عبيد لبروزيين
انتعشت دراسة الفرجة الشعبية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مؤرخة لتجربة إنسانية غنية، تعكس الطابع الاحتفالي والفرجوي للحضارات الإنسانية، فكانت ـ ومازالت ـ تمتح من الطقسي والشعائري والأسطوري والديني في بناء لغة رمزية تنتمي لأنساق ثقافية مختلفة، ترتبط بالدال والمدلول والمرجع والتداول.
تتخذ الفرجة الشعبية أشكالا مختلفة حسب وظيفتها الفنية والاجتماعية المناسبة لمضمونها وشكلها ومناسباتها التي تعكس البنية السوسيوثقافية للمجتمع، وهذا التحول هو ما نقصده بالفلكلرة، بالمعنى القدحي، أي عزل الفرجة عن نسقها، لتصبح مادة توظف في استقطاب السياح.
ولأن الفرجة صورة مصغرة عن المجتمع، كانت نقطة تحول بارزة في دراسة الثقافة الشعبية، وموضوعا خصبا لعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا والسيميولوجيا، فترسخ الوعي بأهميتها في الحفاظ على ذاكرة وهوية المجتمعات من الاندثار بعد النتائج التي توصلت إليها العلوم السالفة الذكر.
ولرصد هذا التحول من الطقسي والفرجوي إلى الفلكلوري، لابد من الإشارة إلى أن الفرجات الشعبية انبثقت من الطقوس الدينية والأسطورية والاحتفالية، كاحتفالات الإله ديونيزوس في أثينا، والتعازي الشيعية في العراق والرقصات الصوفية في أنحاء المعمور، فموت الجانب الطقسي من الفرجة غالبا ما يؤدي بها إلى فلكلور مبتذل.
وما يهمنا في هذه المقالة، هو الفرجة في الحضارة الأمازيغية، التي تمتد في التاريخ إلى ما قبل الميلاد، فلا بأس من الإشارة إلى أنها حققت بالضرورة، تراكما كميا ونوعيا في ممارساتها عبر العصور، مما يحتم مراعاة هذا التراكم والتنوع واستحضار الجانب الطقسي والاجتماعي والأسطوري لاستيعابها.
عرفت الحضارة الأمازيغية تعدد الآلهة، إذ قدسوا الموت، والشمس والقمر، والنار والهة الفراعنة والرومان…إلخ، فاختلفت شعائر تقديسها، الشيء الذي يجعلها حضارة حبلى بطقوس التعبد الشبيهة بنظيرتها الفرعونية والإغريقية التي انبثقت عنها الفرجة، إلا أن هذه الأشكال الفرجوية، وإن وجدت في هذه الحقبة من التاريخ (قبل الميلاد)، فإن حركية التاريخ، وتطور الإنسان، وتنامي وعيه تجاه ذاته ومحيطه، أدى إلى صياغة طرق جديدة في محاكاة الظواهر الطبيعية، شمل تغيرا جذريا في أصول الممارسة الفعلية للفرجة الشعبية الأمازيغية، كنتيجة لحركة المثاقفة وازدهار العلوم ثم الانتشار الواسع للمسيحية والإسلام في شمال إفريقيا، إذ تقلصت مساحة الأسطوري الذي كان لفترة طويلة عصبها الأساس، إضافة إلى اتساع الهوة بين الانسان وثقافته نتيجة للعولمة في عصر النهضة. لذلك أصبحت الفرجة الشعبية بكل أنواعها تتراجع وتنمو حسب العوامل المؤثرة فيها، لأنها شديدة العلاقة بالبيئة التي تستمد منها خصوصياتها وسبل بقائها أو اندثارها.
ومن أول الخصائص المميزة للفرجة الشعبية الأمازيغية أنها تجمع بين الأدب الشفهي وقدسية إيقاع الجسد، وذلك بإظهار ما تقوم عليه من شعرية الخطاب وجماليات الحركة، لكونها ذاكرة ومكونا رئيسا في الحفاظ على الهوية الثقافية والعادات والتقاليد لمجتمع متنوع ومتغير، وهو ما يجعل الخطاب الفرجوي خطابا مركبا من علامات لغوية وغير لغوية، تخضع لتفسيرات المتلقي بناء على مرجع موحد ذي أسس جمالية وسياقية مشتركة.
