لا نهاية للتاريخ | فواد الكنجي – العراق
فواد الكنجي
لما كان (التاريخ) مفهوم لصيرورة الإحداث بدأت منذ لحظة الأولى لبداية الوجود؛ وبدا عقل الإنسان يعي وجوده؛ فان أحداث التاريخ ستستمر باستمرار وجود الحياة ولن يكون للتاريخ نهاية ولن ينتهي إلا بنهاية الوجود، ومن الخطأ ربط مصير التاريخ بإحداث إيديولوجيات فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية؛ مهما كانت قوة تأثير هذه التيارات على سير الأحداث؛ فزوالها أو إخفاقها أو نجاحها لا يؤثر على توقف التاريخ أو نهايته؛ طالما استمرت الإحداث بالوقوع وفق صيرورة الوجود وبقيت الحياة البشرية والوجود البشري متواصلة بهذه الاستمرارية؛ والتي لا محال لها أحداثها ووقائعها، إخفاقا أو ارتقاء أو خمودا.
والتاريخ لا يرتبط بالإحداث بقدر ما يأخذ منها ويستنبط منها تحليلات فكرية بدراسة الحدث وتقصي أسبابها لفهم تأثيرات النشاط البشري ومواقفه وتطوره بالاستقصاء والتدقيق والتمحيص في الحدث، وهذا النشاط الفكري الذي يبنيه الإنسان وفق دراسات منهجية هو محور (الفلسفة) والتي من أبوابها ما يختص بدراسة التاريخ لتكون (فلسفة التاريخ) منهاجا في تحليل الإحداث التاريخ وأنشطة الإنسان ومواقفه وفق نظريات ومناهج علمية ومعرفية وبحثية شاملة؛ لتفرز دراساته كل ما يستفاد الإنسان في حاضره وليتخذ منها أسس لبناء برامجه المستقبلية ليتم وفق ذلك تفسير حركة التاريخ لبناء إنسانية الإنسان بالتفكير والتأمل والبحث ليتم بناء حضارته ويدافع عن وجودها خدمة لديمومتها واستمراريتها. وما يجب تأكيده هنا بان وظيفة (الفلسفة) لا يمكن توظيفها في معرفة التاريخ؛ لان استكشاف (التاريخ) لا يتم عبر (الفلسفة)، لأن (التاريخ) حدث وشيء واقعي وحقيقي وحاضره؛ إما إن يكتشفه أو لا يكتشفه، لان الماضي هو شيء ماضي؛ لا يمنك تشخيصه إلا إذا كان شيئا ماديا يكتشف عبر التنقيب عنه كالآثار، ولهذا فان (الفلسفة) التي تبحث في التاريخ هي شديدة الارتباط بـ(التاريخ الإحداث)، ولهذا فان (فلسفة التاريخ) ترتبط بـ(التربية) لما تعطي من دروس وأفكار ذات صلة بالعلوم الاجتماعية ليكون لتاريخ دورا مهما في التوعية؛ لأنه يدرس ماضي الإنسان وكل التغيرات والإحداث والقوى المادية التي أثرت عليه والتي أوصلت حاضر البشرية إلى هذا العصر، ومن هذا الفهم فان (التاريخ) ليس مجرد (إحداث)؛ بل انه (معرفة)، ومنها يجب استنباط معلومات بوعي وبمنهج علمي رصين؛ لنتمكن فهم حركة المجتمعات؛ و ليتم من خلالها مواجهة المسار التاريخي لها وعلى كل المستويات؛ لأنها هي التي تزود الإنسان (الفكر الإصلاحي) ليستنبط صيرورته التنموية؛ لتبرز هنا علمية التاريخ لاستمرار ديمومة الإنسان لرقي وتجنب مخاطر (التشيؤء) وللامبالاة والانهيار، بما يمهد له السعي الدؤوب في معالجة عقد وإخفاقات الإصلاح؛ لكي تتمكن المجتمعات تجاوز مطباتها، ليتم للمفكرين الإصلاحيين استنباط أفكارهم لمعالجتها عبر المقارنات وتحليلات الأحداث والمعلومات ذات صلة بالتاريخ مع العلوم الطبيعية؛ ليتم دراستها دراسة تحليلية ونقدية لسن قوانين اجتماعية مستخلصة من وقائع التاريخ لتكون أكثر واقعية لديمومتها وحركتها لإصدار إحكام يمكننا التنبؤ بالمستقبل. لان عبر (فلسفة التاريخ) والتحليلات التي تتمخض عنها هي التي تكشف