الرئيسية | فكر ونقد | في تجلّيات كسوف الفلسفة | يوسف عدنان

في تجلّيات كسوف الفلسفة | يوسف عدنان

يوسف عدنان

 

يوسف عدنانتواجه الفلسفة في كل حقبة زمنية تخلو، امتحانا عسيرا من طرف أحداث العصر الذي تعايشه، بغية إثبات أحقّيتها التاريخية في التّقول حول الإنسان، هذا الكائن المسكون باللغة، المطارد بالزمن، المنفرد بالعقل، والمدفوع بالرغبة. ومن الأكيد أن الفكر الفلسفي لم ينضج بين ليلة وضحاها، كما أن روما لم تبنى في يوم واحد، قائلا المثل. وإنما عرف تاريخ الفلسفة هو كذلك لحظات اتّسمت بالتّوهج و الانشراح الذهني ولهفة العقل للمعر وبلوغ الحقيقة، وأخرى لازمها الجمود وانشغال الفلاسفة بهموم سالفيهم، كالمرحلة القروسطية التي خيّم عليها مناخ مدرسي سكولائي، جعل منه ينعت »بعصر السبات الفلسفي « . ليعرف الفكر مجدّدا كل حديث مشرق، بداية مع عصر النهضة الذي استنهض معه بوادر سؤال الذات، مرورا  بالتّنوير الذي مّد جسوره الحديدية واصلا بشطر من التاريخ إلى حداثة، أقل ما يمكن القول حولها، أنها متاخمة عند الغرب ووافدة عند الشرق.

وما دامت الفلسفة ذات خصّيصة كونية، تخاطب المشترك الإنساني، فلا يجوز أن لا نستحضر ولو بالإشارة العابرة متون الفلاسفة المسلمين، انجلت في طيّاتها اشكالات حقبة برّمتها، لم يكتب لها هي كذلك أن تثمر وتطول، في بيئات يغمرها جنون السلاطين والحكام، وتهكّم لا مبرر من قبل العامة على الفلاسفة، بكلّ ما في ذلك من قذف وتسفيه وتكفير* . هذا بعد تفضيل النص الفقهي على النص القرآني على صعيد اجتماعيات التّدين، ليشهد العقل العربي سكونا وتعبدّا في محراب التراث، لا نحن متمسّكين به أو بتاركيه، مادام مفهوم القطيعة في مجتمعاتنا التراثية لم يثبت يوما أنه أنهى المعركة لصالحه. ليظل مجرد توصيف لحال عديم الشكل ليس إلا. مثيرا هذا الوضع من جهته، شكوكا وقلقا لدى مجموعة من المفكرين العرب، في مدى صلاحية ثنائية  »رسوخ/ قطيعة «  التي اعتمدوها منطلقا لتنظريهم حول المجتمعات العربية. ولهي خيبة أمل مريرة يكابدها العقل العربي في كل مرة يخوض فيها مسيرته المتدبدبة نحو الخروج من دوائر الارتهان اللاهوتي والانسداد التاريخي (1).

