في حين يختارُ بعضُ الكُتّابِ رسْمَ سيرتِهم الذاتيّة بالحروفِ والكلماتِ، اختارت فريدا كاهلو كتابةَ سيرتِها بالألوان. من هنا جاءَ عدمُ استيعابِ البعضِ للوحاتِها، فكلُّ لوحةٍ تحكي قصةً، وكلُّ قصةٍ تعكسُ الكثيرَ من معاناةِ كاهلو. استعدّوا جيداً لهذه الرحلةِ عبرَ الزمنِ نسترجعُ فيها حياةَ كاهلو مع أهمِّ لوحاتِها:
كما تبدأُ روايةٌ منمّقةٌ أحداثَها من منتصفِ الحكايةِ ثم تتأرجَحُ بين الماضي والمستقبل، تبدأُ رسامَتُنا حكايتَها مع أوّلِ لوحاتِها بعمرِ السابعةِ عشر. “صورةٌ شخصيةٌ بفستانٍ مخمليٍّ” كانت موجهةً لحبيبِها السابق أليخاندرو أريَس الذي تركَها لاعتقادِه أنَّها لم تكنْ مخلصةً له. إذ نرى أنّ الفستانَ المخمليَّ مع وضعيةِ الوقوفِ يعكسانِ اهتمامَ فريدا بفنِّ عصرِ النهضةِ الايطاليّة. كما أنّ اللوحةَ رُسِمت تيمّناً بلوحةِ الفنانِ المعروفِ بوتشيللي ” فينوس” التي كانت محطَّ إعجابِ أليخاندرو. والجديرُ بالذِّكر أنّ هذه اللوحةَ كانت سبباً بإعادةِ أليخاندرو إليها. إلا أنّ عائلةَ أليخاندرو لم تكن راضيةً عن علاقتِهما فأجبروه على السّفرِ في رحلةٍ إلى أوروبا، لذا اختارَ إعادةَ اللوحةِ إلى فريدا حفاظاً عليها.
برغمِ كونِها لوحتَها الأولى، إلا أنّها في غايةِ الأهميّةِ في حياةِ فريدا، حيثُ أنّها كانت واحدةً من أربعِ لوحاتٍ من اللاتي حملَتهُنّ إلى دييغو ريفيرا، رسّامُ اللوحاتِ الجداريةِ -وزوجُها فيما بعد- لتأخذَ رأيَه. بعد رؤيتِه لجميعِ اللوحات أشادَ كثيراً بهذه اللوحة معلقاً ” ربّما لأنّها الأصل”.
Time Flies
تُعتبرُ لوحتُها الثانية التي تصوّرُ فيها نفسَها هي ” الوقت يطير” “Time Flies ” ، والتي رسمَتها في نفسِ سنةِ زواجِها من دييغو 1929. تُظهرُ هذه اللوحةُ تناقضاً كبيراً مع أوّلِ لوحاتِها والذي يتجلّى واضحاً في تخلّيها عن نمطِ عصرِ النهضةِ والنّظرةِ الأرستقراطيةِ الحزينةِ بردائِها المخمليِّ قاتمِ اللون. كما توظّف ارتداءَها للزّيِّ الفلكلوريّ المكسيكيّ لتعبيرِها عن عشقِها لجذورها. نرى أنّ الألوانَ المُستَخدَمةَ حيةٌ، صاخبةٌ ونابضةٌ بالحياة. أحمرُ، أبيضُ وأخضرُ هيَ ببساطةٍ ألوانُ العلم المكسيكيّ. ببساطةٍ أكثر إنّ لوحة “الوقت يطير” تُظهر فريدا التي أحبّها دييغو ورسَمها في جداريّاته. ومن هنا صعوداً تتّخذُ فريدا هذا النمطَ ليكونَ بصمتَها في حياتِها المهنيةِ كفنانةٍ تشكيلية.
تتميّزُ لوحاتُ فريدا بالعمومِ بتأثّرِها بأحداثٍ تراجيديةٍ مؤلمةٍ في حياتِها، جسديةٍ ونفسيةٍ من طفولتِها إلى صباها. يُضافُ إلى ذلك اتّسامَها بالازدواجيةِ بعدَ زواجِها. حيث نادراً ما نصادفُ لوحةً لا تتضمّن تفسيراً ازدواجيّاً إن كان نفسيّاً أو جسدياً، في علاقتِها مع نفسِها وفي علاقتِها مع دييغو والآخرين.