ولرصد التحول من الطقسي إلى الفلكلرة، سنتخذ فرجة أحيدوس نموذجا للدراسة، حيث سننطلق منهما لرصد خصائص الفرجة الشعبية الأمازيغية في عصرنا الراهن، إذ لا شك أنها مرت بفترات زمنية غير معروفة، فنتج عنه بالضرورة تطور لملاءمة البيئة بكل تغيراتها ومستجداتها.
لم يحفظ التاريخ إلا النزر اليسير عن الفرجة الشعبية الأمازيغية، لكن هذه الأخيرة، أرخت لنفسها بنقل الخصائص والمعايير والقيم المجتمعية والعادات والتقاليد شفهيا وعن طريق المكونات الأساسية لها (اللغة، والموسيقى، والرقص…) فهي عناصر كفيلة بمنحنا صورة عامة عنها، وكذا المجتمع الذي أنتجها، وقمينة أيضا بالإجابة عن بعض الأجوبة بالربط بينها وبين الحقب التاريخية، لأنها تختزن كمّا من العلامات الإيمائية الهوياتية الدالة على العصور السابقة.
تظهر الهوية في الفرجة الشعبية من خلال التعبير واللغة واللباس والحركات المؤصلة للفعل الفرجوي، لأن الفرجة ليست “وثيقة تاريخية”[1] فحسب، بل وثيقة تأريخية من خلال كتابة الإنتاج الثقافي والدلالة عليه. ففي رقصة أحيدوس تختلف أنواع الوسائط -المكونة لعناصر الفرجة- التي تنسج العلاقة بين المؤدي والمتلقي، إذ عن طريقها يتم التواصل بين طرفي العملية الفرجوية التي تحدد بدورها جوهر الفرجة الأصيل والمتجدد. وبهذا يمكننا استقراء عادات وتقاليد المجتمع اﻷمازيغي انطلاقا من فرجة أحيدوس، وذلك من خلال أربعــــة أســــــس:
1: اللغة
2: الأداء الاستعراضي
3: العادات والتقاليد
4: الأسطورة
إن الوقوف عند هذه الأسس في فرجة أحيدوس، مرده إلى كون هذه العناصر بؤرا هوياتية، فهي ترتكز على الأداء واللغة/الشعر، والأداء الاستعراضي ويؤثثها فضاء واحد ومرجع مشترك يتمثل في العادات والتقاليد والأسطورة. إن أحيدوس بمعنى من المعاني، فرجة استعراضية تخاطب المتلقي من خلال الحركات والتحركات والإشارات، حيث لا يسعى المتلقي للتأويل، وإنما يكتفي بما يشاهده بانبهار من تناغم الأجساد مع بعضها البعض ومع الموسيقى والفضاء. وللوقوف على هذا الجانب المهم جعلنا الأداء جزءا مهما في دراستها.
تعد فرجة أحيدوس شكلا تعبيريا فنيا، يستعرض فيه إمديازن/الشعراء ما جادت به قرائحهم من أشعار مستلهمة من محاكاة الطبيعة والحياة الاجتماعية والعلائق التي تحكم القبائل الأمازيغية، مكونة محاكاة طبيعية بالجسد تارة، وبالكلمة تارة أخرى، فهي شكل يجمع في طياته الجوانب الحياتية للإنسان الأمازيغي، وتفاعله مع الحضارات التي مرت من شمال إفريقيا، لذلك نجد هذه الفرجة تحتكم في مقوماتها الجمالية والفنية إلى المنطقة الجغرافية التي تنتمي إليها، بالإضافة إلى اختلاف اللسان، حيث ينقسم الأطلس – حسب اللغة – إلى قسم الشمال، الذي يتحدث “ترفيت”، وقسم الجنوب “تشلحيت”، وقسم الوسط “الأمازيغية”، الشيء الذي يجعل من أحيدوس إنتاجا مختلفا ليس من منطقة لأخرى فقط بل من قبيلة لأخرى أيضا.