فالفلسفة في الواقع العربي الراهن لم تحرز تقدما قد ينبئ بالتفاؤل، حيث لا يجوز أن نقيس استتباب الفكر الفلسفي بعدد  الإصدارات والانشغالات الأكاديمية أو البحثية التي تجود بها الساحة العربية المفعمة في حاضرنا بمتون فلسفة التاريخ والفلسفة السياسية واللاهوت السياسي، مستجيبة لروح الحراك الذي عرفته الشعوب العربية المضطهدة، سياسيا واجتماعيا و دينيا على وجه الخصوص. وإنما الأمر يفهم ويبرّر من حيث منسوبية تجذّر الفلسفة في أنماط الوعي واقتناع المواطنين بجدوى الخطاب الفلسفي في تحصين المدينة من النّوازع التّدميرية، وتوافر قيم الحرية والمدنية والاختلاف* و التفكير النقدي. فالفلسفة تلتقي مع الدولة في مفهوم  »النظام « مهما قد يبدو من تنافر بين الطّرفان. هذا إلى جانب السّهر على اعتماد مناهج تلاءم تدريس »الفلسفة المدرسية«  كمادّة لها خصوصيتها ضمن البرامج التعليمية، دون امتصاص محتواها وفضّ بكارتها في كل موسم دراسي. لتبتعد الفلسفة عن أن تكون “فنا في العيش” يضفي معنى على الحياة، قبل أي شيء آخر *. وتتواتر القضايا الإشكالية التي لن يكفينا هنا عدّها، قد نجدها بالمناسبة تتوزع على مجموعة من الأنظمة التعليمية المدرسية، و لا تقتصر فقط على الأقطار العربية.  فالأزمة في كل الأحوال، هي أزمة عقل، متعقّل لحاله وأحواله، لقلقه وإحباطاته، لأزمنته وإمكاناته (…) الخ. ثم لا ننسى رهان إخراج الفلسفة من كهف التخصّص الأكاديمي، وتعشيقها من أفراد المجتمع. هذه الدعوة التي وحّدها شعار الحق في الفلسفة، مناديا به جيل مخضرم من الفلاسفة من طينة » جاك دريدا « . بل منذ أزمنة الفلسفة الحديثة، نجد فيلسوف النسق هيجل يقول « إن الدفاع عن الفلسفة هو دفاع عن الإنسان». ولا يزال هناك اقتناع لدى اللاحقين من المفكرين البارزين و »الأنتلجنسيا المثقفة* «  بجدوى الدّفاع عن هذا الحق، والحفاظ عليه كمكسب لم يجد به التاريخ صدفة. مع  تقليص الفجوات الموجودة بين الحياة الثقافية والبيئة الفلسفية التي من المفترض أن تكون حاضنة للأولى، لا مفصولة عنها كما بتنا نشهد *.

اليوم وأمام متاهات هذا العالم الذي أصبح مبنى وليس بمعطى، نجد الفلسفة قد انزاحت عن موقعها الإشعاعي لتلج منطقة ضبابية عتماء يمكن أن ندعوها مجازا “بالكسوف”. أي غربة العقل الفلسفي عن ذاته في عالم تقنوي تقدّم فيه الوسائل على الغايات، تلاشي المقولات الوجودية التي شكّلت منطلق لكل نزعة إنسانية، انمحاء الشخصية السقراطية ( نموذج الفيلسوف الحامل لرسالة) ، عدم تقديم ما بعد البنيوية حلولا لطبيعة الفعل الانساني،  تضخّم  قلق الحضارة و صدق هواجس فرويد حول تنامي مظاهر العدوان و الخراب والعنف الأعمى اللامتحكم فيه، عدم ثقة الأفراد مجددا في العلم وعودة النزعة الشكيّة في العقل، تهافت بعض الملقوبين بالفلاسفة على الكتابة الناقدة لتاريخ الفلسفة أو ما يعرف بتاريخ الفلسفة المضاد * (…) الخ. إذ من ضمن الأسئلة التي تطرح نفسها هنا بحدة:  من هو الفيلسوف حقا في أيامنا البئيسة هته؟ كيف يمكن تعريفه أو لنقل تميّيزه، بعدما أصبح المثقف يتحدّث في مكان الفيلسوف وباسمه؟ أين يتموقع ذلك الذي لا يزال بودّه أن يتفلسف حول صراع الحضارات؟ وأي موقف سيكون للفيلسوف أمام عودة الأنظمة الفاشية أو خلود الايديولوجيا بتعبير “ألتوسير”؟ ثم هل بمستطاعه التأثير كما في السابق على الرأي العام والمثقفين من عصره، ملهما الشباب المتحمّس من حوله؟ وما هي القيمة المضافة التي يمكن أن يقدّمها لعالم متهالك يقف على الحافة؟

