه، ويقترب بذلك  إلى خانة النصوص الأدبية  العدمية التي تعبر عن موقف إزاء العالم، موقف من المدينة ومن الوطن، بهذا المعنى نفهم حدة التشاؤم التي تسكن نصوص الرقصات.

فبلغة شوبنهاورية سوداوية وبالغة التشاؤم، لغة (ساخطة) تلعن المكان والزمان، رسم أعميرة صورة قاتمة للوطن وللمدينة وللذاكرة والعالم.

عالمٌ” مليء بكل تلاوين الاندثار”(ص13) و“وطن يحتضر“(ص13) و“مدينة فاشلة ومهزومة” (ص35) و”زمن ملعون“(ص25) و“ذاكرة متعفنة” (ص13).

هي نقمة التذكر ونعمة النسيان، أو على حد تعبير الكاتب”جحيم التذكر وجنة الحنق في حضرة العزلة الملعونة”(ص26).

هذه المجارات المستحيلة وراء المعنى، وهذه الحدة الصارخة في التشاؤم التي تغدي النصوص، تجعل القارئ في متاهات السرد وحمق التشظي، ففي “الرقصات” لا شيء محدد كما هو مألوف، بل لا شيء مألوف بالمرة، لا المكان ولا الزمان بهيأتهما العادية ولا الشخوص والأحداث بمعينين.

لا أحداث في الرواية، لا شخوص مصرح بها في الرواية

مجرد طقس جنائزي، مكفن بالبياضات وكأننا أمام زمن القيامة الأدبية، زمن موت المعنى وموت الشخوص وموت الأحداث وموت الحبكة… ولم يسلم من ذلك غير ناج واحد لفظته ذاكرة أعميرة سهوا على مشارف نهاية العمل:

“تقول نعيمة للجالسين بجانبها” (الرقصة الأخيرة، الصفحة 111).

هذا التغييب المقصود لأسماء الأماكن والشخوص ترك أفاق التمثل الوجداني للعمل ومسارات تخيله وفهمه مفتوحة. هذا ما جعل  القارئ ولو أنه يخرج من قراءة العمل مصابا بالدوار، يشعر بأريحية واضحة في تشكيل صورة المدينة التي يريد والشخصيات التي يتذكرها بفعل القراءة.

وعن متاهات السرد، يصرّح أعميرة، بتخوفه  من سوء فهم القارئ أو من إحباطه لهذا يخاطبه بلغة الناقد لا بلغة الكاتب:

” في محاولة لإيجاد آليات وميكنزمات هذا النص / اللانص الذي بات منفلتا من قبضة الراوي/ السارد، مشروع كاتب المحكمة، فقرر أن ينبعث من رماد الحكاية من جديد حتى لا يتسنى للقارئ/ المتلقي/ الناقد، إقامة صلاة الجنازة بطقوس يعرفها هو ويجهلها السارد. وربما حتى طبقات أخرى من القراء، عبر بوح وتأمل وتعليق لاذع ولاسع  لمرفولوجيا ما وراء النص: يتسنى لها قمع السلوكات السردية أو ربما قصر البناء السردي من خلاله بثنائية ثاني أكسيد اللاكتابة/ اللانص، وجعله يذوب بين ثنايا اللاسرد/ اللاحكاية، اللاشخوص واللاأحداث واللامتن واللاحبكة… كي يلملم التناص هذه اللامفاهيم في غياب الإطناب عن مفاهيم السارد”

هذا السؤال الذي يطرحه أعميرة لا كسارد/ كاتب بل كناقد يدافع عن وجهة نظر تجاه الكتابة، يمكن فهم هواجسه، إذا ما استوعبنا جيدا تلك الحنكة البورخيسية في رسم الواقع بريشة الخيال أو ربما العكس، فلا شيء في نص/ نصوص (الرقصات) بواقعي ولا شيء في النص كذلك بمتخيل أو خيالي, إنها لعبة الكتابة التي يستعصي معها فصل الواقع عن الخيال.

فعن المعدمين تحدث، أولئك الذين” يتصوفون على إيقاعات الطبول والمزامير والصراخ الذي يتعالى من أفواههم القذرة” ص 73

وعن المعطلين، وعن المقهورين وعن الأجساد العارية والمنهكة، لكن دون أن يستنسخ الواقع أو أن يعكسه كما هو، تماما مثل لوحة فنية لا تكتسب جماليتها من جمال المنظر، بل إنها على العكس من ذلك هي التي تمنح للمنظر الواقعي جماليته الفنية. تماما مثل نصوص أعميرة فهي لا تمتح جماليتها وشاعريتها من واقعهاأو بالأحرى من هامشها، إنها أيضا على العكس من ذلك هي التي تنمح لهذا الواقع شاعريته من خلال فعل الكتابة.أو الخيال عن الواقع..