لنا ملامح المستقبل من خلال وقائع الحاضر والماضي، لأن (فلسفة التاريخ) ما هي إلا سلسلة من دراسات مرتبطة بين الماضي والحاضر والمستقبل وإجراء مقارنات بين مختلف الحضارات التي ظهرت منذ بدا الحياة على كوكبنا؛ وكيف تعاقبت.. وكيف نشأة.. وكيف ازدهرت.. وكيف انهارت.. وفق مسار التاريخ، لان هذا المسار اتجه وفق ظروف معينه وليس عن طريق المصادفة، ولهذا فانه لا يمكن لنا إصدار حكما مسبقا عن انهيار الحضارة أو موتها؛ ما لم نكن قد أحطنا علما ومعرفة وجمعنا الكثير من مفردات الإحداث التاريخ لكي نتمكن من التنبؤ بالمستقبل التاريخ، وهذا المعرفة لا تتم إلا من خلال (علم الفلسفة)، ولهذا فان (الفلسفة) و(التاريخ) يلتقيان في التحليل والبحث وفي تطور الأنظمة الفكرية للإنسان والمتعلقة بالأنشطة الاجتماعية والثقافية والسياسية، لان (فلسفة التاريخ) تتجاوز الخرافات وسرد المعارك والمعاهدات السياسية؛ ويحرر الفكر من العبودية ويسعى إلى نشر أفكار حضارية تنويرية تعتمد على (الإدراك) و(العقل) غير محصورة في أزمنه وأمكنه معينه بقدر ما يتسع نطاقها في كل أنحاء العالم؛ أي متابعة و رصد ومعرفة تجارب و تطور وحركة تاريخ الفكر الإنساني؛ ومن ثم تحقق من مصادرها ليتم وفقها مواجه ما سيأتي والتنبؤ بالمستقبل، لان (فلسفة التاريخ) تتجاوز تاريخ إفراد إلى تاريخ الحضارات، ولهذا فان مفهوم تاريخ في العصر الحديث هو تاريخ الحضارات، وهذا لا يعني بأنها تتجاوز تاريخ الإفراد بل هو في ضمنه وتركيبه، لان روح التاريخ يكمن في ذلك؛ وعبر البحث والنقد والفحص والتدقيق والتمحيص والمناقشة والارتباط والمعادلة والمقارنة بين تفسيرات القديمة والحديثة والمعاصرة، لان (الحداثة) فيها من المفاهيم ومصطلحات مستحدثة قد لا تستوعب وقد تستوعب الظواهر اللغوية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، لان يقيننا بان مفردات ومصطلحات (اللغة) في كل عصر وبيئة له طابع خاص بذلك العصر؛ لأن المصطلحات اللغوية في (فلسفة التاريخ) متجددة على الدوام، ولهذا فانه ليس من السهل إن نتحكم في مسار التاريخ للمستقبل ولا نستطيع التنبؤ في حدوده، ولهذا فان كثير ما تقع (دراسات التاريخ المستقبلية) بهذه المطب؛ على نحو ما وقع به المؤرخ والفيلسوف الأمريكي (فرنسيس فوكوياما)، حين طرح أطروحته في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) عام 1992، ليعود لاحقا بنفي كل ما طرحة نتيجة التغيرات التي حصلت في العالم بعد عشرة أعوام من تأليف الكتاب، لان (حركة التاريخ) تأخذ مسارات متحركة على دوام، فان كان تصوره بان (الديمقراطية الليبرالية) هي أقصى نموذج يمكن إن تصله الحضارة البشرية، فان يقينا إن نقول في ثلاثينيات القرن الماضي بان (الاشتراكية الشيوعية) هو أقصى نموذج وصلته الحضارة البشرية آنذاك؛ ولم تصل إلى المرحلة (الشيوعية)، ولكن نظرا لتغيرات وتطورات الحاصلة في حركة التاريخ انهارت (الشيوعية ألسوفيته)، وعليه فإننا لا محال سنتوقع انهيار (الديمقراطية الليبرالية) في أية لحظة من لحظات الزمن، لان (التاريخ) يخبرنا بانهيار حضارات والكثير من منظومات اقتصادية واجتماعية وسياسية على مر التاريخ؛ هكذا كانت وهكذا ستكون ما دامت الحياة متواصلة في تدفقها وعطائها ولم تتوقف إلا بتوقفها وانعدامها.