لقد ظهرت في الثقافة الأمازيغية المغربية شمال إفريقيا فرجة أحيدوس وهي تمارس بشكل جماعي، يُلتمس فيها إيقاع معين وتتخذ أشكالا متعددة، تمارس في الأعراس والحفلات والمهرجانات و(المواسم) وترتبط بالأسطورة الأمازيغية في علاقتها بـ”إسلي” و”تسليت” أي العريس والعروس، وهي أسطورة معروفة في الثقافة الأمازيغية، تتحدث عن حب عذري أدى إلى تحدي سلطة الزواج خارج القبيلة.
تحتضن رقصة أحيدوس معالم الثقافة الأمازيغية من خلال أشعارها، أو ما يسمى بـ”إزلان” وحركات الراقصين وعادات وتقاليد المجتمع، التي تظهر في هذه الفرجة على أشكال صور مختلفة. فما هي رقصة ءاحيدوس؟ وما هي مكوناتها الرئيسة؟ ومتى نشأت هذه الفرجة؟ ولماذا استطاعت أن تحافظ على استمراريتها في ظل الظروف الحالية التي تهدد الفرجة الشعبية؟
1- رقصة أحيدوس
1.1. التعريف
رقصة ذات طابع احتفالي جماعي، تشتمل حركات وإيماءات ثم أشعارا مغناة على إيقاع آلة الدف (البندير أو ألّونْ) وتعد من أهم الرقصات التي تعرفها القبائل، وهي أكثرها تعبيرا عن أصالتهم[2]. إن أحيدوس رقصة فرجوية تجمع بين قدسية إيقاع الجسد، وتصبو إلى انتشال المؤدي من الواقع اليومي إلى طقس مقدس، وهي تتكون من “إيزلي” الذي ينقسم إلى شطرين، حيث تصبح المجموعة ملزمة بترديدهما.
وتستوجب هذه الرقصة أزياء خاصة وموحدة، زي نسائي وآخر ذكوري، يتكون زي هذه المجموعة الأخيرة من جلباب أبيض – في الغالب – بالإضافة إلى وشاح تضعه المجموعة فوق رأسها (الرزة) أما بالنسبة للنساء فتختلف الأزياء من منطقة لأخرى، ويكون “القميص” وهو زي تقليدي أمازيغي تتفنن النساء في نسج خيوطه، وتوضع فوقه أحيانا في بعض المناطق “الرقعة” (تَاحَنْدِرْثْ)، هذا بمعية أدوات الزينة الأخرى كالقلائد والخلاخل والحناء وغيرها. فالنساء تتفنن في التزين والتأنق للفت انتباه الشباب الراغب في الزواج، “فمن كلمات “توايا” للنساء في مهرجان “إيمعشار” وهي تحمل نماذج وهمية من الكحل والسواك والحناء وغيرها من مواد الزينة وتقنيات تعاطيها، كيف يمكن للمرأة إذا أتقنت هذه التقنيات أن توقع بها العديد من القتلى والجرحى في صفوف الرجال”[3]. فالزينة في أي محفل ضرورة ملحة على المرأة الأمازيغية، إذ تعد هذه المحافل المكان الوحيد للقاء المرأة مع الأجانب.
2.1 مكونات أحيدوس:
الراقصون/المؤدون: وهم المجموعة الممارسة لفرجة أحيدوس، يختلفون من حيث العدد والمهارة، ويتميزون جميعا بقدرتهم على مجاراة الإيقاع العام، ولا يعتبر السن شرطا، بل حضور كبار السن في الفرجة – خصوصا في أحيدوس المتميز بالإيقاع الخفيف – أمر ضروري يضفي عليها هالة من الوقار.
“الدف” أو “أللونْ“: آلة موسيقية تصنع أساسا من جلد الماعز لضبط الإيقاع العام للرقصة، يحكمها إطار خشبي دائري، ويتخذ شكل مثلث في بعض المناطق. كما يعرف أيضا بـ”الطّارْثْ” أو”أكْليمْ” أي الجلد.
ومن خصوصيات التعامل معه “أن العزف على الدف متعب، فهو من الأدوات التي يتطلب الاشتغال عليها تحملا بالنظر إلى تركيبته، بما هو إطار خشبي مغلف بجلد الماعز أو غيره، يتعين حمله والتحكم فيه بواسطة الإبهام من خلال ثقب هذا الإطار، في ذات الوقت التي تشتغل فيه باقي أصابع اليدين معا دون توقف”[4].
