عبدالقادر حميدة
انطلاقا من مقالة أن العنوان “يجب أن يشوش على الأفكار، لا أن يحولها إلى قوالب مسكوكة”[1]، نستفهم حول المهمة التي اضطلع بها “قبيل الشروق” وهو عنوان رواية الروائي والقاص التونسي عباس سليمان الصادرة عن دار البراق للطباعة والنشر بالمنستير بالجمهورية التونسية عام 2012، هل أربك السؤال، بأن فتحه مشرعا على الاستفهام، مما يعني وخز المخيال ليلعب دوره في تحديد رقعة الدلالة، وحدود المكان، ولا حدود الإمكان، وهل هو “في طريقه نحو اكتماله يعلن عن هويته، يرتفع إلى ميكرو-نص Micro-texte كاف بذاته، موصل لقانونه الخاص”[2]، وللإجابة على ذلك يجب الرجوع إلى بداية الرواية، حين كان عباس يمهد للحكاية مستعملا الضمير الغائب، مسميا البطل مرة سليمان، ومرة عباس، والكاتب نفسه هو عباس سليمان، إنه الفخ الأول لقراءة عنوان قبيل الشروق، إنه الإرباك الأول الذي يقودك إلى الجزم أن الأسماء في فضاء هذه الرواية لا تهم كثيرا، فهي تشير غلى الكتاب أصحاب المواقف، الذين ينسجمون مع كتاباتهم، وهي تشير إلى أن المسمى أولى بالعناية من الاسم، وهي تشير إلى المعنى لا إلى المبنى، فقراءتنا للعنوان يجب أن تنسجم مع هذه الرسالة المشفرة، ومن هنا لم يكن الكاتب في حاجة إلى تلك العبارة التي دأبنا أن نقرأها في مفتتح كثير من الروايات والتي تعني “أن اي تشابه في الأسماء أو الأماكن أو أي شيء آخر هو غير مقصود”
يربكنا الكاتب مرة أخرى، حين يعمد في الصفحة 20 إلى تغيير الضمير من الغائب إلى الحاضر، هنا يدخل “الأنا”، فالبطل الآن داخل قبو لا يحسن فيه الغياب، ولا يليق فيه النسيان، والراوي يريد التأريخ لمرحلة ما، لحدث جسيم، لا يجدر به أن يكتب بالضمير الغائب “الهو”، وهنا تغدو دلالة عنوان الرواية “قبيل الشروق” فاضحة لشيء ما، شاهدة على زمن ما، وعلى ما يعتمل داخل الظلمة التي تسبق الشروق، فـ”قبيل” هذه تدل زمانيا على الفترة القصيرة التي تسبق شروق الشمس، أي بزوغ نور ما، يستطيع من خلاله القابع في الظلمة، أن يشرع في تلمس الأشياء حوله، فالظلمة القاتمة آيلة للانقشاع، وسيتبين بعد قليل الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وطبعا لكل هذه المعاني انزياح ما هو المقصود من خلال العنوان، ومن خلال تفاصيل الرواية ذاتها، الانزياح سياسي واجتماعي وثقافي، إنها تؤرخ لفترة قبيل الربيع التونسي، أين كانت الرقابة على العمل الإبداعي، شديدة، مكبلة، لا تترك للبراعم مجالا رحبا للإيناع، وجاءت الثورة لتحرر الأفكار والأقلام..
إن النهار إذا طلع، سيضيء كثيرا من الزوايا التي ظلت معتمة، ذاك ما يجب أن تشير له الرواية إن أرادت الانسجام والوفاء لعنوانها، الذي هو عتبتها الرئيسية، وهكذا فإن موضوعات الليل العربي، موضوعات معروفة، حاولنا تتبعها في الرواية، لنخلص إلى إجابة نهائية للتساؤلنا حول العنوان.