و(نهاية التاريخ) هو فهم فلسفي ظهر أيام (هيغل) و(ماركس) كمبد لنهاية التطور للمعرفة الإنسانية بمبادئها وقيمها الاجتماعية والسياسية، ومن صلب أفكارهما انطلق (فوكوياما) في أطروحته لنهاية التاريخ، فأضاف على ما ذهب إليه (هيغل) الذي حدد (نهاية التاريخ) بمرحلة التي يصل وعي المجتمعي بـ(الحرية)، باعتبار (الحرية) هي النتيجة النهائية التي يتجه مسار التاريخ إلى إنجازها، فان (فوكوياما) قال إن (نهاية التاريخ) تكون حينما يصل المجتمع إلى الحرية الديمقراطية بالفهم أو بمعنى (الديمقراطية الليبرالية).
إما (ماركس) فاعتبر (نهاية التاريخ) تكون بعد إن يتم وصول المجتمع إلى (الشيوعية)، فالنهاية التاريخ وفق أراء هؤلاء تحدد أطرها بنهاية (التطور الاجتماعي للبشرية) وتوقف صيرورتها وفق هذه المحددات، ولما كان فهم (التاريخ) بكونه عملية متواصلة من حركة الإحداث والتطورات المتلاحمة والمستمرة ومن تجارب المجتمعات في كل العصور والمستمرة مع وجود الحياة البشرية، فهي (لا) نهاية لها؛ بقدر ما يكون فهم (النهاية) محدد بمفردات سياسية واجتماعية واقتصادية محددة تنتهي اثر ظهور فكر حديث مناقض لهذه المفردات أو متجدد لها، لان الإحداث والتحديث لن ولن تتوقف في مسار التاريخ وحركته إلا بانعدام الحياة والوجود.
فمسار التاريخ عند (هيغل) مبني على (العقل) لان اعتقاده يتجه بكون (العقل) هو الذي يسيطر على العالم؛ وان مسار التاريخ البشري هو مسار العقل وتطوره، وان (العقل) هو من يحكم على مسار التاريخ، ومن خلال العقل والوعي بقيمة (الحرية) يتجه مسار التاريخ البشري لانجازه، لأنه لا يمكن فهم (التاريخ) إلا من خلال وجود الإنسان؛ ولهذا فان (التاريخ) هو (تاريخ الإنسان) – حسب تفسير(هيغل) للتاريخ – وان (جوهر الإنسان) هو (الفكر)، ومن هنا تقوم (جدلية هيغل) التي هي قوام فلسفته، حيث (فكرة ونقيضها) وهكذا دواليك، وهي التي تدفع إلى الحركة والتطور والتقدم، وهذه (الجدلية) هي التي تدفع سير (التاريخ) إلى التغير والتجديد، فكل شي قائم على مبدأ التناقض وصراع الأضداد، والتاريخ هو يسير بنمو نحو الحرية، وهذا المسار لا يسير إلا بالتناقض؛ يموت ويولد، و يولد ويموت مجددا مسيرته على الدوام، ووفق هذه (الجدلية) يتجه مسار التاريخ نحو الأفضل وفق شعورنا بالحرية، فحسب نظر (هيغل) فان استقرار وشعور بالاطمئنان وحالة (اللا حرب) هي مراحل لا تعتبر تاريخية، ولهذا فان (هيغل) يعتبر (الحرب) ضرورية ومهمة لديمومة الحياة، فهو يعتبر (الحرب) من الأهمية كونها تلعب دورا كبيرا في مسيرة التاريخ، فـ(الحرب) هي من تحرك الإنسان ولا تجعله خامدا وغير مكترثا، إنها لسير تاريخ دليل على الصحة، وان البشرية إذ عاشت السلام فقدت حياتها، وهنا يقدم (هيغل) مثلا بقوله: ((كل بحيرة ماء لا تهب فوقها رياح تركد وتتعفن)) لان التاريخ مبني على الإحداث وهي التي تحركه.