الرايس: يتحرك قائد المجموعة (الرايس) وسط الشكل الدائري، وأمام المجموعة في الشكل النصف دائري، ولا يتخذ شكلا معينا في شكل الصفان المتقابلان. ويتجلى دوره في ضبط الإيقاع والمدة الزمنية لكل إيزلي حاملا دفه الذي لا يستعمله للحفاظ على الإيقاع بل لخلقـه.
-
أنواع أحيدوس:
تعرف فرجة أحيدوس ثلاثة أنواع مختلفة، يميزها إيقاعها وطريقة أدائها، وتمارس كل واحدة منها على حدة، وقد تتصل فيما بينها حسب رغبة “الرايس” أو المجموعة، كما قد تتخللها فترات صمت متباينة الطول.
1.2 أحيدوس ”أمازيغ”:
يعتبر نوعا راقيا من رقصة أحيدوس، بحيث تتشكل مجموعة الراقصين فيه على ذوي الخبرة والمهارة، ويؤدى بعدد قليل من الراقصين المتمرسين الذين يتقنون أداء حركاته المرنة والمعقدة والمتنوعة ثم المعبرة[5]. ويسمى كذلك أحيدوس “أمرصاد” ويُقّدم في مناسبات خاصة، ويعتبر راقيا لأنه يتطلب مهارة معينة لتأدية حركاته المعقدة.
2.2. أحيدوس أمْسَرّحْ:
يؤدى بعدد كبير من المشاركين ويراعى فيه البطء في الحركة والإيقاع الذي يجعل كل الراقصين في انسجام رغم اختلاف براعتهم. وهي رقصة المبتدئين والهواة بشكل عام[6] ورقصة أحيدوس “أمْسَرّحْ” تقام في حفلات الأعراس وفي المناسبات الاحتفالية الأخرى، بحيث يكون المشاركون فيها من المحتفلين، ولا يمنع أو يستثنى أحد، مما يجعل من هذا النوع فرجة احتفالية جماعية. ويسمى كذلك أحيدوس “أكْرْهُور” يراد به خلق جو لتفجير النزوات العاطفية بين الشباب وخلق جو للتواصل والتفاعل.
2-3- أحيدوس “أخَـــاثَارْ” أو “أمْقْرَانْ”:
هو المقطع الأول من أحيدوس، ويستهل بالوضع في درجة الصفر، وهو الوقوف المستقيم لأعضاء الفرقة استعدادا لانطلاق الرقصة، ويكون البدء بالتحية “أسَلَّمْ” وهي عبارة عن انحناءة خفيفة… إنبراز رجلين شاعرين..فيرتجلان أو يختاران “إزْلَانْ”[7]. والانحناءة التي تؤشر على التحية – كما في القول السابق – ليس ضرورية في منطقة الأطلس المتوسط إلا في بعض الاحتفالات الرسمية التي يحضرها الضيوف أو على خشبة المسرح، وعليه فهذه الانحناءة ليست أصْلا في الشكل الاحتفالي الشعبي لأحيدوس، وإنما وليدة ظروف معينة في احتكاكها بالأنماط الفرجوية الحديثة مثل المسرح، وهذا جانب من فلكلرة هذه الفرجة.
ورغم تقسيم أحيدوس إلى هذه الأنواع، فهو في حقيقة الأمر شكل واحد، يمتزج فيه الشباب بالشيوخ والنساء. ويتكون في حفلات الزفاف من رقصة واحدة متصلة بعيدة عن هذا التقسيم، وتقوم على شكل من الاحتفالية والاعتباطية. ويستخلص نوع أحيدوس انطلاقا من الإيقاع والحركات وليس من المؤدي، لأن الرقصة احتفال مرتبط بطقس قديم لعبادة النار قبل أن يتحول من الطقسي إلى الفرجوي ثم إلى فلكلور.