بعد زواجِها في 1929، سافرَت مع دييغو إلى سان فرانسيسكو حيثُ انشغلَ هو بجداريّتِه تاركاً لها في هذا البلدِ الغريبِ لتغرقَ في الملل. نتيجةً لذلك اقترحَ عليها أن ترسُم سلسلةً من اللوحاتِ تتعرّض فيها لأهمّ أحداثِ حياتِها لتهدئتها. ومن هنا نعود للبداية، إلى لحظةِ ولادتِها.
اعتمدت أسلوبَ (Ex-voto) في لوحةِ “ولادتي” – وهوَ أسلوبٌ مُتَّبعٌ في اللوحاتِ الدينيّة الكاثولوكيّة والتي أصبحت شائعةً في الثقافةِ الدينيّة المكسيكيّة في القرن التاسع عشر. عادةً ما تكونُ هذه اللوحاتُ صغيرةَ المقاسِ 8″ x 10″ ومرسومةً على معدنٍ أو خشب. وهي لوحاتٌ تُرسَم كوفاءٍ عن نَذرٍ أو كُشكرٍ لأحدِ القديسين لإنقاذِ حياةِ أحدِهم من خطرٍ مُحدقٍ به أو أذيّةٍ أو مرضٍ خطير.
تتضمّن لوحات (Ex-voto) ثلاثة عناصر:
1- مشهدٌ يصوّر مأساةً أو أحدَ المصابين بمرضٍ خطير
2- أحدُ القديسينَ أو الشهداءِ يتدخّل في الحدثِ ليُنقِذَ الموقف
3- كلامٌ منقوش يصفُ الحدث.
“هكذا أتخيلُ أنّي وِلدْتُ” تقول فريدا، وتُضيفُ مُعلّقةً في يومياتها أنّها ” أنجَبت نفسهَا في هذه اللوحة.” أجل، هذا الرأس المُخيف الذي يخرجُ من رحمِ أمّها هوَ رأسُ فريدا من غير شك. ولكن، قد يشيرُ هذا الجنينُ النصفُ مولودٌ الذي ينغمسُ ببركةٍ من الدّماءِ إلى ابنِها الذي توفّي قبل ولادتِه. كما أنّ رأسَ الأمّ في اللوحةِ مُغطىً وهذه إشارةٌ إلى وفاةِ أمِّها قبل رسمِ اللوحة بوقتٍ قريب. استبدلَت رأسَ أمِّها المغطى بلوحةٍ لرأسِ عذراءِ الأحزان تبكي وهيَ تنظرُ من أعلى السرير، معلَّقةً بخنجرين، غيرَ قادرةٍ على إنقاذِ الموقف. برغم أنّ اللوحةَ مرسومةً بأسلوب (Ex-voto) إلا أنَّ فريدا لم تعلّق بأيّ كلامٍ على ذيل اللوحة. ربّما لم تجد فريدا الكلمات التي تصفُ فاجعتَها بكلّ تلك الذكريات مجتمعةً، ذكرياتِ الحياةِ والموتِ معاً.
قد تكونُ فريدا متأثرةً بمنحوتةٍ من القرنِ السادس عشر لآلهةِ الأزتيك Tlazolteotl وهيَ تُنجبُ مقاتلاً راشداً.
من الجديرِ بالذكر أنّ هذه اللوحةَ هي جزءٌ من مجموعةِ لوحاتٍ لفريدا تمتلكُهم البوب ستار مادونّا حيث تَعتبر الأخيرة أنّ هذه اللوحةَ مقياسٌ لاختيار أصحابِها. “إذا لم تُعجب اللوحة أحدهم”، تقول مادونا “أعلمُ أنّه من غيرِ الممكن أن يكونَ صديقي.”