وهكذا نلاحظ ما إن تنتهي (حرب) هنا أو هناك حتى تبدأ تتشكل ملامحها لتشتعل بشكل أخر في هذه المنطقة أو تلك، وهكذا دواليك تنشغل الإنسانية في دوامة هذه الحروب التي تبدأ وتنتهي.. لتبدأ من جديد، ليكون خلق العنف وإشعال الصراعات بين الدول إحدى وسائل السياسية وأداتها لتعبير ولتفسير الواقع والعلاقات الاجتماعية بهذه الوسائل التي هي جزء من الغريزة الفطرية في ذات البشرية والتي هي إحدى أهم وسائل المحركة لتاريخ؛ بفعل التناقض القائم في أفعال الإنسان؛ وهكذا يسير (التاريخ) في دوامة العنف و التدوير.
إما (ماركس) في نظريته (المادية التاريخية) يقول: ((بان التاريخ البشري الحقيقي لم يبدأ بعد حتى يقال انه قد انتهى ))، لان اعتقاد (ماركس) بان بداية (التاريخ) تكون حينما تنتقل قوة التحدي وصناعة (التاريخ) إلى يد (الطبقة العمالية)، بعد إن يتم أخذها من يد (الطبقة الرأسمالية)، لان (العمال) هم من يصنعون التاريخ، وحين تمسك (الطبقة العمالية) كل شؤون الحياة بيدها؛ ويتم القضاء على كل أشكال الاستغلال والفروق بين الطبقات الاجتماعية حينها تكون (نهاية التاريخ).
ومن هنا نفهم بان (التاريخ) عند (ماركس) هو (تاريخ صراع الطبقات) وهذا الصراع هو الذي يفتح الثورة (البروليتاريا) حيث الكفاح والنضال من اجل قهر الطبيعة وتحويلها بما يخدم (الطبقة العمالية)، وهذا التاريخ من الصراع والنضال ينتهي حينا تقوم العدالة الاجتماعية؛ وحينما تسود العدالة؛ تنتهي دور الطبقية في المجتمع، لنفهم بان (التاريخ) عند (ماركس) هو (ما يصنعه الإنسان) وهو المسؤول عن تغيير التاريخ، لان حركة (التاريخ) عنده تمر عبر المراحل من المشاعة البدائية إلى العبودية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية ثم الاشتراكية، ولهذا فهو يرى بان تاريخ البشري هو تاريخ واحد ومشترك بين الشعوب والحضارات وهو تاريخ يمضي نحو التطور الارتقائي للبشرية جمعاء.
