حمودي عبد المحسن – السويد
أكتب عن قصيدة الشاعرة التونسية نبيهة علاية التي أثارت انتباهي ودهشتي الموسومة بذات العنوان أعلاه “كما تتفتق سنبلة في البحر” لأنها تمتاز بتفردها وخصوصيتها، ولأنها تمتلك رؤيا ناتجة عن تجربة لواقع متأزم تكثر فيه التأويلات والصراعات وخيبة أمل ومثقل بإفرازات لم تكن في الحسبان قد ينتابها الخوف من المجهول ليس في تونس فقط وإنما في عموم البلدان العربية الذي هزه كما يسمى (الربيع العربي) وأخرج المتراكم المدفون عقودا طويلة. القصيدة متحررة مستقلة لها أصوات متعددة خفية وظاهرة أي أن الشاعرة لم تبوح بكل شيء فقد أبقت أشياء كثيرة تتصارع في داخلها مثل جبل بحر لا نرى منه سوى قمته بارزة من سطح المياه ثم أن القصيدة متفتحة برؤياها تتداخل وتندمج فيها أحاسيس ومشاعر جياشة لذات الشاعرة وتنصهر عاطفتها تجاه تونس الخضراء حيث مصاغة بروح تعبيرية من ذهن متفتح عن زمن يحتاج إلى مراجعة نقدية مثلما يحتاج تاريخ ألف وأربعمائة عام إلى مراجعة جدية وقول الحقيقة عنه.
كما أن هذه القصيدة تتضمن ثلاثة حالات رؤيا، فهي نتاج طبيعي لابد أن يؤدي وظيفته عبر لغة متأنية متناسقة يصوغها الذهن لتجسد فلسفتها الوظيفية الخاصة بها برؤيتها إلى العالم المعاش، لتكون مثل نهر جاري متدفق له إيقاعه الخاص سواء كان ذلك خريرا هادئا أو هديرا صاخبا، فقصيدة السيدة نبيهة علاية هذه تروي بفيضها الانفعالي الحسي المتأجج رؤيتنا نحن كي نندرج في مراجعة تاريخية نقدية للربيع العربي كما يطلق عليه،فالقصيدة تحرك الراكد الذهني في الأدب لأن غاية القصيدة هو إبداع فني، لتجربة ذاتية، فهذه القصيدة لها عالمها المتميز بها بالرغم من أن أسلوبها يتناص مع قصيدة أرض اليباب لإليوت التي نشرت عام 1922 وأحدثت دخولا جديدا في الحداثة لعصر آخر التي كانت تتناول الخراب والدمار الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى، ولا استبعد أن أرض اليباب قد تناصت مع قصيدة توماس جراي التي بعنوان ـ مرثية في مقبرة ريفية ـ حيث كان اليوت معجبا بها، وقد كشف ذلك لصديقه عزرا باوند الذي أهدى القصيدة له لكن الشاعرة نبيه علاية في قصيدتها (كما تتفتق سنبلة في البحر) تتخذ من حركة الجسد ـ الفيزياوي للأنثى والذكر حيزا واسعا لفيضها الشعري الصوري ـ الرمزي بنغمات مترادفة أحيانا ومتقاطعة أحيانا أخرى مما يجعل قصيدتها تختلف عما أشرنا إليه في قصيدتي أرض اليباب وقصيدة مرثية في مقبرة ريفية. ولذلك سأتطرق إلى قصيدة الشاعرة نبيهة علاية بمحاور عن الحالات الشعرية الثلاث التي ستكون مكثفة كالأتي:
أولا: الحالة الأولى ـ شرارة الثورة
لابد من الإشارة إلى أن أغلب الثورات في التاريخ يتم الآن مراجعتها برؤية نقدية بالرغم من الانجازات الكبيرة التي قدمتها لبلدانها أو عموم المجتمع البشري، فالثورة الفرنسية عام 1789 أقدمت على إعدام الملكة ماري أنطوانيت في ميدان الثورة بالمقصلة ـ قطع الرأس ـ وهذا لم يكن إلا انتقاما غير مبرر لأن لا يزيد أو ينقص رغم كل السلوك المشين الذي مارسته الملكة في تبذير أموال الدولة على ملذاتها في مهرجانات احتفائية في البلاط الملكي، ولا يوجد أي دليل على أنها صاحبة المقولة الشهيرة : (إذا لم يكن هناك خبز للفقراء، دعهم يأكلون كعكا). وقد اثبت أن هذه المقولة من ترويج وِإشاعة جان جوك روسو. وكذلك أن ثورة أكتوبر الروسية عام 1917 اقترفت جريمة قتل العائلة الإمبراطورية من نساء وأطفال بأمر من لينين، وكذلك تم تصفية كتيبة نسائية تابعة للقصر الإمبراطوري. كل ذلك حدث بعلم وأمر لينين. أما بالنسبة للعراق فتم رمي العائلة الملكية من نساء وأطفال بالرصاص بتهور بعد أن استسلموا وهم يرفعون القرآن الكريم، والأمثلة كثيرة في تاريخ ثورات الشعوب.