الاشكالات التي تثيرها رواية “قبيل الشروق” متعددة، وإيحاءاتها كثيفة، بواسطة لغة واضحة موجزة، تعتمد تقنية التصوير المشهدي، بغية أن تشد القارئ إليها شدا، رواية لا يمكنك المرور بين صفحاتها ببساطة، لأنها تحفر حفرا وئيدا، في أعماق نقائض مجتمع عربي مسلم من مجتمعات العالم الثالث، فهي تتخذ من تعميق صورة المشهد ممرا نافذا للحكي، وللحبكة نفسها.
إن موضوعات عدة لامستها هذه الرواية، وحاولت الاستفهام حولها، إنها توخز القارئ بأسئلة مصيرية تتعلق أساسا بالحرية، حرية الكتابة وحرية العيش، وتتعلق بالراهن الاجتماعي التونسي ومن خلاله المغاربي والعربي، الراهن الذي ما يزال يتشبث بالخرافات وتؤطره الذهنية الغيبية، وما تعليق البطل على تصرف زوجته حين دلقت دلو الماء خلف السيارة السوداء التي كانت تقله نحو مصير مجهول، إلا تلميح ذكي من الراوي حول الذهنية التي وصفها المفكر هشام شرابي بذهنية الإتكالية والعجز، ذلك الماء الذي يسمى أنثربولوجيا بـ”ماء العودة”، “رغم حزنه، رغم خوفه، رغم انهياره، تسللت إلى قلبه ابتسامة لمجرد أن انتبه إلى أن زوجته صبت الماء ليعود إليها سالما”[3]، نقائض العلم والخرافة، الضدان اللذان يتآلفان بود في أعماق زوجته، هما مكنونات مجتمع لم يحسم أمره بعد لصالح المستقبل في مواجهة الماضي، إن للماضي سلطة وسطوة داخل النفوس، موضوع المقدس والتقديس، موضوع السلطة، مكانة المثقف الحقيقي “المثقف العضوي” بتعبير غرامشي، موضوع المعاناة، موضوع سطحية البرامج التعليمية التي تعيد إنتاج الهابيتوس-بتعبير بيير بورديو- والهابيتوس هنا هو العادي، المنمط، الجاهز والسطحي، أسئلة توخزك أثناء القراءة لكنها تستمر معك بعدها، لتعيد ترتيب الأشياء داخلك، ولتزرع فيك وعيا مغايرا، مختلفا عن السائد، إنها تقضي داخلك عن الوعي الزائف، إنها كتابة تحتفي بالشروق الجديد، اليوم الجديد الذي حتما سيكون مختلفا، عما قبله، بل عما “قبيله”، وهكذا هي الكتابة هدم ثم بناء، أو قل هدم وبناء في الآن ذاته..
ولا يكون هذا الهدم اعتباطا، بل بوسائل صقلتها التجربة بالأساس، وتجربة الكاتب عباس سليمان الحياتية والكتابية، تتجلى في اختياره لتقنية السرد، وزاوية الرؤية، واللغة التي تستجيب لكل حالات البطل قبل الاعتقال وبعده، أثناء الاستجواب، إن هذه التجربة تفصح أن هذه الرواية ليست أول عمل إبداعي للكاتب فقد سبقتها في الرواية روايات عديدة منها: “النسيان”، “أيام إضافية أخرى”، “سفر التيه” الحائزة على الجائزة الأولى لمسابقة المدينة للرواية عام 2008، و”جحيم في الجنة” وهي الرواية التي اختارها المركز الوطني للترجمة كي تترجم إلى اللغة الفرنسية، ومن أعماله القصصية مجموعة “موتك يقتلني”، “أيام العطش”، “لا موت بعد اليوم”، و”رأسي الجديد”، وقد صدرت له مؤخرا المجموعة القصصية الموسومة بـ”……” وله أعمال نقدية في انتظار الطبع، إنها تجربة ثرية تستحق قراءات متانية، ومساءلات متعددة لمتنه من مختلف الزوايا، كما أن تجربته التعليمية فهو يعمل متفقدا للغة الفرنسية في مدارس مدينتي أم العرائس والرديف من شأنها أن تثري قاموسه الإبداعي باستفهامات حقيقية، من وسط النقائض التي قد تقض مضجعه كمبدع وكمتفقد، إنها تجربة تعمق وعيه يوما بعد يوم، وها هي تتجلى في أسئلته الإبداعية التي ما يفتأ يطرحها قصة حينا، ورواية حينا آخر.