ومن خلال فلسفة (هيغل) و(ماركس) بني (فوكوياما) أفكاره في كتاب (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) وتحديدا في مقدمته بينما انهي كتابه بتأثير أفكار (نيشه) في (الإنسان سوبر)، وهو الإنسان الذي يبحث عنه (فوكوياما) وهو (الإنسان الليبرالي- إنسان سوبر) لبناء المجتمعات بصبغة (الديمقراطية الليبرالية)، حيث اعتبر (نهاية التاريخ) بمرحلة التي انتهت الحرب الباردة بين أقطاب العالم المهيمنة على مقدرات الشعوب والتي وضعت نهاية للفكر الإيديولوجي في التاريخ البشري الذي أنهى الاضطهاد الطبقي والنظم الشمولية لتكون (الديمقراطية الليبرالية) مستقبل البشرية حيث الاستقرار وسيادة السوق الحرة، وحسب اعتقاد (فوكوياما) فان بسيادة النظام (الديمقراطي الليبرالي) ستقل كثيرا من احتمال نشوب الحروب بين الدول بعد اعتراف الكل بشرعية الأخر، فهذا المدخل لمفهوم (نهاية التاريخ)عند (فوكوياما) وعلى كل ما يحويه من حركة بأنه قد وصل إلى نهايته؛ حيث الركود والخمود وعدم وجود الصراعات والسيطرة على العلم و المعرفة بعد إن أصبحوا بيقينه شاملة وكاملة – على الأقل بوجه نظر النظرية – ومن هنا فان (نهاية التاريخ) وفق تحليلات (فوكوياما)، لن تكون صائبة بأي شكل من الإشكال، لان (التاريخ) لا يمكن ان يستنفذ أفقه النظري بدخوله عصر فراغ والانغلاق كل إمكانياته الفكرية والإيديولوجي؛ بكونه لم تعد هناك استراتيجيات سياسية وإيديولوجية ونظريات شمولية تكون قادرة على خلق حركة و تعبئة الجماهير كما يضن (فوكوياما)، ومن هذا المنطلق ينطلق بفكره بأنها مرحة لنهاية (التاريخ)، بعد إن وجد غياب الحوافز التي تحرك الثورات الفكرية في الفكر البشري؛ بعد إن حققت (الديمقراطية الليبرالية) نجاحها واستطاعت المجتمعات البشرية التكيف معها, لان في عصر (نهاية التاريخ) لن يكون بإمكان الإنسان إن (يصنع التاريخ) حيث سيفقد روح التغيير والتطوير و سيحاول فقط الاحتفاظ على ما هو قائم, وان وجدت بعض المشكلات في المجتمعات تكون محصورة في أيطار حقوق القوميات والديانات والأنظمة الاستبدادية و مسائل الهوية؛ قد تسبب شيء من الصراع وانعدام الاستقرار؛ ويعد احتمالا حقيقيا ومقلقا داخل الدول الديمقراطية وفيما بينها وقد يتراجع مراحل التطور فيها؛ ولكن تأثيراتها تكون محدودة بعد إن تثبت (الليبرالية) انتصاراتها وتزيح من على الساحة البشرية الفاشية والشيوعية ليمهد لها طريق النجاح وثبات أسسها في المجتمعات؛ بعد إن لم تعد هناك تحديات حقيقية لمنافسة (النظام الليبرالي)، ولهذا يعتبر (فوكوياما) إن التيارات الدينية والقومية ما هي إلا تحديات ثانوية قد يخلقان بعض المشاكل؛ ولكن تأثيراتها ستكون محدودة ولن ترتقي بأي شكل من الإشكال إلى المستوى الشمولية، ورغم إن (الدين الإسلامي) كايدولوجيا نراه نوع ما متماسكا في بعض الجوانب عقيدته فانه اليوم يتحدى النظم (الليبرالية) وخاصة في بعض المناطق من العالم (الإسلامي) التي لم يستطع النظام السياسي (الليبرالي) اخذ زمام السلطة فيها، ولكن – كما يقول (فوكوياما) – لن يشكل (الإسلام) تهديدا على (الديمقراطية الليبرالية) ولن يستطع منافستها في المدى المنظور، ولكن ربما سينجح في البلدان الإسلامية ذاتها، لان (الدول الإسلامية) بالنمط الذي تسير عليه لن تصل إلى مستوى الحداثة التكنولوجية والاقتصادية أبدا، وهي سمات المجتمعات الناجحة، وكل ما تسعى إليه هذه الدول ستبقى بعيدة عن أفق التطور والازدهار باستثناء بعض دول (الخليج العربي) التي اتجهت اتجاها (ليبراليا) كـ(الإمارات) و(قطر)، ومن هنا تكون قراءتنا للواقع – كما يقول (فوكوياما) – فإننا لا محال سنرى (الدول الإسلامية) تنجرف في التيار (الديمقراطية الليبرالية) نظرا لتأيد وقبولها من قبل شرائح اجتماعية واسعة في هذه الدول الإسلامية؛ وهذا ما تم ملاحظة خلال الحقبة الماضية؛ لان الإجماع عند أغلبية هذه المجتمعات بان الإصلاحات والتشريعات (الديمقراطية الليبرالية) ونجاحها على صعيد الأفكار والمبادئ تتسع وتحقق نتائج ايجابية؛ ولهذا فان المجتمعات تتجه إليها وتأخذ بتطبيقاتها في مجتمعاتهم وعلى المدى ليس بالبعيد سوف يؤمنون بهذه المبادئ.
إما التحدي الأخر لـ(الديمقراطية الليبرالية) – حسب (فوكوياما) – هو النموذج (الصيني)، فهي دولة ليس فيها (بُعد ديني) و (غير ليبرالية) و(لا ديمقراطية)، ولكنها نجحت في تحقيق أعلى معدلات النمو الاقتصادي باعتمادها على التكنولوجيات سواء بالاستنساخ أو الابتكار التي تحافظ على النمو في الحاضر والمستقبل، وهذا ما نلاحظه لتكون (الصين الشعبية) ندا لأقوى اقتصاديات الدول المهيمنة على الصناعة والإنتاج مثل أمريكا والدول الأوربية مجتمعة.
ومن هنا فان (فوكوياما) يشير إلى صعوبة الوصول إلى (الديمقراطية الليبرالية) رغم – وحسب اعتقاده – هو أفضل نظام للحداثة، وهذا ما جعله بعد إصدار مؤلفة (نهاية التاريخ والرجل الأخير) عام 1992 إلى إعادة تفكيره بهذا المفهوم استنادا على ما وصل إليه بعد هذه المرحلة التاريخية من حقائق أخرى حول السياسة العالمية بعد إن وجد (فوكوياما) بان هناك ثمة مشاكل ظهرت في أطروحته في (نهاية التاريخ) كان الجزء الأكبر منها متعلق – كما يقول – بـ(التآكل السياسي)، بكون إن هناك ثمة زعماء ونخب سياسية طوعوا (الديمقراطيات الليبرالية) لمصالحهم؛ مع عدم وجود نظام سياسي يستطيع القضاء عليهم، ولهذا فان الأمر يؤدي إلى ظهور رغبة اجتماعية وتحديدا بين الطبقات المتوسطة والعاملة؛ بعد إن تدنت مستويات معيشتهم في العقود الأخيرة إلى المطالبة بزعيم أو قائد قوي يستطيع إزاحة الطبقة العليا ومواجهتهم؛ حتى وان كان ذلك تجاوزا على المؤسسات (الديمقراطية الليبرالية)، وهذا ما أدى إلى ظهور حركة شعوبية تعادي مؤوسسات في دول العالم الديمقراطي، ويذكر (فوكوياما) كل من ( فيكتور أوربان في المجر) و(ياروسلاف كاتشينسكي في بولندا) و(ماري لوبان في فرنسا)، ومؤيدي حركة (بركسيت في بريطانيا)، و(دونالد ترامب في أمريكا).