لاشك أن الواقع الحالي يحبل بأكوام من الأحداث التي تساؤل الفيلسوف، بل و توقظه من نومه المتقطّع، لكن المفارقة التي تبدو هو أننا نشهد عصر يكاد يخلو من الفلاسفة اللذين يحدثون أثرا في زمانهم ويخترقون بفكرهم جغرافيات مختلفة من العالم، الذي أصبحت خرائطه تضيق أكثر من أي وقت مضى. إذ لم يأتي القرن الواحد العشرون بجديد للفلسفة، لا أتحدث هنا عن تلك الوصفات الفلسفية التي ترضي خواطر التيّار ما بعد الحداثي، فما يعرفه واقع الانسانية في السنوات الأخيرة ، بعيد عن أن يطوّقه نسق فلسفي معين، سواء ادعى الاطلاقية او النسبية،  الكلّية أو الخصوصية. وحيث لا يخفى عنا أنه حتى مسارات التفكير الغربي لم تستطع ان تجدّد جلدها خارج الأنساق الفلسفية الكبرى التي تبتلع تفكير الفيلسوف مها أحس أنه ابتعد كفاية عنها، ليجد نفسه سجين مذهب معين يقبع فيه ويحتمي به. نضف أنه حتى على المستوى الأكاديمي، تظلّ أعرق الجامعات الغربية مقتصرة على تدريس تاريخ الفلسفة القديمة والوسيطية والحديثة منها بصفة خاصة، بشكل قد لا يفيد في خلق وصال بالفلسفة في ثوبها المعاصر، والتي تعيد الاعتبار أكثر للهامش، للمبعد، للمختلف، للصامت، مكانته في نسيج التجربة الانسانية، كالفلسفة التفكيكية مثلا و فلسفة الاختلاف *.

كثيرة هي النعوت و التوصيفات التي رافقت شخص الفيلسوف، كأن يوصف بالحكيم إسوة بسقراط أو بالعقل (ارسطو) او بالساخر (فولتير) أو بالعبثي (كامو) أو بالأخلاقي (كانط) أو بالمناضل (ماركس) وقد تطول بنا اللائحة. لكن تبقى الجرأة هي تلك السمة البارزة التي من الممكن أن تكتنز جوانب من هذه التحديدات المشار إليها. ولنتوقّف هنا عند مفهوم الجرأة   » Parresia  «  وهو بالمناسبة آخر مفهوم ختم به الفيلسوف “ميشال فوكو” سلسلة دروسه في كوليج دي فرانس أو بالأحرى خطابه المتوهّج حول الذات كما أخرجها من لجة المطلق “الهيغلي”، ليعمل على ترويضها بحبال السلطة ومشتقّاتها *. فالفيلسوف غالبا ما يتمتع بالجرأة ، بل هي تكاد تكون خاصية محايثة لوجوده (2)، وهو ما ينبجس بجلاء تام في تأهّبه الدائم للجدل، للتّناظر، للخطابة، للنقد، للحوار و النقاش الهادف (…) الخ. فهو متموقع إذن في فوهة البندقية ولا يمكنه أن يكون غير ذلك، وإلاّ لن يعرف أبدا الطريق القاضي به الخروج من ظلمة الكهف. وأخصّ بالذكر هنا جرأة الموقف السقراطي، حيث لا يخفى علينا جمعيا البداية الحزينة للفلسفة اليونانية مع موت “سقراط”.

وتتلخّص المفارقة الصارخة التي ابتدأ بها تاريخ الفلسفة اليونانية -إذا ما استثنينا مرحلة ما قبل سقراط- في العبارة التالية:  »مات سقراط لتعيش الفلسفة « . ذلك أنه لو كان العكس، لماتت الفلسفة شرّ موتة. فسقراط اختار الموت (بتجرّع السم) بدل الحياة الرخيصة والخالية من فضيلة الفكر التي ساومه بها حكام أثينا وشيوخها، قناعة منه بأن بقاء الفلسفة رهين بالجرأة والقول الصريح للحقيقة. فالجرأة هي شجاعة قول الحقيقة شكل التّطابق المزدوج بين الحقيقة وقائلها لتصير ذاتا للحقيقة   « un sujet de véridiction « (3). فالفلسفة الحقة هي ابنة الجرأة السقراطية التي بادرت إلى مواجهة أوّل وأهول كابوس يهزّ الإنسان ويتلاعب بمشاعره ومصيره . فالموت “العدو المجهول”  كما سبق أن  نعثه “شوبنهاور” ذات مرة، لا نعلم حوله الكثير، سوى أنه يحّل علينا في زيارة بدون موعد *.