وعموما تبقى هذه الأنواع متعلقة بمناطق معينة من الخريطة الثقافية المغربية، فرقصة ساكن الجبل غير رقصة ساكن السهل، إذ تمتح الفرجة من تضاريس محيطها ومن انفتاح القبيلة أو انغلاقها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ساهمت النظرة السياحية في اندثار هذه الأنواع لتستقر على شكل واحد، لذلك أصبح أحيدوس، نتيجة ظهور بعض الفرق التي تمتهن هذه الفرجة حديثا، تمارسه كنوع من الفلكلور، أي الاستغناء عن الوظيفة الطقسية والاجتماعية والأسطورية للفرجة، مما جعلها تنتقل من كونها إبداعا داخليا للجماعة، إلى فرجة تلبي حاجات خارجية (استقبال الوفود السياحية)، ولذلك أصبحت معالمها التقليدية تتراجع، فالفرجة التي قال عنها خالد أمين أن “المجتمع يظهر عبرها ومن خلالها” أصبحت تتراجع مقابل فرجة سياحية.
-
أشكال أحيدوس
ينقسم أحيدوس من حيث الشكل إلى ثلاثة أقسام كبرى لأسباب مختلفة، جعلت كل شكل يحتفظ بميزات خاصة وطقوس معينة في تشكيله، كما تلعب المناسبات دورا في تحديد الشكل، وذلك لضرورات خاصة.
3-1- أحيدوس: الشكل الدائري
القديم /المفترض
يعتبر هذا الشكل من أقدم الأشكال، بالرغم من أن البداية الحقيقية لأحيدوس يصعب تحديدها، لأن الأشكال الأخرى لم تظهر إلا في السنوات الأخيرة، ما جعلنا نفترض أن الدائرة هي الشكل الأصلي لرقصة أحيدوس، فالدائرة ترمز في كثير من الثقافات إلى “الكمال” و “الألوهية”[8] فلماذا الشكل الدائري دون غيره؟ ( رقم1).
3-2 أحيدوس: النصف الدائري
الحديث/المفترض
لم يظهر الشكل النصف الدائري لأحيدوس إلا في السنوات الأخيرة لأسباب فرجوية، إذ إن صعود الفرقة إلى خشبة المسرح في شكلها الدائري يحول دون مشاهدة الجمهور، فظهر هذا الشكل نتيجة لهذه الحاجات الفرجوية، ويتخذ هذا الشكل أيضا خطا مستقيما في بعض الأحيان على خشبة المسرح أو بمناسبة استقبال الضيوف (رقم 2) وهو الشكل الذي أسهم في تحول أحيدوس إلى فلكلور.
3-3- أحيدوس: الصفان المتقابلان
القديم/الحديث
وقد أسميناه كذلك لأنه تطور عن الشكل الدائري، وهما صفان متقابلان من الذكور والإناث، وهو أقدم من أحيدوس نصف دائري، وقد ظهر لحاجة اجتماعية تمثلت في اختيار الزوجة، كما هو الشأن في مهرجان إملشيل في المغرب، وليست هذه الحاجة خاصة بهذا الشكل، ولكنها مميزة له. (رقم3)
نستخلص أن الشكل ليس هدفا في حد ذاته، بل هو وسيلة لخدمـة أهداف اجتماعية أو فنية أو تفجيرا لتعبير الذات الإنسانية عن مكنوناتها.. إن الشكل ليس ميزة لكنه خاصية يحكمها المجال الجغرافي، وكذا نسبة الاحتكاك بالآخر ومدى تأثيره في الأنا.
4 ـ الأسطورة والبعد الاجتماعي في رقصة أحيدوس
تنطلق الرقصة بمبادرة من الذكور، وبعد وقت قصير من تكون الشكل، تلتحق الفتيات والنساء بالحلقة، ولكل واحدة منهن الحرية في اختيار رفيقها، ويحدث في بعض قرى آيت احديدو بمنطقة إملشيل، صراع وشجار بين الفتيات حول المواقع.. ويفتح المجال لاحتكاك الأجساد بشكل يكاد يصنف في الجنس الشبقي[9].
ويتخذ ترتيب الإناث والذكور في رقصة أحيدوس أشكالا متعددة، فلنفترض أن هذا الرمز ☻ يدل على الذكور، في حين يكون هذا ☺ رمزا للإناث.
