في الحاجة إلى الجابري | قسطاني بن محمد
قسطاني بن محمد
ما يهمني في هذا المقال ليس مضمون فكر الجابري الذي لا أدعي الإلمام المحيط به، والذي أعرف جيدا أن له جياده الأصيلة والمدققون في تفاصيل معانيه، إنما الذي يهمني هو المنهجية الجابرية بشكل عام، المنهجية التي جمعت بين خصلتين جعلت منه المفكر الذي يحتاجه المجتمع، والخصلتان هما، البحث المتبحر والدقيق من جهة والدعوة إلى العقل والحداثة والديمقراطية من جهة ثانية. وبلغة المنطق الجمع بين القياس والاستقراء، وتلك لعمري قلما اجتمعت إلا في الأفذاذ.
في قسم البكالوريا أسعفني الحظ في أن أحضر دروس الفلسفة في الكتاب المدرسي الذي أعده الأستاذ محمد عابد الجابري مع أحمد السطاتي ومصطفى العمري تحديا لتعجيز الإدارة للأساتذة، تحت ذريعة الفقر في الأطر، لما طلبوا تعريب مادة الفلسفة. وهي لحظة تأسيسية للنضال المعرفي المدرسي الموازي، إن لم نقل المندمج مع النضال السياسي، كلحظات تنويرية مغربية مجيدة… وكان التحضير يتم بعشق كبير وبطقس مزدوج، إما منفردا تحت نخلة أو زيتونة أو مع أحد الزملاء حوارا وتوليدا… كنت أقرأ النص وأعيد قراءته حتى حدود الاستظهار رغم ضعف ذاكرتي، وكنت أسطر على الكتاب بقلم الرصاص، وأعيد أو أسجل في الدفتر الصغير الذي لا يفارقني ما خفت منه الضياع. تلك كانت اللحظة الأولى التي جمعتني بالرجل، وستجمعني به بعد ذلك لحظات في التأليف الجامعي لما ألف كتابيه الإبستيمولوجيين حول الرياضيات والفيزياء، كطالب أدبي يتلمس معلومات دقيقة في العلوم، وبعد ذلك كأستاذ في الثانوي مضطر لتدريس مناهج العلوم… وهي لحظة تخللتها لحظات كان يطل فيها علينا الأستاذ الكبير، تارة من الملحق الثقافي لجريدة المحرر وتارة أخرى من مجلة أقلام التي كان يديرها مع الأستاذ المبدع ابراهيم بوعلو… ومازلت أذكر مقالا حول أغوست كونط والوضعية كان له وقع كبير في تغيير مسار توجهي الفكري والأدبي من سيد قطب نحو الفلسفة، يا لأثر نصوص فذة في الحيوات الذهنية…
بعد ذلك جاءت انتخابات 1976. بعد المسيرة الخضراء والمصالحة بين المخزن والمعارضة، انتقل حزب الإتحاد الاشتراكي من الثورة إلى الإصلاح، ليساهم في ما سمي آنذاك بالمسلسل الديمقراطي… وانخرط الحزب قاعدة وقيادة في حملة قوية تتبعناها بشغف على صفحات جريدة التحرير. وكان أن كتب الجابري مقالا سجاليا قويا يفند فيه المنهجية الأرثودوكسيىة وغير المبالية للواقع السوسيولوجي المغربي للرفاق في حزب التقدم والاشتراكية. ومازلت أذكر وقع المقال على طالب شاب يبحث عن طريق في الزحام الإيديولوجي، وأن أنتبه ودون رجعة إلى محاولة فهم ما هو المغرب، وما هو المجتمع المغربي لتسعفني في ذلك وبقوة أبحاث ومنهجية بول باسكون بعد ذلك، وتلك قصة أخرى.