تذكرني هذه الحدة في اللهجة التي تطبع لغة أعميرة لما قاله كونديرا عن رابليه “الذي يبتدأ –إحدى- رواياته بالنداء:”أيها الشاربون اللامعون، أيها المصابون بالجذري الثمينون” إن من يتحدث بهذه الطريقة  بصوت مرتفع لقرائه –يضيف كونديرا- ومن يستثمر كل جملة من ذهنه ومن سخريته ومن تفاخره، يمكنه بسهولة أن يبالغ وأن يحرّف وأن يمر من الحقيقي إلى المستحيل، لأن ذلك هو العقد الذي أبرم بين الروائي والقارئ في عهد (الزمن الأول) لتاريخ الرواية عندما لم يكن صوت راوي الحكايات قد امّحى بشكل نهائي خلف الحروف المطبوعة”[1]

  • شاعرية الهامش/ جماليات القبح:

     الكتابة عن الهامش مغامرة جريئة، ذلك لأن الهامش بكل تجلياته يتشكل وفقا لمعايير أخلاقية صارمة أو مقاييس ثقافية/اجتماعية/اقتصادية محددة، ومن ثمة فإن الكتابة عنه أو مجرد الاقتراب منه جريمة في نظر حراس العادة وأنصار التكرار،واختراق للطابوهات ونسف للخطوط الحمراء.

  فالهامش بوصفه لامفكرا فيه، أو مسكوتا عنه، غالبا ما يحضر التعبير عنه، ولو كتابةً، وغالبا أيضا ما يقدَّم المشتغل عليه/ الأدب المضاد على أنه مارقٌ ومنحلّ، إذ، قليلا ما يتم تأويل قساوة الواقع في بعض النصوص بعيدا عن ما تثويه من كيانات لغوية مباشرة، وهذا حال (النقد الغريزي) الصادر ممن يقرؤون النصوص الإبداعية بأجهزتهم التناسلية، لا بذاكرتهم أو بمخيلتهم أو بإحساسهم أو بذوقهم الجمالي.

والهامش هنا، قد يكون اجتماعيا، يهم فئة اجتماعية محرومة ومعوزة، وما يحوم حولها من هوامش موازية ومحايثة لها كالهامش الثقافي، والمقصود هنا، كل ما يشكل امتدادا رمزيا لهاته الفئة سواء كان لغة أو نمط حياة أو طقوس معيشية، كما قد يكون جنسيا، يخص الممارسات الجنسية الشاذة، أو المظاهر الجنسية الممسوخة المنشقة من واقعها الاقتصادي والاجتماعي، وقد يكون معرفيا، يخص أفكارا مرفوضة وممنوعة من التداول…

من تفاصيل هوامش هذا الوطن، نَسج أعميرة نصوصا إبداعية أدبية مضادة، تنطلق من قبح لا ينتهي عنوانه تهميش وإقصاء وعزلة وتسكع وعبث وغيرها من الأمراض الوجودية الذاتية والموضوعية، غير أن النصوص ليست بهذه القتامة والقبح من زاوية قيمتها الأدبية، وهنا تكمن قيمة هذا المؤلف الإبداعي، إذ استطاع أن يكتب بجمالية واضحة وبينة عن القبح والمسخ، عن الآفات الإجتماعية وعن الأمراض الأنطولوجية المتفشية في الهامش، لكن دون أن يسقط في أسر قبح الكتابة/ الكتابة القبيحة، لقد كتب عن الهامش دون أن تسقط كتابته في أسر الهامشية.

بناء على هذا، فإن الهامش ليس عائقا ثابتا على الدوام، إنه محفز قبيح، فليس العيب في أن تولد مهمشا أو هامشيا  ولكن العيب كل العيب هو أن تموت مهمشا وفي وسعك تغيير ذلك، “فوحدهم الفقراء -على حد تعبير محمد شكري- من يحلمون” إنهم يتخيلون عالما أجمل وأفضل بمقياس قبح يعيشونه.

[1]  ميلان كونديرا، لقاء، ص 110

تعليق واحد

  1. د. خيرة بن علوة

    مقال رائع جدا.. لغته أخاذة كلغة النص المنقود! طوبى للناقد والمنقود!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.