ومن هنا فان كان (محرك التاريخ) الذي سماه (فوكوياما) بـ(ثيموس) الذي يعني (الكرامة الداخلية) باعتباره هو المحرك للتاريخ البشري؛ وان كان (هيغل) يؤكد بان (محرك التاريخ) يكمن في مجملها في الكفاح من أجل (الكرامة) وأن (نهاية التاريخ) يكون بانتصار لمبدأ التقدير الشامل والمتساوي، و(فوكوياما) يؤكد بان في المجتمعات (الليبرالية الديمقراطية) تكون (الكرامة) متساوية لكل مواطنيها بما تضمن حرية التعبير والتجمع والمشاركة السياسية.
ولكن المخرج الفلسفي إذ ما تأملنا بهذا الطرح الذي قدمه (فوكوياما)، فهناك الكثير من الإرهاصات الفكرية وقع فيها؛ وهو ما قاده لاحقا بنفي أطروحته لما تم من استحداث الكثير من التغيرات في عالمنا مما تناقض مع ما طرحه في كتابه (نهاية التاريخ)، لأنه هو نفس المنحنى الذي ضن (ماركس) بكون (الاشتراكية الشيوعية) هي نهاية التاريخ، وكل ما شهده العالم من تطورات وإصلاحات في (الاتحاد السوفيتي) و(الصين الشعبية) وسعيهم الدؤوب لتحقيق (الاشتراكية) من اجل الوصول إلى مستوى العالي من الرفاهية في المجتمعات البشرية ولكن التجارب التطبيقية استشفت بنتيجة صادمة بأننا لن نصل إلى (الاشتراكية الشيوعية) الحقيقية؛ ولا إلى مجتمعات البشرية الراقية؛ وان كل ما شاهدناه في (الاتحاد السوفيتي) و(الصين) كان أقصى ما يمكننا الوصول إليه، ولم يتمكنوا من الوصول إلى (الشيوعية)، وان عالمنا لحد هذه المرحلة التي نعيشها لم يستطع الوصول إلى (الشيوعية) وتحقيقها على ارض الواقع وبقيت هذه النظرية مجرد أطروحات فكرية لم ترى بعد النور، ولكن يقينا بان البشرية بحركة التاريخ لا محال ستسعى إلى تحقيقها؛ رغم إن (الاتحاد السوفيتي) السابق، قطع أشواطا مهمة نحو طريق (الشيوعية) ولكن بفقدان قيادة قوية بعد (ستالين) أخفقت وتراجعت من تكملة مشوار رحلتها نحو (الشيوعية)، لأننا وجدنا بان (التاريخ) بما استجد فيه من أحداث وتغيرات غير متوقعة وسابق إنذار غيرت كثير من معالم التي ضن فيها الإنسان بكونها هي الحقيقة التي تتجه إليه البشرية ليفاجئ بظهور أفكار لم يحسب لها، تغير سير الإحداث رأسا على العقب وبشكل غير متوقع ليصحوا مجددا على أتون الحروب والصراعات لا أول لها ولا أخر.
ولهذا فان (الديمقراطية الليبرالية) بأي شكل من الإشكال لن تكون نهاية للفكر الإنساني و التطور الأيديولوجي للإنسانية كما ضن (فوكوياما), لكي يمكن لنا القول بأنه مرحلة لـ(نهاية التاريخ)، لأنه لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال الحكم على إن (الديمقراطية الليبرالية) قد انتصرت ولم يبقى لها معارضين وأعداء وخصوم وإنها ستصمد إلى حتى نهاية الوجود.
إن مثل هكذا اعتقاد هو لا يمثل أي جانب من جوانب الحقيقة، لان من يضن إن أشواط التي قطعتها (الشيوعية) قد انهارت في ثمانينات القرن الماضي بعد انهيار (الاتحاد السوفيتي) فهو مخطأ، لان السؤال هنا يطرح نفسه بالقول:
هل حقا إن (الشيوعية) قد انتهت…..؟
وان العالم الذي كان في بداية مسيرته الاشتراكية نحو (الشيوعية) وان الدول التي تبنت (الاشتراكية)التي كانت إحدى الأشواط (الشيوعية) انهارت بفعل تكالب قوى الشر والعدوان وبفعل وجود أعداء وخصوم قبل إن يصل العالم إلى (الشيوعية) …..!