وفيما يهمّ الفلسفة في علاقتها بمجال العلوم، فيمكن القول أنها تشهد في عصرنا ما يمكن أن ندعوه “بالانحباس الفكري” المترتب عنه ضيق الأفق التّنظيري، مع تواتر حملات التضييق التي يشنّها العلم على الحقل المقارباتي للفلسفة، الأمر الذي يؤكده اشتعال نيران البوليميك الخامد بين الفلسفة والعلم، حيث لم يتوانى رموز هذا الأخير على إعادة احياء أطروحة موت الفلسفة بعد أن تصدّى لها سابقا مجموعة من فلاسفة المعنى على رأسهم   »جيل دولوز «   *. ومن بين هذه المواقف المناوئة نخص بالذكر ادعاء  » ستيفن هوكينغ «   في مستهل كتابه “التصميم العظيم” موت الفلسفة *، وذلك في معرض ردّه على أسئلة انطولوجية غائرة في الزمن تتعلق مجملها بحقيقة الكون، وكيف قذف بنا في هذا العالم، ولماذا وهل يحتاج الكون إلى خالق، معتبرا الفيزياء المعاصرة وليست الفلسفة، هي من أصبحت تحرض التفكير في الكثير من الأحيان على اقتحام متاهات الأسئلة الميتافيزيائية التي تتحول إلى إشكالات عقدية ووجودية. وبهذا فحتّى الميتافيزقيا لم تعد تدخل ضمن مدارات الانشغال الفلسفي الذي صار حقلا يعوم في الفراغ ويفتقر إلى مواضيعه.

لا يمكن أن نعامل الفلسفة معاملة العلم. حيث يتجه اهتمام الفلسفة صوب المسائل، أكثر مما يتجه صوب الحلول. ويقف دولوز مرة أخرى موقفا معارضا للتحليل المنطقي، الذي يحاول الحلول محل الفلسفة، ويعتبر دولوز أن فيتغنشتين كارثة فلسفية، ويصر على أصالة الفلسفة واستقلالها إزاء العلم. فما يذهب إليه الوضعيون المناطقة، هو إلغاء الفلسفة بمعنيينها القديم والمعاصر، وإحلال نشاط تحليلي منطقي، لغوي، مكانها، يقوم على تحليل صارم للغة العلمية والنظريات والفرضيات العلمية تحليلا منطقيا، من أجل تخليصها من كل الرواسب الميتافيزيقية (4).

إن تهاوي الفلسفة يدين بشدّة للإنسان ذاته، وليس إلى النتائج التي يتوصّل لها العلم عن حقيقة الكون، مثلما أن العلم في حد ذاته هو من صنيع الوعي البشري ولا يجوز أن يصير عبدا له. وهو الأمر الذي حرص على تأكيده الحس الباشلاري الرفيع في بلوغ المعرفة. صحيح أن مسائل من قبيل حدود المعرفة والموضوع والمنهج هي بمثابة إبر تعمل على وخز جسد الفلسفة لكي لا يستسلم للنوم في سرير الميتافيزيقيا الناعم. لكن لا ننسى أنه بدون ميتافيزيقيا لما استطاع الفكر الفلسفي أن يقوّض نفسه، كما توحي لنا بلا انقطاع دروس فيلسوف الغابة  »مارتن هايدغر «والتي لا تنكّف عن تأزيم سؤال الكينونة، بعد إبطال التقنية مسألة المعنى. من جانب آخر، هناك تخوف في أن تتحول الفلسفة إلى مادة أدبية يلجأ إليها الراوي لفلسفة روايته. وترميمها بأنساق فكرية فلسفية تضطلع بدورها داخل كيمياء السرد إلى كشف سياسات الحقيقة المعمول بها في حقبة تاريخية معينة . ويرى المفكر الفرنسي »لوك فيري « أن هناك في الراهن، طريقان ممكنان للفلسفة المعاصرة، إما أن تصير مادة تقنية في الجامعة، وإما ان تتعهد بالتفكير في الإنسية بعد التفكيك (5)، الأمر الذي يقودنا مساءلة موقع العقل في فلسفات ما بعد الحداثة. فالوضع ما بعد الحداثي، وهو العنوان الذي نزل به كتاب الفيلسوف جان »فرنسوا ليوتار « يفتقر إلى بوصلة تحدّد وجهة الطريق (6). و يعدّ ليوتار من الفلاسفة الأوائل – إلى جانب التحليلات السوسيولوجية لجان بودريار (7) وغيرهم- اللذين طرحوا الأفكار الأساسية لما بعد الحداثة، والإقرار بإخفاق مشروع الحداثة الغربية المساق بنزعة تقنية – علمية. والدليل على ذلك الحروب التي بصمت تاريخ البشرية في العصر الحديث، بحيث تركت الانسان يعيش بلا أوهام أو أساطير أو وفقا لتعبيره بدون نصوص سردية أو ميتا – سردية (8).