بعد ذلك وبتصاعد الوتيرة اطلعت على التقرير الإيديولوجي لحزب الإتحاد الاشتراكي والذي ساهم فيه الأستاذ إلى جانب المرحوم عمر بن جلون في التنظير للنهج السياسي تنظيما وفكريا، والذي سطر فيه وبعمق لنهج الحزب الذي يبتعد عن النماذج المجردة ويقترب أكثر من الواقع الاجتماعي والسياسي المغربي… وكان لحظة قوية تضاف إلى موقف الحزب من الوحدة الترابية والتمهيد للكتلة الديمقراطية… وهي كلها لحظات مجيدة ساهم فيها الأستاذ وبعمق فكري وحس سوسيولوجي قل نظيره… وكانت مرجعيته الكبرى في كل ذلك مفهوم الكتلة التاريخية ودور المثقف كما اقتبسه من المفكر المناضل الإيطالي غرامشي الذي كان ينظر ليس فقط للشمال الإيطالي المصنع بل وحتى للجنوب الفلاحي والمتخلف كما وضح ذلك الجابري في كتابه مواقف، مع تكييف وتبيئة أفكار غرامشي مع الوضع العربي …وقد كان رؤيويا في ذلك حتى عندما نبه إلى عدم إغفال المكونات التقليدية في المجتمعات العربية، في لحظة كنا نظن فيها الإيديواوجيا التقليدية ليست سوى زبدا سيذهب جفاء، كما كان رؤيويا عندما نبه إلى إمكانية ظهور أشكال من التعصب دينية وقبلية وغيرها …كما لم يستثن من الكتلة حتى عناصر من الحكم نفسه …وربما لو أنصت إلى مثل تلك الأفكار ما حصل الإحباط المنتج لما نحن عليه الآن من تقاطب يبدو حادا ومزيفا وأليما …
ولم يكتف الأستاذ بحصر همومه بالوطن بل تعداه إلى مجمل العالم العربي وهمومه الفكرية والسياسية والإيديولوجية في كتاب الخطاب العربي المعاصر خاصة، وذلك كله بحثا عن الاستقلال التاريخي للذات العربية.
بعدها جاء الكتاب الفاصل، نحن والتراث، جاء ليعيد لأذهاننا أن هناك في الغرب الإسلامي ما يستحق الانتباه، وأن العقول الفذة لا جغرافية لها، وأنه على المشرق أن لا يردد دوما لازمته المفضلة بضاعتنا ردت إلينا. كما أن هناك فرق بين تاريخ الفلسفة اليونانية والغربية من جهة والفلسفة الإسلامية من جهة أخرى، حيث الأولى كانت تشتغل على نفسها والثانية كانت تشتغل على وبالأولى. وكل ذلك بمنهجية جديدة تمتح من الإبستومولوجيا والقراءة الداخلية للنصوص من جهة والتفسير التاريخي والإيديولوجي من جهة ثانية…وكل ذلك بنظارات الهموم الحاضرة للنهضة. دون نسيان قدرته الكبيرة في قراءة مجلدات التراث وتمحيصه … ودوما بحضور الحس الميداني بالتنويه بأهمية الحوار والنقاش…
تلك كانت بعض المحددات المنهجية التي أطرت ظهور الكتاب، والتي نعتبرها ذات أهمية قصوى في فهم مشروع الجابري برمته، محددات منعته من الصورية والدعوية الفجة من جهة، والتكوثر النصي من جهة ثانية، وما كان ليتأتى له ذلك لولا حسه السياسي الفذ الذي غذته الممارسة وحتى المحاولة والخطأ … ليخلص إلى مفهوم القطيعة بين ابن رشد وابن سينا في وحدة فكرية من قرطبة حتى بغداد. المفهوم المفارق، والذي ربما وهب الجابري مجده كله.
إلى جانب المجد المعرفي عرف الجابري مجدا نضاليا تجلى في تأليفه لكتب هي تجميعات لمقالات حول هموم سياسية وتنموية، وألف بذلك مؤلفات مرجعية حول التعليم والمناهج خاصة، شكلت سندا قويا للسجالات السياسية والنقابية لزمن غير يسير. ولعل أهمها مؤلف رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية، حيث الإمداد بثقافة بيداغوجية حول المدرسة خاصة. و كذلك مؤلفه أَضواء على مشكل التعليم بالمغرب، الكتاب المؤسس للبحث حول القضايا المحورية للتعليم في المغرب.
وكنت أتساءل دوما من أين استمد الجابري هذه القدرة في الاقتناع بالمقاربة المزدوجة والاستمرار في نهجها حتى النهاية، في حين سقط رفاق في الطريق إما في العمل الكتبي البحت أو في الممارسة السياسية العملية؟
ليس هذا مقام البحث في السمات الشخصية والسلوكية للرجل، إنما توجهه نحو أعمال بعينها من أجل بناء مشروع متكامل يمكن أن يساعدنا في فهم مسلكيته الفريدة. وكان لابد من العودة إلى أطروحته حول ابن خلدون والعصبية والدولة، حيث غاص وبوعي في فكر ومسار رجل لم يكن يبني أفكاره من القياس بقدر ما كان يصف حالات بعينها ليأخذ منها العبرة ويبني المثال. وهو مسار شبيه لمسار الجابري مع فرق اقتراب ابن خلدون من الجاه والسلطان واقتراب الجابري من رجال أفذاذ صنعوا المعارضة وبناء بلد.
