احمد الشيخاوي
إليها نصوص العمق الواشية بجملة أسراره والتباساته جوانب معينة للصمت.
بالتالي فنحن إزاء صوت هامس وغامر بكمّ الوجدانيات التي تسرف برشمها انطباعات اليومي وبعض الإلتقاطات المشهدية الباهتة والآيلة للأفول، وكنافلة لذلك،استغراق أسلوبية مغايرة راقصة على إيقاعات تراجيدية عابرة لتفاصيل حياتية و عقد ونقاط إشكالية جوهرية شبه مهجورة.
وهكذا افتعال الطقس الروحي المتناغم ولحظة الولادة المشرقة لأحرف تناطح شموخ الرؤى وتكسبها بعدها الوجودي على نحو مخوّل لسلاسة تمرير مواقف ضبابية تتبوأ منطقة المابين.
كضرب من التّرويح على الأنوية الهائمة في متاهات الزمان والمكان، تشحذ الرمزية والإيحائية من صور الجمال المتناثرة قدر جود المخيال في تماسه وتفاعلاته مع الغيرية من منطلق طوعيّ محض تزركشه بضع محطات النرجسية في رسم لوحة كلامية رخوة ونوعية الخطاب ومخملية ما في مقدوره توليد الرعشة وقشعريرة الصعق،في حواس التّلقّي التزاما بتخوم بلاغية محددة ومنتصفة انتهاء للقضية العاطفية الجامحة والجامعة.
تلكم شعرية تتنفّس المعنى الزئبقي والمراوغ ،برئة الجنسانية ،وتلاحق الدلالة بعدّها انعكاسا مباشرا لاصطدام أوّلي معرّ وفاضح للظرفية باعتماد مفردات وجودية تتحاشى الصياغة المكرورة للحالة والمبدأ والذات.
ذلك حين يطرّز الحرف ويُخطّ بدم القلب والإخلاص للفعل الإبداعي ،يروم استنفار المغيب فينا واستفزاز المعطّل نكاية في تعفّن الجرح واختمار الخيبات، ويقيم في وعينا المشوش طاعنا بنكهة تمرد روح مهتزة ديدنها الاستكشاف.
كذلك هي الشاعرة اللبنانية المتوهجة فلورا قازان في نظرتها الاستثنائية إلى الذات والآخر والعالم ،تمحورا على تشابكات وتداخلات وتناقضات إستراتيجية مجهدة حدّ التيئيس و الإغواء برفع الراية البيضاء والاقتناع بخيار الاستسلام.
إنها قامة مهووسة باختراق المستحيل لدرجة حملنا على مباهج تأول قضيتها المركّبة وسبر عوالمها المفخخة بمعسول بوح يُلبس الذائقة فرو الفضول المزدان بجنون مغامرة رشق زاوية الأنوثة الماكرة في الطاقة الصوتية النسوية الهائلة والمتدلية مثل شامة آسرة بألغازها تيمّنا بسلطة وسطوة الجمال ، ومطلة من على شرفات وجع كوني لا يُقهر.
فلنتملىّ هذه الإلتماعات ولننصت إلى نبض كنوز ما تصمت عليه ألوانها :
“يا سيدي
أنا امرأة
من لون الشمس جدائلي
أحمل بيميني عنواني .
وبعيني لهفة بركاني
وفي محراب كفيك
قصيدة عشق تحييني”
…………….
” يتربع الندى على مقعد وثير
والزنبق يوْلم حقول السمـــاء حين
يمنحنى حبك الغيم شهوة المرور
لمرافىء المطر ..”
…………….