فسمة الانعتاق هته إذا ما لاحظنا، تميز الحداثة الغربية منذ القرن الثامن عشر، كما لو أن هناك قلق روحي يدفع بالذات المسيحية إلى إعادة التفكير في مسألة الخلاص بأن تصير أرضانية بالكامل، بلا معبودات. وفي سياق آخر متساوق يعود الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي » جيل لبوفتسكي « إلى تقليب أفكاره من منظور نقدي حول ما أسماه الحداثة المفرطة، ناظرا الى النرجسية الفردية الجديدة   » néo-naracisme «   الماثلة في حرية الاستهلاك كونها ساهمت في التخلي عن المرجعيات والانتماء والى المزيد من الاستقلال والتحرر من كل المسارات المألوفة والعمل على العيش الحرّ الخالي من كل إكراه (9)، لكن هذا لا يخفي انها بقدر ما جعلت الافراد والمجتمعات أكثر حرية وكفاءة بقدر ما ضاعفت لديهم أكثر القلق والخوف من المستقبل في مقابل الانغماس في الحاضر، كاشفا في تفاصيل مؤلفه (أزمة الحداثة المفرطة:2005) عن مجموعة من المفارقات التي تخترق المجتمع المعاصر.

إن طبيعة المهمّة الملقاة على عاتق الفلسفة باعتبارها أداة لنشر الفكر العقلاني والناقد، هي أن تقيم جسور التواصل مع البشر، و أن تعيد الإشعاع إلى الفضاء العمومي، وهو البؤرة المحورية في النظرية التواصلية في الفلسفة التي جاء بها سليل مدرسة فرانكفورت الفيلسوف  »يورغن هابرماس « والذي سعى إلى انشاء نظرية فلسفية جديدة للعلاقات الانسانية في المجتمعات المعاصرة تكون عقلانية نقدية تواصلية، محدّدا اشكالياتها الرئيسية في اخلاقيات الحوار والمناقشة المفضية إلى رسم مساحات الفضاء الفلسفي الجديد الذي يسوده العقل التواصلي (10).

لنعلم أنه إذا ما اهترأت الفلسفة يوما فلن تكون نهايتها من صنيع مؤامرات شبيهة بتلك التي كانت تحاك في البلاط اليوناني لاغتيال الملوك، وإنما قد تقوم هي من تلقاء نفسها باختيار منفى لها، يبتعد كفاية عن ضجيج العالم. إذ أن سؤال موت الفلسفة مرتبط أساسا باندثار المعنى وغياب قواعد الحكم، وصول بالعدمية إلى مداها الأقصى في زمن سديمي وفوضوي (11) يشبه الردّة  « reversion » كل شيء يعود إلى أعقابه من أجل محو آثاره، بحيث لن نكون بعيدين في هذه الصيرورة الارتكاسية عن مفهوم العود الأبدي لنتشه. فالفلسفة المعاصرة تقترن معالم تفكيرها أكثر بحديث النّهايات و موت الإنسان، التاريخ، المؤلف، المعنى، النص، الكتابة، إلى جانب استحالة اكتشاف قواعد عامة تقود حركة أو منطق التاريخ.

لذا ربما من الأجدى أن يطرح السؤال بالصيغة التالية: هل العقل البشري لم يعد بمقدوره إنتاج معنى للحياة مسبوك في فكر فلسفي يعبّر عن روح عصره، ما دامت الفلسفة في تعريفها الماهوي هي الخلاصة الروحية لعصرها * فكرا وفنا وإبداعا. كما ينبغي علينا عدم مطالبة الفلسفة بأن تكون مصدرا مطلقا للحقيقة. إن الفيلسوف ليزعم لنفسه أنه ينطق بلسان الإنسانية قاطبة، وهو لهذا كثيرا ما يعتقد ان استطاع أن يعبّر عن الحقيقة المطلقة. فالفيلسوف الحق هو ذلك الذي يعلم أنه في خدمة الحقيقة، فيقنع بأن يكون مجرد شاهد لها، بدلا من أن يحاول تملكها واغتصابها * . والفيلسوف حين يضع فكرة الشهادة » « témoignage محل فكرة الحقيقة vérité » « ، فإنه بذلك إنما يعلن أنه مجرد “وسيط” تنكشف عن طريقه واقعة تعلو عليه. ومعنى هذا ان الفيلسوف “شاهد” يجاهد في سبيل تحرير تلك الحقيقة التي يحملها في باطنه. وليست رسالة الفيلسوف سوى تلك المهمّة الروحية التي يضطلع بها المفكر بأداء هذه الشهادة على الوجه الأكمل (12).