ورغم كون هم الجابري في الأطروحة كان معرفيا، ورغم تصريحه بهمه في تصحيح المغالطات التي بنيت حول ابن خلدون، فقد نجد بعض الـتأثر الطبيعي الذي يقع دوما بين الطالب وأطروحته.
بعده، وأنا أستاذ في الثانوي بدأ المشروع الجابري الضخم يتضح في سلسلته الفذة نقد العقل العربي، والتي أتذكر أني كنت أملي منها رأسا للتلاميذ نصوصا يتعذر وجودها في مكتبات الثانوية مثل مقالات الإسلاميين والفهرست وغيرها من الأمهات التي قربها الأستاذ بشكل سلس.
يتكون مشروع الجابري من أربعة كتب أساسية هي تكوين العقل العربي وبينة العقل العربي والعقل الأخلاقي العربي والعقل السياسي العربي. وإذا كان كل واحد من الأسفار يمثل بمفرده نزهة حقيقية في التاريخ الذهني العربي، فإن بسط الأفعال الرئيسية لهذا العقل من البيان إلى البرهان إلى العرفان يبقى النواة الصلبة لمحاولة فهم كيفية اشتغال العقل العربي سواء في علومه الأصيلة أم في اقتباساته وحواراته مع القافات المتاخمة …ورغم ذلك يبقى تكوين العقل لحظة مؤسسة يمكن اعتبارها مقدمة لفهم العقلية العربية المبنية أساسا على اللغة العربية والفصاحة والبداهة والفقه المستمد من كتاب سماوي لا يمكن السؤال حوله بكيف ولماذا ومتى… على عكس فكر الروية والتراكم الفارسي واليوناني بتعبير الجاحظ. ويعتبر كتاب التكوين في رأيي مدخلا أنثربولوجيا عميقا لم يلق من النقاش عند علماء الإنسان وعموم المثقفين ما يستحقه من اهتمام…
إلا أنه وكما أسلفت الذكر ليس غرضنا في هذه العجالة فحص مضامين المشروع الضخم للأستاذ بقدر استلهام روحه التي تمنت طي الصفحة لكن بقراءتها ونقدها، القراءة والنقد اللذان قد يستغرقان مائة سنة بتعبيره. وهو نقد قد يساهم في التحرر من السلط المهيمنة على الذهنية العربية: اللفظ والأصل والتجويز …” إن العقل العربي عقل يتعامل مع الألفاظ أكثر مما يتعامل مع المفاهيم، ولا يفكر إلا انطلاقا من أصل أو انتهاء إليه أو بتوجيه منه …”
ذلك هو التوصيف وتلك هي المحصلة. والحل عنده أن ” التجديد والتحديث هما ممارسة، هما عملية تاريخية، والسؤال المطروح ليس معرفيا…إنه سؤال عملي، سؤال يجد جوابه التدريجي المتنامي المتجدد داخل الممارسة وليس قبلها ولا فوقها ولا خارجها.”
أما الممارسة فقد خبرها وخبرته بآمالها وآلامها، بخيباتها وكبواتها أكثر من فتوحاتها.
صحيح أن للجابري بعض الهنات من مثل عدم الالتفات للثقافة الشعبية مثلا، أو انتقائيته المتجهة نحو زوايا معينة دون أخرى، أو حتى بعض النقص في التجريد … إلا أن طموحه الكبير وأهدافه الواضحة، ولغته التي لا تحتمل التأويل، ثم اصطفافه إلى جانب العدالة والعقل والحرية، كل ذلك وغيره جعل منه مثقفا عضويا قويا بالمعنى الغرامشي، وهذا ما يجعل الحاجة إليه الآن ملحة.
كلمة آخرة
لم أتطرق في هذه العجالة لأعمال كثيرة للأستاذ، خاصة المواقف والحفريات والقرآن الحكيم، لأنها تستحق عودة خاصة. وما قد يتبدى هامشا قد يكون هو المركز.
في الحاجة إلى الجابري في الحاجة إلى الجابري K قسطاني بن محمد قسطاني بن محمد 2016-10-02