علي أوعبيشة:
الكتابة نزيف لا يمكن إيقافه إلا بمزيد منه.
صحيحٌ أننا لا نكتب إلاّ إذا فكرنا في القارئ، غير أن هذا الأخير ليس شخصا أخر غيرنا، إننا نكتب لأنفسنا، نكتب لذاتنا الثانية، تلك الذات التي تمنحها الكتابة حياة مضاعفة. أكثر الكتابات صدقا، تلك الكتابات الموجّهة للأنا، أو قل الكتابة/الاعتراف، وهذا النمط من البوح ليس رسالة أو خطابا، إنه لكنةُ صدى الذاكرة أو رنّةُ الذبذبات التي تصدرها فاعلية الزمن وهي تنهشُ المسافة الفاصلة بين ما يقوله المؤلف وما لا يمكن أن يقوله.
هنا يصير الكاتب هو القارئ الوحيد القادر على التقاط نصّه على ذبذبات الزمن المتشظي/ زمانيات الذات، وكل محاولة لإنتاج قارئ نموذجي ماهي إلا رغبة محجّبة في استنساخ أناه، والبحث عن إمكانية نشر غسيله المعتّق على خيوط المماثلة.
فما الذي يفصل الكاتب عن القارئ؟ أو بعبارة أوضح أين ينتهي الكاتب وأين يبدأ القارئ؟
– النصّ، هو عقدةُ تقاطعِ بين اثنين، بين من يكتب ومن يقرأ.
– النص، فضاءُ المــُباينة بامتياز وركحُ فنانٍ يلعبُ دورين.
– النص، حياةٌ مضاعفة … لا توجد فيه (أي النص) حدود فاصلة بين الكاتب والقارئ، إنه اسم أخر لإمكانية حضور الاثنين في حيزٍ زمكاني واحد.
مما لا شك فيه أننا لا نكتب إلاّ إذا أخذنا بعين الاعتبار القارئ، لكن نفكّر في ماهية هذا القارئ بالموازاة مع تفكيرنا في القارئ الذي نريد، أو قل القارئ الذي يقرأ بالطريقة التي نريد، هذا ما يجعلنا أمام نوعين من الكتاب كما يحددهما أمبيرطو إيكو، الأول: يكتب “لإرضاء جمهور عريض” بغية التكيف مع أهواء السوق والثاني: يروم إنتاج قارئ جديد، الأول يكتب “وفق وصفة موجهة لإنتاج مادة بالجملة”، يقوم بما يشبه دراسةً للسوق لكي يتكيف مع متطلباتها، أما الثاني فلا يريد أن يكون بأي شكل من الأشكال “دارسا للسوق من أجل تحديد الطلبات، بل يريد أن يكون فيلسوفا يستشرف لحمة “Zeitgeist” وهذا هو الكاتب الصادق في نظري.
في ” حاشية على اسم الوردة” تساءل إيكو “من هو القارئ النموذجي الذي كنت أرغب فيه وأنا أكتب؟” ويجيب: ” إنه قارئ متواطئ بكل تأكيد، يسايرني في لعبتي. كنت أود أن أصبح قرسطويا بشكل كلي، وأن أعيش القرون الوسطى كما لو أنها كانت مرحلتي. وكنت في الآن نفسه أرغب بكل قوة في أن ترتسم أمامي ملامح قارئ يصبح، بعد تخطيه للحظة الاستئناس فريستي أو فريسة النص، ويظن أنه لا يرغب إلا فيما يقدمه النص”.
النص، ليس مجال تجاذب بين الكاتب والقارئ، إنه مذبح وحدتهما، هذا لا يعني أن قارئا آخر غير معني، أبدا، لكن قطعا سيكون قارئا ثانيا أو قُل قارئا من الدرجة الثانية، فالكتابة الصادقة غالبا ما تدخل في خانة المضنون عن غير أهله، هكذا نفهم كتابات العتمة عند الإمام الغزالي التي لم ينشرها لعموم القراء، وكذا قصص إيميل زولا التي أهداها لزوجته، أصدق كتابات الغزالي تلك التي لم تنشر، وأصدق قصص زولا تلك التي لم يقرأها أحد باستثناء زوجته.
الكتابة… فعل بالذات وللذات.
إننا نكتبنا/ نكتب ذواتنا، نكتب بنا، نحن مادة الحكي، وإن عُرضت على ألسن مختلفة وباسم شخصيات عدّة، نكتب ما عشناه وما نريد أن نعيشه أو نصيره وما نكره أن نعيشه أو نصبحه. في الكتابة النثرية إذا لا توجد أجناس، بل يوجد جنس نثري واحد، وهو السيرة الذاتية، إلا أن هذه الأخيرة تأخذ تقاسيم وملامح مختلفة تبعا للكيفية التي نريد أن نكتب بها أنفسنا.
كما أننا نكتب لنا، نكتب لذواتنا، نحن قراء نصوصنا، نأخذ شكل جميع القراء لننعم بمتعة مشاهدة جغرافية دواخلنا/ متعة طيّ الأعماق.
ملحوظة: العبارات الموضوعة بين مزدوجتين، مقتطفة من "حاشية على اسم الوردة" لامبرطو أيكو، ترجمة سعيد بنجراد.