 

*  أستاذ الفلسفة

باحث في التحليل النفسي والفلسفة

الهوامش:

* ليس من اليسير حصر لائحة الفلاسفة المتهمين في دينهم، ونحيط بذكر بعضا منهم: كابن المقفع، جابر ابن حيان، الخوارزمي، الجاحظ، الكندي، بن فرناس، الرازي، أبو نصر الفارابي ، ابن سينا ( الموصوف بإمام الملاحدة )، ابن الهيثم، أبو العلاء المعرّي، ابن عربي، ابن باجه و ابن رشد ، وآخرين من بقيت الشكوك تحوم حول صفاء سريرتهم. إن الظن بأن الفلسفة علم لا ينفع وجهل، لا يضّر وجودها مثل غيابها، وحضورها مشابه لعدمها، وإن وجدت لا تحقق الإضافة وإن انعدمت لا يؤثر ذلك في نظام الأشياء، لهو نزيف حاد في العقل الفقهي المغالي، لم يقف إلى حد أيامنا الراهنة.

  1. هشام صالح، الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ، دار الساقي، الطبعة الأولى،2013 ، ص 36 ص 70.

* راجع: عبد السلام بنعبد العالي، الفلسفة فناّ للعيش، دار توبقال للنشر، ط 1، 2012.

* يجاور ممصطلح “الانتلجنسيا” مفهوم المثقف فيغدو أحياناً مرادفاً له. فمصطلح الانتلجنسيا “intellingansia” قد استعمل  من قبل الأوربيين الشرقيين، وهو اصطلاح يعني المفكر. أما مصطلح المثقف فقد تخلق من خلال أدباء فرنسا Drefuse دريفوس عام (1894) . وعادة ما يترادف هذان المصطلحان باعتبارهما يعنيان الفئة من المفكرين ذوي النزعة النقدية التقدمية. وتتشكل الانتلجنسيا من “الاذكياء” الذين يعرفون مشاكل الشعب ويحسنون عرضها، والذين يعتبرون أنفسهم ممثلي الشعب وناطقين بأسمه، أو الذين يمثلون أنفسهم بوصفهم ضمير للامة. المصدر: جيرار ليكلرك، سوسيولوجيا المثقفين، ترجمة: د. جورج كتوره، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2008، ص 52 الى ص 58.

*لقد كان التغيير الذي شهده العصر الحديث راديكاليا بالفعل، فالفلسفة التي كانت تنعم بنوع من النبل الجامعي صارت محط تشويه وانتقاد، بعنف غير مسبوق. وأصبحت الفلسفة تدعى إلى التلفزيون، الذي بات هو مَن يمنح شهادات الذكاء. في حين أن “الميديا”، وبمساعدة من هؤلاء “الفلاسفة الجدد”، استولت، بصفة عمومية، على حق تحديد من هو المثقف الحقيقي ومَن ليس كذلك.             راجع: مقال تحت عنوان: فرنسا .. الفلسفة في زمن “الميديا”.

https://www.alaraby.co.uk/culture/2014/2/12

En savoir plus : Fabiani Jean-Louis. Enjeux et usages de la « crise » dans la philosophie universitaire en France au tournant du siècle. In: Annales. Économies, Sociétés, Civilisations. 40ᵉ année, N. 2, 1985. pp. 377-409.

* راجع في هذا الصدد: مشروع تاريخ مضاد للفلسفة لميشال اونفري ، نشر في عدّة أجزاء.

