غزلان احميمد
من رحم الأدب يولد النقد، ومن التشبع بروح الروايات تولد الفلسفة، فإن كانت الرواية شيئا فإنها ليست سوى فلسفة مصورة كما قال البير كامو، فلم أذكر أن العلوم بشتى ميادينها استطاعت يوما ما أن تهز العالم الروحي للأشخاص.. من البديهي أن أحدا لن ينكر أن العلوم بمعارفها ونظرياتها واختراعاتها التقنية هزت العالم كليا بشكل مادي، واتجهت به إلى معالم التقنية و لعولمة، إذ أصبح العالم كله عبارة عن لعبة تستطيع تحريكها بأصبع واحد و بزر واحد، لكننا بالمقابل لا يمكن أن ننكر أنها روحيا وإنسانيا اتجهت به إلى الهلاك، وقد شهد العصر موت الإنسان روحيا و انبعاثه ماديا، هذا الموت الروحي جاء كفكرة تضاد الانبعاث الروحي الذي حملته أوروبا في عصر النهضة عندما خرج الإنسان من الحديقة المسكونة بالأشباح، إذ أدخلته إلى حديقة مسكونة بروح الفن وتقديس جمالية الجسد، ولا شك أن حديثا كهذا لا يمكن ـن يتم بمعزل عن الأدب، فمن قلب الأدب أو عالم الإبداع يحدث التغيير والانبعاث الروحي .
يكمن الانبعاث الروحي في أن نلجأ إلى معرفة ذواتنا والعالم، وذلك عبر صور عديدة كالرواية التي تجسد عوالم ممكنة متعددة، و الفن التشكيلي الذي يصور لنا نمطا متعددا من الصور من داخل صورة واحدة فقط، وأيضا من المسرح الذي يجسد روح الحياة اللانهائية من مسار المعاناة و الألم، إلى لحظات محددة تخطفك من ذلك الألم لتجسد عالما من التناسق والتكامل، حتى وإن كان تجسيده هذا يتم من قلب المعاناة نفسها، لكن المؤسف أن يأخذ مجتمعنا من نور التقدم ما هو مادي متعلق بالتكنولوجيات الحديثة والتقدم على مستوى الحياة اليومية، وأن يترك ما هو روحي متعلق بسؤال الذات والعالم، ومن تم القدرة على الإبداع بمخاطبة الأدب والفكر اللذان أعتبرهما وجهان لعملة واحدة، وبمعنى آخر القدرة على التساؤل والتفكير أبعد مما هو موجود أمام الأرجل، فلم تولد فلسفة ابن طفيل إلا على شكل رواية فلسفية أخذت من قصة حي ابن يقضان المرمي في وجوده المتوحد بداية لتشكيل فلسفة ذات خاصة من نوعها سعى كل الأوروبيين إلى نسخها وترجمتها وتقديمها في صور عديدة وأفلام عدة نذكر من بين هذه الصور رواية روبنسون كروزو لدانييل ديفو، وقد كان سؤال لما اختار ابن طفيل السرد الروائي بالضبط ولم يتجه اتجاه معاصريه من الفلاسفة إلى الكتابة الفلسفية المتعارف عليها؟ كان الجواب بالنسبة للعديد من النقاد يرجع إلى المناخ الذي عاش فيه ابن طفيل من اضطهاد فكان أن اختار الرواية الفلسفية كوجه غير مكشوف لفلسفته التي ترسم معالم الأخلاق والتدين دون دين أو إله، إذ أن الحياة ليست إلا بحثا عن ذواتنا و تأملا في الكون، ولربما كان وقع اختياره للرواية هو عمق الكلمة المكتوبة روائيا أكثر من عمق الكتب الفلسفية الجافة، و لنتأمل من المعاصرين سارتر في تجربته الروائية الغثيان فنحن نجد فيها عمقا أكبر مما قد نجده في كتابه الوجود والعدم، و كذلك هو الأمر مع البير كامو و غوستان غاردر وغيرهم من الذين وصلوا إلى سمو الكلمة الفلسفية .
لكن مسار الفكر الإسلامي في الأدب الفلسفي انتهى حيث ظهر العلم و أطماعه و من تم ظهور المواضيع التي أصبحت بالنسبة للمثقفين طبقا من ذهب يركضون خلفه، متناسين أن الجلاء يكمن فيما هو روحي يحاول الوجود الإنساني عبره الوصول للانبعاث الروحي، فنحن أصبحنا نطرح أسئلة جافة من قبيل متى كانت نشأة الكون؟ كيف تكون الكون؟ هل هذا النوع من التواصل الذي خلفته التكنولوجيا يعد تواصلا؟ هل الإنسان روح ومادة؟ ما مصدر الحسابات الدماغية؟ ما شكل البشر الأكثر نضجا؟ من هو المسلم ومن هو الملحد؟ دون أن نكترث بأن هناك أسئلة أعمق، فالشبح المرعب الذي يحيط بنا يمنعنا من التخلي عن الحديقة المسكونة بالأشباح وهو أننا منذ خلقنا ونحن محملين بالأجوبة.. فنحن نحمل كل الأجوبة وبعدها نطرح الأسئلة التي تتعلق بها، وَلد هذا لدينا نوعا من الرعب من طرح الأسئلة أو التفلسف بمعنى آخر.. .فأن نخطو للأمام معناه بالدرجة الأولى أن نكون قادرين على مواجهة رعب الأسئلة الحقة التي ترتبط بعمق الوجود الإنساني و أن نتقبل كل أنواع الأجوبة حتى تلك التي تخرج عن منظومة القيم، فالفرد الذي يعجز عن استخدام عقله والتأمل بدون وساطة الغير، يصنع لنفسه حاجزا لاهوتيا تتكون بفعله شخصية لا تنفصل عن الأحكام المسبقة والتي يصعب فيها الحديث عن عالم كعالم صوفي لغوستان غاردر ، ولهذا فإن أسئلة الأدب تكون أعمق من الأسئلة الأخري، إذ تلعب قوة الإبداع والخيال دورا خلاقا في تكوين الفكرة ونقيضها في أن الوقت، وكذلك في وصف الأمكنة دون وجود حقيقي ووصف عالم مستحيل الوجود على أنه ممكن الوجود، إذ يخلق عالم الإبداع نصاً ينبني فيه العمق والأصالة الحقة بعيدا عن الأسئلة الجافة التي نرمز لها بأسئلة العصر ومواكبة التطور وتقديم ما هو واقعي حق، بينما في العمق نحن نبتعد كل البعد عن واقع الوجود الإنساني..