“رَشَقَ نافِذَتي بعدَ مُنْتَصَفِ الخيبةِ
وسأَلَني مَنْ أنتِ ؟
أنا الموجوعُ المَنفيُّ
أُريدُ أنْ أتَفَقَدَ دَهْشَتي
قبلَ أنْ تُزهرَ مأساتي
وتموتَ دونَ شهاداتٍ قصائديْ
نَزَفَتْ الدَّمعةُ على خدِّ الوَرَق،
وَرَسَمَتْ لَهُ الجوابَ
لسانيْ كوكبٌ يُضِيءُ
يَحرِقُ ولا يرمَد ،
يُطْعِمُ ولا يُسَمِّم
لستُ بشاعرةٍ
ولا بأديبةٍ ولا بِكاتبةٍ
إنسانةٌ ظلُّها صامتٌ خَجولٌ
مرآتُها مكسورةٌ
وشظاياها تعبَثُ بالرّوحِ
طفلةٌ تَتَنَفَسُ الشعورَ
وتُمْطِرُ الحروفَ
تُشاغِبُ الغيمَ
ولا تُرافِقُ الضيْمَ
تائهةٌ عن وزنِ الشعراءِ
شاردةٌ عن متاهاتِ الألقابِ
السماءُ ورقتي البيضاءُ
ودموعيْ تروي أقلامَ الوفاءِ
لا لستُ كما ينعتوني
بملكةِ الورودِ
والعطورِ .. والحروفْ
بل ناسِكة
تعشَقُ عينَ النورِ
وتستنيرُ من عطشِ الروحِ
لستُ أميرةَ السماءِ
ولا غانيةَ المساءِ
لستُ سليلةَ العظماءِ
ولا غَريبةً عن الأنبياءِ
ولستُ أبداً أبدا
حوريةَ البحرِ
لكنْ من كفِّ الشعر
أُهدِيِهِ الإعصارْ…”
………………
“أوَلَّ مَنْ صَنْعَ من أحْلاَمِي
عَقْدًا لِنَوْرَسِ الْحُبِّ، أَنْتَ
أَوَّلَ مَنْ نَقْشَ عَلَى كَفِي
نُبُوءَاتِ الْحَرْفِ، أَنْتَ
أَوَّلَ مَنْ جَعَلَ مِنْ قَصِيدِتي
زغرودةَ نَبِيذٍ، أَنْتَ
النُّبُوءةُ، أَنْتَ
الْمَطَرُ، أَنْتَ
الْغِوايَةُ، أَنْتَ
النَّبِيذُ، أَنْتَ”
……………..
“كانَتْ العَصافيرُ تُرَنِمُ بَسَماتِنا
على أغْصانِ الفِتْنَةِ ألْحانا
كانَ البَحْرُ وليفاً
يَهْدُرُ على شَهْدِ حُبِنا زَبَرْجَدا
والمُوجُ يَتَخَبَّطُ وَلَهاً
على وَقْعِ هّمْسِنا مَسْحورا
والحَواري هائِمَةٌ يَسيلُ لُعابُها زبدا
في ذلكَ الزَّمِنِ الجَّميلِ
حينما أحْبَبْتُكَ
كانتْ السَّماءُ رَبيعاً
تُمْطِرُ كونَنا بَنَفْسَجا
والرّيحُ عواصفاً
(مايسترو) ماهراً
يُهْدي عيدَ النّسيمِ كَرْنَفالا
يُغْرِقُ الجَّداولَ فصولا
والجِّبالَ والوِدْيانَ
مِنَ الهَوى أشْكالاً وألْوانا
في ذلكَ الزَّمِنِ الجَّميلِ
حينما أحْبَبْتُكَ
تَعَرَّتْ طُقوسُ الخَجَلِ
مِنْ ضَجيجِ مَواسِمِنا
وتَحَرَّرَتْ تاءُ الأنوثَةِ
مِنْ سِجْنِها تُطارِدُ استِهْجانا
وأسْقَطَتْ جُرأةُ النونِ
تَقاليدَ نقابٍ عَنْ أعْيُنِنا
فَقَطْ في ذلكَ الزَّمَنِ الجَّميلِ
حينما أحْبَبْتُكَ
كانتْ الزَّنابِقُ
تَرْتدي خِلْخالاً غَجَرياً
يُشْعِلُ أوتارَ الكَمانِ والنَّايا
يُقافِزُ سيقانَ النَّرْجِسَ والنَّهْدَ
على ضِفافِ الأنْهُرِ هَوْسا
في ذلكَ الزَّمِنِ الجَّميلِ”
بعين ثالثة فقط ،نستطيع مواكبة مدّ الانفلات ذاك،ونرشف عصارة لقطات العري الروحي ودفق الشظايا الذاتية الغائرة في مسح شامل،يباشر قلقلة الذاكرة ليعفيها من ركودها غير المبرّر و يعتقها من رواسب التيبّس والنشوز والزّيف وجحيم النفي.
بلغة برزخية مدغدغة ومغازلة بثرثرة المتون، تهدم كي تبني، عبر معالجات ضمنية تتخذ من المستقبل البشري وإرهاصاته،بؤرة ماسّة ووضعية إكلينيكية أحقّ بمشرط التشريح.
خلاصة القول أن شاعرتنا تلوذ بمعطيات التجاوز بغية تحقيق الغرض العام و التّكريس لخطّ تعبيري يرقي وينشد تطوير صنعة الشعر، اعتقادا بنظرية التحول وتفجير الكامن في الذات ـــ فنيا ـــ واطّرادا مع السيولة الوجدانية ملء صاع الاغتراف من عناصر الطبيعة وعلى وجه الاقتراض لا أكثر.
ومن ثمّ حصاد الميزة المشرّفة واللائقة خارج السرب المبتلى بفوضوية النص.
احمد الشيخاوي/شاعر وناقد مغربي