* عارض دولوز بشدة “الطريقة المدرسية” في تناول تاريخ الفلسفة. وحاول أن يبتدع طريقة خاصة في تناول الفلاسفة السابقين والمعاصرين من أجل إمكان الإفادة منهم في المسائل الراهنة للقول الفلسفي

* بدأت محاولات الإفلات من هيغل مع فيورباخ وكيركيغارد ونيتشه وغيرهم، إلا ان فلاسفة الفرق، من أمثال دولوز ودريدا وفوكو وليوتار، ينطلقون في محاولاتهم للإفلات من السستام الهيغلي ورفض للوغوس الهيغلي تماما، حيث يحاولون الانطلاق من نقط تقع خارجه ، من عكس الفلاسفة السابقين، اللذين ينطلقون في نقدهم لهيغل من هيغل نفسه.  فمنذ ولادة فلسفات الفرق (1960)، يزعم التموضع خارج الفلسفة الهيغلية والاضطلاع بموت معين للفلسفة يتطابق مع موت طريقة معينة في صنع الفلسفة. راجع:

Ruby Christian : les archipels de la différence, éd ; Félin, paris, 1990, p17.p18.

  1. ميشال فوكو، الانهمام بالذات، جمالية الوجود وجرأة قول الحقيقة، تقديم وترجمة محمد ازويتة، افريقيا الشرق،2015، ص 93 – 101.

3 . نفس المرجع.

* لا شك ان الفيلسوف لا يهاب الموت، كما أن التفلسف تدرّب دؤوب على الموت واستعداد له وتجربة قاسية ليس في استطاعة البشر العاديين ممارسته خصوصا وأن التفكير يشقي البشر أكثر مما يشقيهم أي شيء آخر.

* يختلف هنا الأمر مع دولوز، لأن الفلسفة في نظره تبقى راهنة وثورية ومستقلة. فالفيلسوف لا يشتغل على مسائل علمية وفنية قائمة، بل يبتدع مسائله الخاصة . فمهمة الفيلسوف حسب دولوز هي انتاج المفاهيم وهي حقيقة مصاحبة لحياة الناس الواقعية نابعة كما رآها من أحداث فكرية بحثة تحيل على مشكلات الإنسان الحقيقية. والجدير بالملاحظة في أعمال  دولوز مدى اهتمامه البالغ بميتافيزيقيا الفعل  «  métaphysique de l’acte »  في مقابل ميتافيزيقيا الوجود  «  métaphysique de l’être ».

* يمكنك ان تعود الى مراجعة و ترجمة مختصرة لكتاب التصميم العظيم على موقع الحوار المتمدن: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=248288

  1. د. جمال نعيم، جيل دولوز وتجديد الفلسفة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الاولى، 2010، ص 72.
  2. لوك فيري، تعلّم الحياة “سأروي لك تاريخ الفلسفة”، ترجمة: د. سعيد الولي، مراجعة: د.زهيدة درويش، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، كلمة – الإمارات، 2011، ص 330.
  3. جان فرانسوا ليوتار، الوضع ما بعد الحداثي، ترجمة: أحمد حسان، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، 1994، ص 25.
  4. جان بودريار، المصطنع والاصطناع، ترجمة: جوزيف عبد الله، المنظمة العربية للترجمة، 2008.
  5. 8. Jean – François lyotard ; le postmoderne expliqué aux enfant, paris, Galilée, 1988, p.34.

9 .Lipovetsky, l’ère du vide, paris, Gallimard, 1983, p. 163.

10 .Jürgen Habermas, morale et communication, théorie de l’agir communicationel(t.2,paris, fayard, 1987.

  1. jean Baudrillard au – delà de la fin , in , les humains associes, N6 .1994. p11.

* وردت العبارة على لسان ماركس (1818-1883) كالتالي: « إن كل فلسفة هي الخلاصة الروحية لعصرها».

* ويحكى في هذا الصدد أن حريقا شبّ في منزل الفيلسوف الألماني المعاصر هوسرل (1859-1938) فالتهمت النيران عددا غير قليل من مخطوطات الفيلسوف. وجاء بعض أصدقائه المقربين إليه يعزونه عن هذه الخسارة الفادحة، فما كان منه سوى أن أجابهم بقوله: »ان شيئا لم يضع ! إنها الحقيقة، والحقيقة لا بدّ دائما من تنكشف في خاتمة المطاف « . وهذه العبارات إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن الفيلسوف يميل بطبعه الى إغفال الجانب الفردي التاريخي من تفكيره، لكي يخلع على آرائه قيمة نهائية مطلقة. مقتطف من كتاب : د. زكرياء ابراهيم، مشكلة الفلسفة ، لجزء الثالث ،مكتبة مصير، 1971 ، ص 10.

  1. 12. زكرياء ابراهيم، مشكلة الفلسفة،الجزء الثالث، مكتبة مصير، 1971 ، ص 12.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.