المرحلة الأولى |
☻☻ ☻☻ ☻☻ |
المرحلة الثانية |
اختيار الإناث ☺ لمواقعهن انطلاقا من علاقة مسبقة بـالذكور ☻ أو متولدة في حينها. |
المرحلة الثالثة |
☻☻ ☺☺ ☻☻ ☺☺ ☻☻ ☺☺ |
المرحلة الرابعة |
بداية رقصة ءاحيدوس |
جدول يبين مراحل تكون رقصة أحيدوس
الشكل (أ)
☺☻
☺ ☻
☺☻
التمثيل الدائري لرقصة أحيدوس
الشكل (ب)
وانطلاقا من هذا التركيب تنشأ علاقة بين الذكر☻والأنثى☺حسب شكل أحيدوس، وذلك نظرا للعادات والتقاليد التي كانت تحكم العلاقة بين الجنسين، حيث يمنع منعا كليا الاختلاء أو المحادثة خصوصا من خارج القبيلة، إذ مازالت بعض المناطق في الأطلس المتوسط تمنع المرأة من الإرث في حالة زواجها من الأجنبي وذلك حفاظا على ممتلكات القبيلة.
أما فيما يخص الصفّان المتقابلان فتتخذ رقصة أحيدوس الشكل التالي:
☻ ☻ ☻ ☻☺ ☺ ☺ ☺ |
تمثيل الصفان المتقابلان لرقصة أحيدوس
الشكل (ج)
وتجتمع هذه الأنواع والأشكال في كونها تؤدي وظيفة اجتماعية كما في (الشكل أ) أو جمالية (الشكل ب و ج)، وهي ما يجمع هذه الأشكال مع الغنى الكبير في بلورة نماذجها في حيز جغرافي ضيق. وهو ما أشارت إليه مريم رورسنك ألسن “Miriam Rorising Olsen” في دراستها الميدانية حول غنى وتنوع المنتج الثقافي بين قبيلة وأخرى رغم تجاورهما. ونعزي هذا الاختلاف إلى انتشار النظام القبلي، فاستقلال القبائل والحروب التي عرفتها فيما بينها أو ما عرف بـ”زمن السيبة” أدت إلى قطيعة نتج عنها أن أصبح لكل قبيلة مميزاتها الخاصة.
أما عن الجانب الأسطوري في أحيدوس، فهو يرتبط بعلاقة حب انتهت بالفشل، إذ “يروى أن “ءسلي” الذي ينتمي إلى “آيت ابراهيم” أُغْرم “بتسليت” وهي من “آيت اعزة”، وساد بينهما حب هيامي عميق، فتعاهدا على الزواج والارتباط الأبدي، غير أن أعيان القبيلتين امتنعوا عن تزويجهما … وأجهشا بالبكاء إلى أن امتلأت البحيرتين، وسميت باسميهما وهو السبب الذي جعل آيت احديدو يتراجعون فيما بعد عن تقديس الزواج العشائري ويتركوا لأبنائهم حرية اختيار شركاء حياتهم”[10].
فكانت الاحتفالات ـ وفرجة أحيدوس بالخصوص ـ انتصارا للأمازيغ في اختراقهم النظام القبلي، حيث ساهمت فيه الأسطورة والرغبة في السلم والتكافل الاجتماعي المعبر عنه في الزواج خارج نطاق القبيلة عبر علاقة توافقية بين طرفي مشروع الزواج. مما ساهم في إذكاء أسس فرجة أحيدوس وترسيخها. لقد “صممت الأسطورة إذا لمساعدتنا على التعامل مع المآزق البشرية المستعصية، وإعانة الناس على تحديد موقعهم في العالم وتحديد وجهتهم فيه”[11]. وهذه الأسطورة المعروفة بإسلي وتسليت، ساهمت في جعل أحيدوس احتفالا طقسيا، احتراما لتضحية إسلي وتسليت اللذين تحديا رغبة أعيان القبيلة بالدفاع عن حبهما بالموت والتضحية.