ولذا فإننا هنا نتساءل هل حقا وصل الإنسان إلى الشكل النهائي للحكم بنموذج (الديمقراطية الليبرالية)، وهل هذه (الليبرالية) ستنجح وتنتصر على أعدائها وخصومها وتصمد …..؟
وهل ستبقى بدون أعداء و خصوم إلى نهاية الوجود….؟
وهل ستبقى بمنئي من التناقضات وصراعات وانتقادات الداخلية والتي لا محال هي التي تهدم النظام السياسي لـ(الديمقراطية الليبرالية) الذي بنته ……؟
وهل ستبقى (الديمقراطية الليبرالية) بدون ظهور تيار فكري قابلة للحياة ينافسها إلى نهاية الوجود …؟
إننا في كل هذا الجدال علينا إن نتيقن بان مسيرة العلم والفكر والمعرفة بصورة عامة لن تتوقف، لان ليس لها أفق ولا حدود، وان حركتها ومسيرتها متواصلة؛ ولن تتوقف معرفة الإنسان في حدود (الديمقراطية الليبرالية)، لأن جوهر الإنسان ككائن اجتماعي يستمد حقيقته من كونه كائنا نشطا و ذكيا يفكر ويخطط و يتحرك في منظومة إنسانية وثقافية وتاريخية التي أسسها بنفسه؛ والتي تشكل نظاما خاصا بوجوده، له قوانينه الخاصة، وفي هذا (النظام) يمارس خياراته؛ سلبا أو إيجابا، ومن هذه الحقيقة يصعب التنبؤ بسلوك الإنسان، ولهذا فان تضارب المصالح والميول والاتجاهات وقابلية الفكر بالارتقاء والتطور والابتكار نحو أفاق أكثر إبداع وازدهارا وتقبلا بتنوع الأفكار وبمستوى الذكاء والمعرفة فيما وبين تفاوت والتعارض والتوافق وبين بين، وكل هذا ما يجعل التنبؤ بسلوك الإنسان والتحكم في حركته ومستقبل امرأ مستحيلا، ولما كان يقيننا بان (العلم) و(المعرفة) وقدرات الإنسان في مجالهما هما أساس الوجود للفرد والمجتمع، ولا محال تأثيراتهما ستكون تأثيرات بالغة الأهمية على النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في عالمنا، وان (حركة التاريخ) ستسير وستتواصل دون النهاية لان (لا نهاية للتاريخ) لان (التاريخ) مع العلم والمعرفة على استحداث وتجديد .
والإنسان طالما بقت روحه ينبض فيها الحياة؛ فان أعماقه الإدراكية ستبقى تعيش صراعها مع الأفكار بتواردها المتواصل؛ وستبقى أبوابها مفتوحة وعلى مصراعيها وستهيمن عليه الأفكار بصيرورة وبدوام التجدد والانبعاث؛ فلا تقف جموح تطلعاته المستقبلية بحدود إيديولوجية (ما) باعتبار ما وصلت إليه أفكاره بهذه (الأيديولوجية) هو كل مخاض رحلته مع الأفكار؛ لتحدد نهاية لرحلة البحث عن الأفكار وتكون النهاية، (نهاية التاريخ) أو (نهاية الأيديولوجية ما)، لان سعي الإنسان أو البشرية للبحث عن فضاء أوسع مما وصل إليه سيبقى مشروعا متواصلا مهما كان مستوياتها الأفكار التي وصل إليها من حيث رصانتها وإفرازاتها، لان طموح الإنسان نحو التجدد وإيجاد الأفضل لن يتوقف، قد يتجمد لفترة وقد تخمد لمرحلة، ولكن لن تنتهي ولن تتوقف رحلة الإنسان نحو الخلق والإبداع والتجديد .
العراق فواد الكنجي لا نهاية للتاريخ 2019-03-04