الرئيسية | سرديات | غبار المعارك | حمدان عطية

غبار المعارك | حمدان عطية

حمدان عطية (مصر):

 

جمع عبد القادر كتب التاريخ من بداية الخليقة منذ تفتح وعى الإنسان، فقد تخرج من قسم التاريخ وغاص هناك في قراءة المعارك الكبيرة وشاهد الشلال المتدفق من الدم الهائل وهو يحتل الجهات الأربع، فحدث نفسه فلأتتبع هذا السيل علني أصل إلى سبب حقيقي.

أحيانا بغرفته الواسعة وسط مجلداته الضخمة يخرج له الإسكندر فيضحك ضحكا عاليا ويقول: إنه المجد!!عش أيامك القليلة ستتوه وتخرج لك الكوابيس المرعبة ولن تصل إلى شيء، ثم ينفتح الجدار ويخرج بحصانه الأدهم الرشيق يتبعه الفرسان، تكاد دقات حدواتهم تخرق أذن عبد القادر وتعمى عينيه.

من لفح الغبار ينفض عبد القادر مجلداته ويضع ما بيده ويخرج يتمشى قليلا أمام بيته ببغداد، يعرف أن بلاده تغوص عميقاً في الوحل، فالقتال على أشده في كل مكان، وكثيرا ما أتى على خاطره اقتناء سلاح والتدرب عليه لكنه يعنف نفسه: أأنا الذي أسهر الليل أتابع أسباب التناحر أقتنى سلاحا؟ً!وقد أُقتَل!

يسحب دخان سيجارته بشراهة وهو يقلب في مجلداته، لو مر هؤلاء الحمقى سيستحون من قتل رجل مسن أضحكه حين قرأ ؛ أنه من أسباب الحرب العالمية الأولى الدفاع عن شرف زوج مخدوع!! قامت الجيوش وتحركت الجماهير وسقط الملايين لهذا السبب التافه، راح يضحك ويضحك حتى دمعت عيناه وما إن مسحهما حتى انخرط في بكاء هستيري وسقط من فوق كرسيه وأغمض عينيه ونام.

عبر صهيل الخيول وأزيز الطائرات وصراخ النساء والأطفال والطلقة الطائشة التي أتته من رجل مُقنّع بغطاء أسود يحمل راية سوداء لا يستطيع قراءة ما عليها أودت به بعد أن مرت أختها بجواره ولم تصبه، تجحظ عيناه ويرى بالكاد أوراقه التي قطع في كتابتها عمرا تتطاير متربة كأنما قصفتها عاصفة مباغتة، تقلب عبد القادر فتزحزح كرسيه فسقطت مجلدات الحرب العالمية فاستيقظ فزعا يتفلّت بين جدران ضيقة!!

أسرع للخروج وغسل وجهه بالماء البارد ومشى في حديقة بيته خائر القوى نحيلا كالعائد من تجربة موت، تذكر فرويد وابن سيرين ودخل يبحث عن المجلدين لا يدرى من أي طبقة بالذاكرة خرجت عليه: (لا تقتلوا طفلا ولا شيخا ولا امرأة لا تجهزوا على جريح ولا تطاردوا مدبرا ولا تعتدوا على معبد أو عابد ولا تقطعوا شجرة)!

ود عبد القادر لو يضع هذا القول الجليل على لوحة مضيئة ويعلقها على عربة ويقطع بها العراق جيئة وذهابا ينادى يا أصحاب الرايات السوداء كفوا عن القتل، ابحثوا عن الفحيح الصامت وسطكم وامنعوه؛ لكنه تدارك نفسه.. مَنْ يحمِ عربة بنداء وسط المعارك تحميها قوتها، بهاءها، رحمتها؟!

هذا دورك يا عبد القادر لو فعلت؛تكون وفيا لسنين البحث،ملأت الفكرة خياله وشاهد: لا تقتلوا شيخا خلف الأضواء الخضراء بالخط الكوفي زاهيةً، فنهض لفوره ورص الصفحات بجوار بعضها وسحب القلم ذا الريشة العريضة وكتبها وعلى اللوح الخشبي ثبتها ومن فرحته تخيل المقاتلين وهم يقفون لها إجلالا واحتراما، تمر بمخيلتهم أخلاق الفرسان العظام ونبلهم العالي حتى أن أحدهم رمى بسلاحه وخلع ملابس القتال وانضم للفلاحين بالحقول وهم يغبطونه وهو يحكى لهم شعوره حين قرأها.

هدأت روح عبد القادر وأيقن أن سنين بحثه لم تضع هدرا وستوقف طريقته العملية القتال المستعر، وضع لوحته على مدخل بيته وتناول طعامه على أمل أن ينهض في الصباح ليقطع البلاد طولا وعرضا، وما إن أغلق بابه حتى سمع صوت الانفجارات آتيا من بعيد والغروب يغطى الأفق بالحزن.

تمتم بكلمات غير مسموعة واقتربت الانفجارات تتبعها زخات رصاص، فكر في فتح النافذة، لكنه خاف، جلس بجوار مجلداته الملقاة على الأرض وضحك حين تذكر منشّة القائد الجزائري التي أخذها الفرنسيون ذريعة لاحتلال الجزائر، وعلى الفور جاءته نصيحة الإسكندر فوجم وقال: لنفسه إن اقتحموا بيتي سيجدونها أمام البيت وقد ترتعش أيديهم وتسقط مدافعهم، وكان المقاتلون يقتربون أكثر وهم جوعى ونفد ماؤهم وهجموا على بيته بطلقات متتالية في مدخله، وانطلق أحدهم يصيح داخل البيت تسبقه الزخات خشية اختباء مهاجمين ونال عبدَ القادر رصاصا يكفى لقتل كتيبة وتفتتت لوحته وطارت مع غبار المعارك!!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.