إن هذه الأسطورة تطلعنا على نوعية العلاقة السائدة في زمن ما قبل الأسطورة، أي القطيعة، وهذه الأسطورة حاضرة في أحيدوس بأشكال مختلفة “فالأسطورة لا تقدم معلومات بعنوان أنها حقائق، بل تقدمها بشكل رئيسي دليلا للسلوك. ولا تتجلى معانيها إلا حين نمارسها شعائريا أو أخلاقيا. وإذا قدمنا الأسطورة على أنها نظرية فكرية خالصة، نكون قد حولناها إلى شيء غريب ولا يصدق”[12] ولعل هذا أيضا دليل على ما جئنا به سلفا حول التنوع الثقافي الكبير في هذه المناطق، إضافة إلى أن أحيدوس طقس تعبدي له أصل ديني وهو الأمر الذي لم نتأكد منه بعد لغياب دليل يسند هذا القول، وإن كانت خصائص هذه الفرجة تؤشر على ذلك.
لقد أدى دخول الإسلام إلى شمال إفريقيا إلى تغيير مجموعة من العادات والتقاليد الأمازيغية، إذ نجد أنها “من المحذور إلى عهد قريب تخطيها؟ إذ كانت من المحظور آنذاك محادثة فتاة أو امرأة، من غير ذوات القرابة على انفراد وفي أماكن عامة، ومن الصعب رؤية وجه أحدهن عن كثب إلا إذا سهت”[13] وأمام هذا النظام كان لابد من وسيلة لاختراق هذه التقاليد لمعاينة زوجات المستقبل، فكانت احتفالات فرجة أحيدوس للجمع بين الجنسين في صورة “إسلي وتسليت”، مما جعل أحيدوس مجالا لحضور المقدس “الأسطورة، تعاليم الدين الإسلامي” والمدنس “الجنس الشبقي”.
5 المتلقي في أحيدوس
تنتمي فرجة أحيدوس، وإن كانت تتضمن جانبا مهما من الأدب الأمازيغي الشفوي، إلى فنون العرض التي لا تتحقق كينونتها إلا بحضور الجمهور، حيث يدخل في عملية الإنتاج الفني التفاعل المستمر بين المؤدي والمتلقي والمتلقي/ المؤدي. وتكمن أهمية فرجة أحيدوس في التفاعل بين طرفي العملية الفرجوية بشكل مباشر حيث لا تحكمها قوانين صارمة منظمة حين دخوله في علاقة جدلية إبداعية مستمرة. ويمتزج دور المؤدي والمتلقي إلى حد انتفاء الفرق بينهما، فهما معا يساهمان بنفس الحجم في الإنتاج الفني للفرجة، لكن تلقيها يقتضي الوقوف على مجموعة من مستويات التلقي.
أ) التلقي الأفقي: يتم الانتشاء بفك رموز إزلان، كما تنبثق المتعة من تكرار البيت الشعري وتلوين الصوت في التلفظ، حيث يختلف الإلقاء للبيت الأول والثاني بين نبرات مختلفة ومتعددة، فتجتمع جمالية اللحن بشعرية الخطاب الفرجوي في تأثيث فضاء أحيدوس. هذا بالإضافة إلى جماليات التعبير الجسدي التي تعكس الأعراف الأمازيغية.
ب)التلقي من الداخل: وينقسم إلى مستويين:
-
التلقي بالفعل: وفيه يكون المؤدي متلقيا في الآن نفسه، حيث تكون المجموعة المؤدية منقسمة بالضرورة إلى فئتين، الأولى تردد الشطر الأول من البيت، بينما الثانية تردد الشطر الثاني، فالأولى تتلقى عن الثانية وتتلقى الثانية عن الأولى مع تلقي “الرايس” عن كليهما، الأمر الذي يجعل تلقي الفرجة تختلف حسب وضع المتلقي فيها إذ يصبح محكوما بعلاقته بالمكان والزمان (تبادل أدوار الأداء).
-
التلقي بالحضور: وهو المتلقي الذي لا ينأى بنفسه عن حلقة الرقص وإنما يكون في وسطها أو خارجها، فتتحقق لديه المتعة من خلال تحققها عن طريق الكلمات واللحن والحركات وما تبعثه في نفسه من انشراح، وغالبا ما يكون هذا المتلقي من فئة الأطفال والعجزة الذين لا يستطيعون تأدية حركات أحيدوس.