فسؤال الحرية إذن في واقع مصمت كهذا هو السؤال الأكثر إلحاحا، لأنه سؤال يحاور عدة مستويات، فهو سؤال وجود، وسؤال التطلع إلى حياة متوازنة، وسؤال التحرر من الرقابة، والانعتاق من الهيمنة، إنه السؤال الأول والأخير، أو قل السؤال الأهم في “قبيل الشروق”، هو السؤال الذي تنضوي تحته بقية الأسئلة، إذ تفقد كل الأشياء معانيها في غياب الحرية.
إن سؤال الحرية في رواية “قبيل الشروق”، هو السؤال الذي يظل يلاحقنا منذ البداية، وكلما تقدمنا في القراءة، كلما كبر بداخلنا هاجس البحث عن منفذ ما، عن كوة أمل ما، عن خلاص ما، هاجس تفنن عباس سليمان في رسمه داخلنا، حتى يشعرنا بقيمة التحرر من هيمنة الخرافة، والتخلف، والجهل، ومن خطورة الذهنية الغيبية التي يقف وراءها يعيد إنتاج تخلفه وبؤسه.
إن عباس سليمان لا يناقش مسألة الحرية، بقدر ما يسعى إلى زرع قيمتها داخلنا، إن وصف الظلمة غايته التحسيس بقيمة الضياء، وهكذا فقد تمكن الروائي من رسم واقع عربي ما، من خلال “قبو واطئ بطول يصل إلى ثمانية أمتار وبعرض لا يتجاوز المترين.. بارد، رطب، ندي”[4] واستنطاق في مكان ما في دولة ما لا يهم اسمها وعنوانها بقدر ما يهمنا حالها وما يجري داخلها، وكيف ينظر إليها من الخارج، وذاك أن التاريخ لحدث الربيع العربي ليس مقصودا في ذاته، بقدر ما تهمنا دواعيه، وأسبابه، ونتائجه، وكل ذلك بلغة روائية توخز المخيال وتخاطب المتخيل لتقول واقعنا بطريقة أخرى، هي الطريقة الأبقى، والأنقى، والأصلح..
وإننا إجابة على سؤال إشكال هذه المقالة المقتضبة، نقترب من التأكيد على أن العنوان أربك فينا فعلا اسئلة عدة، فنظرنا إليه من زاوية ما، وطبعا ليست هي الزاوية الوحيدة، فللعنوان قراءات لا تنتهي، إلا حين تنتهي المعاني..
المراجع:
- عباس سليمان: قبيل الشروق، البراق للطباعة والنشروالتوزيع، المنستير، تونس2012.
- أمبرتو إيكو: آليات الكتابة السردية، ت سعيد بنكراد، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا، 2009.
- بختي بن عودة: قراءة غير بريئة في “التبيين” من بلاغة العنوان إلى تواضع التأسيس، مجلة التبيين، العدد 09/1995، الجزائر.
[1] امبرتو إيكو: آليات الكتابة السردية، ت سعيد بنكراد، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا، 2009، ص22.
[2] بختي بن عودة: قراءة غير بريئة في “التبيين” من بلاغة العنوان إلى تواضع التأسيس، مجلة التبيين، العدد 09/1995، الجزائر، ص9.
[3] عباس سليمان: قبيل الشروق، البراق للطباعة والنشر والتوزيع، المنستير، تونس، 2012، ص18.
[4] عباس سليمان: الرواية ص20.