إذن، الآن بدأت مراجعة جدية لطبيعة الثورات في التاريخ، ومناقشة تلك الأخطاء الفادحة التي لا تنم إلا على الانتقام وممارسة شهوة العنف البديل.
ههنا نتوقف عند قصيدة الشاعرة نبيهة علية ( كما تتفتق سنبلة في البحر) الذي يعتبر العنوان مثير للجدل، إذ ما هذه السنبلة التي تتفتق في البحر كما لو أنها لغزا محيرا ثم كيف تتفتق في ظلام البحر؟! خاصة وقد جاء السطر ما قبل الأخير بقول الشاعرة:
كما تتفتق سنبلة في البحر…وتعتق غيمة في السماء
إذن، نحن أمام مدخل العنوان الذي يكاد يكون محيرا وغامضا. فها هي الشاعرة تدخلنا إلى عالم قصيدتها بقولها (أوليس هذا انتحارا) حيث سيكون هذا السطر من أصل 92 سطر أشبه بنوطه لإيقاع يتردد بين الحالات الشعرية غير أننا لابد أن نتوقف عند الشرارة الأولى للثورة كتوضيح للقارئ الكريم حيث كان بو عزيزي بائع بسيط محروم بائس فقير يرتزق من بيع الخضروات كما جاء في القصيدة:
من شدة ما حظيت قدماه في الوقوف
فتقدمت إليه الشرطية تطلب منه أن ينتقل من مكانه لأن توقفه هنا غير مسموح به، فأجابها بطريقة غير لائقة أو مهذبة: (الميزان هذا حتى أقيس به نهديك) مما حدا بها ذلك أن يثير غضبها فصفعته، فلم يكن من هذا المحروم إلا أن يقدم على الانتحار حرقا فيما بعد أمام الولاية، وهنا بدأت شرارة الثورة، فنزل الشعب إلى الشوارع، ولا أريد أن أخوض بالتفاصيل، إذ لابد أن نركز على القصيدة حيث استطاعت الشاعرة أن تكشف الإحباط الذي هو نتيجة تراكمية لواقع معاش كما لو أن باحتراق بو عزيزي قد احترق عالما كاملا كي يتبدل ويتغير، لذلك تقول في قصيدتها:
كم يستفزها…نهم أحمر!
يتساقط…بتساقط سروال مبتذل الشهوة،
وبنصف فتحة..
يشن فتوحاته الذكورية المحمومة
فيشد على اهتزاز الكيل بمكيالين
يترائ له…تورد نهود
فهنا تجعلنا الشاعرة
ثانيا: الحالة الثانية ـ الثورة
كانت الثورة عفوية غير منظمة في تونس لتهز مضاجع الدكتاتورية مما أدى إلى هروب الدكتاتور خاصة وقد ربطت بانتحار بو عزيزي حين تقول الشاعرة:
يوم الاهتزاز من رماده… بمكيال نهدين
ثم تقول في مشهد آخر:
سقطت عربة ذلك البائس في الزلف
وعادة في كل ثورة تحدث ضحايا حتى لو كانت سلمية لأن الثورة بحد ذاتها هي تغير نظام حكم واستبداله بنظام جديد، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن الثورة التونسية كانت بسواعد التونسيين، ولا أميل أنا إلى الرأي الذي يقول: أن هناك كان تدخلا خارجيا في حدوثها.