“فريدتان اثنتان”
لوحةٌ أخرى غنيةٌ بازدواجيّتها. رسمت هذه اللوحة بُعَيدَ طلاقِها من دييغو 1939 بسببِ خياناتِه المتكرّرة لها ومؤخراً مع أختها كريستينا وهذا ماسبّب انشقاق فريدا عن نفسها إلى فريدتين اثنتين. على اليمين، فريدا التي أحبها دييغو بزيّ تيهوانا المكسيكي، ممسكةً بيدِها بنقشٍ مرسومٌ عليه دييغو كطفل. على اليسارِ تُطلُّ علينا فريدا الأوروبية بفستانٍ فيكتوريٍّ أبيضَ، فريدا التي تخلّى عنها دييغو، حيث أنّ فريدا ألمانيةُ الأصلِ من طرفِ والدِها. يظهرُ قلباهنَّ عاريان، وهيَ تقنيةٌ اعتمدَتها فريدا لإظهارِ ألمِها. قلبُ فريدا غيرِ المحبوبةِ يظهرُ مكسوراً، بينما الآخرُ كاملاً. يبرزُ وريدٌ من النّقشِ بيدِ فريدا المكسيكيّةِ، ويصلُ القلبين سويةً وينتهي بيد فريدا اليسرى مقصوصاً بمقصٍ جراحيٍّ وتضيعُ قطراتِ الدماءِ مع الزهورِ الحمراءِ في حاشيةِ فستانِها الأبيض. تترافقُ السماءُ العاصفةُ في الخلف، المليئةُ بالغيومِ الهائجةِ مع نظراتِها الهادئةِ الحزينةِ بإشارةٍ إلى اضطرابِ فريدا الداخلي. كما تشيرُ يدُ فريدا الممسكةُ بيدِها نفسِها إلى أنّها لا رفيقَ لها في محنتِها هذه إلا نفسَها.
من المثيرِ للاهتمامِ أنّ دييغو أحبَّ فريدا بالزيِّ الشعبيّ البسيطِ الذي كانَ يُعدُّ موضةً قديمةً في ذلك العصر. بعد انفصالِهما تخلّت فريدا عن هذا اللباس كما قصّت شعرَها كفعلِ تمرّدٍ من قِبَلها كونَها ربطت هذا النّمط بدييغو.إلا أنه وبعد عودتِهما سويةً، “عادت حليمة لعادتها القديمة.”
بعد انفصالِهما تابعَ دييغو مغامراتِه الجنسيةِ وانغمستْ هي بعلاقاتٍ عدة. ولاقت أخيراً الإضافاتِ الجنسيةِ طريقَها إلى لوحاتِ فريدا. فقد بدأت بعد طلاقِها برسمِ الفاكهةِ مضمنةً إيّاها الكثيرَ من الإيحاءاتِ الجنسيّة، أحياناً تتطلّب الكثيرَ من الذكاءِ لإدراكِها، كما في لوحةِ “فواكه الأرض”. غالباً ما ترسُم الفواكهَ مفتوحةً أو مجروحةً كما ترسمُ جروحَ جسدِها في بورتريهاتِها. في البدء، كانت الخلفيةُ في اللوحة سماءً زرقاءَ ممّا أعطاها سمةَ الخصوبةِ والحياة، تلك التي افتقدتَها فريدا بعدما انكسرَ حوضَها في حادثِ سيرٍ بعمرِ السابعةِ عشر.وهذا ما يجعل اللوحةَ مليئةً بإشاراتٍ إلى حلقةِ الحياة والموت. لاحقاً، بعد 1950، أضافت إلى لوحاتِها أعلاماً، نقوشاً و حمامَ السّلام مُسيِّسةً بذلك أعمالها.
لوحة فواكه الأرض
الحلقةُ الأهمُّ عندَ مناقشةِ لوحاتِ فريدا هي السؤالُ الذي تبادرَ إلى ذهنِ الأغلبيةِ؛ هل لوحاتُ فريدا، إذاً، سُرياليةً؟ حقيقةً، رغم اتُّهامها بالسُّريالية، ترفضُ فريدا قولبةَ فنِّها وتعبئته تحتَ أيّ مسمىً، مؤكدةً أنها لا ترسمُ أحلامَها بل واقعَها.مع ذلك، شاركت فريدا في إحدى المراتِ بمعرضٍ للفنّ السُّريالي 1940 بأضخمِ لوحاتِها وكانت منهنّ “الفريدتان الاثنتان”.
لاحقاً، في 1952، صرّحت ” أكره السُّرياليةَ، بالنسبةِ لي تبدو تجلٍّ لانحطاطِ الفنِّ البرجوازيّ.” لكن في ذلك الوقت لم تكن تُعدّ السُّرياليةُ عصريةً.
نهايةً، برغم تأثرِ لوحاتِها بإحدى الفتراتِ بالنهضةِ الأوروبيّةِ كالكثير من الرسامين المكسيكيين في ذلك الحين، و تأثّرها بجداريات دييغو بشكلٍ كبيرٍ، وبرغم تصويرِها لنفسِها كامرأةٍ مكسيكية بالزّي المكسيكي الشعبي بطلبٍ من دييغو ، إلا أنَّها حاضرةً في لوحاتِها كصرخةٍ تمزّق بطريقِها وجودَهم كمؤثرين وتتفرّد بنمطِها الخاص.