نعم، تبعتها تحركات فوضوية في ليبيا ومصر وسورية وتلتها اليمن، وهذه كانت بفعل مؤثرات وتدخلات خارجية التي سادها العنف ودخل فيها الإرهاب أما في تونس فقد استطاع التيار الديني أن يستحوذ عليها، ويقطفها، وحاول أن يمحورها لنفسه، ويرجع تونس إلى القرون الموغلة في القدم. هذا لم يقبله التونسيون لذلك صعدوا من نضالهم لوقف التدهور في صراع شاركت فيه المرأة التونسية بكل طاقتها للحفاظ على منجزاتها عبر تاريخ طويل، وههنا تصف الشاعرة هذه الحالة حسيا حين تقول في القصيدة:
واشتبك الأحمر بالأحمر
أوليس انتحارا
أن يفرغ الأحمر من كل إيحاءاته
والكل يصدح بالياسمين…ولا تخضر دماء؟!
نحن لنا بحر…ولنا دم
هذا كاف لنخبز وطنا…نحترق به
حيث الشاعرة تجسد الأوضاع في صور شعرية بعد أن تصاعد الصراع ما بين التيار العلماني والتيار الديني الذي تمخض أيضا عن معاناة كثيرة وخوف ورعب حين هدرت بعض الدماء لذلك نجد أن الشاعرة تستخدم اللون الأحمر في القصيدة بتسعة مشاهد كما حال مفردة البحر توظفها في مشاهد متنوعة مختلفة.
ثالثا: الحالة الثالثة ـ المجهول
ليس دائما الثورات تستطيع أن تحقق أهدافها، والتاريخ يخبرنا عن ثورات فشلت رغم التضحيات الجسام كما هي ثورة سبارتكوس في العصر القديم التي يطلق عليها ثورة العبيد أو ثورة الزنج في العراق أو ثورة القرامطة أو الثورة البابكية أو حتى الثورة الفرنسية الأولى، وإن بعض الثورات كانت تواجه بقمع شديد، وقد تتحول إلى كارثة حقيقية على شعوبها كما يردد اليوم باستخفاف واستهزاء بالربيع العربي لأنه جلب الويلات على شعوبها حين ساد فيها الإرهاب وخربت البلدان وأدخلت مواطنيها في الجحيم اليومي من الموت والنزوح والهجرة والجوع والأمراض حيث عمت الفوضى في البلدان خاصة وقد تم احتواءها من قبل دول داعمة للإرهاب زجت بمواطني هذه البلدان في الطائفية البشعة والعنصرية المقيتة والجهل والخرافة.
هذا، ونجد الشاعرة نبيهة علاية ينتابها خوف شديد على وطنها تونس من هذه الريح الجارفة المرعبة لذلك تقول:
الوطن هو الفكرة…لا يحتمل المزايدات
والفكرة…اسفنجية نرجسية، مجرد رائحة
ماذا لو تهبني تلك الضغينة؟
ثم تختم قصيدتها بكلمات معبرة كأنها صدى تتردد من بعيد:
تتماسك القيامة في اسمها: أنا تونس الخضراء!
هذه القصيدة متوقدة باندفاع نحو أفقها كقصيدة نثرية، تلغي التقليد السائد، فهي جريئة حين توظف جغرافية الجسد الثنائي ـ ذكر وأنثى ـ وتضاريسه فضاء لمشاهد وصور شعرية بلغة بليغة فيها إيحاءات مباشرة أحيانا وغير مباشرة أحيانا أخرى، وكذلك تفلح في صياغاتها التركيبية كما تبوح برموزها تارة وتخفيها تارة أخرى ثم تتجاوب وتتفاعل مع إيقاع طقوس القصيدة في بنية وتقنية منسجمة.
هذه القصيدة متفتحة ـ تأملية، وقد تكون مغامرة في التصوير الحسي للجسد في انتهاك الموروث الثقافي كما يعتقد البعض، فهي مد تأملي تغزل لنفسه ثوبا جديدا مزركش بألوان جمالية تبهج الناضر إليه. لذلك استغرب من النقاد التونسيين أن لا يولوا اهتمامهم بهذه القصيدة سيما لابد أن يقول الشاعر أو الشاعرة كلمته أو خطابه بما حدث لأن تونس مثل برعم يتفتق في كل ربيع زاه، ولأن تونس تتلفع بأنشودة خالدة صافية موغلة في الحب، ولأن تونس تتجدد فتية في كل محنة تمر عليها، فهي ثرية نقية تتعالى بروعة أغنيتها في كل زمان، وتورث غنائها بحب للجيل الجديد، فأغنيتها متوارثة سحرية تتردد على الشفاه. تونس الخضراء، حلم شوق يعرفها كل قلب يعزف الأوتار.